إنها واحدة من أبرد الأماكن النائية وأكثرها قسوة على هذا الكوكب، كان مناخها القاسي ودرجات الحرارة المعادية لحياة الإنسان منذ فترة طويلة بمثابة عائق طبيعي أمام التنمية والاستغلال، لكن يبدو أن هذا الأمر بدأ يتغير بسرعة.
الآن، هذه البرية النائية الواقعة في القطب الشمالي لم تعد كما كانت منذ عقود، فقد أدَّت التأثيرات الكارثية الناجمة عن الاحتباس الحراري العالمي إلى إذابة القمم الجليدية القطبية، وأصبح الوصول إلى الموارد، التي تبلغ قيمتها عشرات التريليونات من الدولارات، في متناول الروس أكثر من غيرهم.
وتتنافس القوى العظمى في العالم للسيطرة على هذه الموارد، وفي غفلة من الصراع على المياه الدافئة، وحيث العيون شاخصة إلى الحرب في أوكرانيا التي دخلت عامها الثالث، يعقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحالفا مع الثلج، ويستثمر في مصائب المناخ التي يرى أنها ستعيد تشكيل سياسات بلاده واقتصادها ومجتمعها لعقود قادمة.
كنوز القطب الشمالي المتجمدة
كانت السيطرة على موارد القطب الشمالي الغنية وقيمتها الإستراتيجية طموحا للقادة السوفيات والروس منذ فترة طويلة، ولا يختلف بوتين عن ذلك، فهو يطمح إلى جعل القطب الشمالي ركيزة عودة روسيا إلى القوة العظمى، والآن أصبحت هذه الطموحات حقيقة.
اعترف بوتين بذلك في حديثه خلال منتدى القطب الشمالي في مدينة أرخانجيلسك بشمال روسيا في أبريل/نيسان 2017، قائلاً: إن ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي مفيدان لاستخدام المنطقة للأغراض الاقتصادية.
قبل ذلك بعقد من الزمان، وفي عام 2007 تحديدا، وضع الغواصون عَلما روسيًا في قاع القطب المتجمد الشمالي مقابل علم أميركي لا يزال يرفرف على القطب الجنوبي، وذلك في محاولة لإثبات ملكية موسكو لما يقرب من مليون كيلومتر مربع من منطقة مترامية الأطراف غنية بالثروات المعدنية.
فعلت روسيا ذلك في وقت تحوّل فيه تغير المناخ في جميع أنحاء العالم إلى أزمة تاريخية، وشكَّل الاحتباس الحراري مخاطر جسيمة. وعلى الصعيد العالمي، يعد ارتفاع درجة حرارة المناخ كارثة تهدد الأرواح وسبل العيش بالفيضانات والتصحر والحرائق والجفاف، مما يهدد بجعل مناطق شاسعة أقل صلاحية للسكن، ويؤدي إلى أكبر هجرة للاجئين في التاريخ، ويتطلب جهودا وإنفاقا هائلا لمكافحتها.
لا تختلف العواقب بالنسبة لروسيا، حيث ترتفع درجة الحرارة بمعدل 2.5 مرة أسرع من بقية العالم، وفي عام 2020 شهدت مناطق في جميع أنحاء روسيا أعلى درجات الحرارة على الإطلاق، مما ساهم في حرائق الغابات في مساحة تعادل مساحة اليونان، ونتج عنها ثلث كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مقارنة بعام 2019.
وتؤدي دورات التجميد والذوبان الأكثر دراماتيكية إلى تآكل البنية التحتية الحضرية في مدن القطب الشمالي الروسية التي يسكنها أكثر من مليوني شخص، وتشكل خطرا متزايدا على خطوط أنابيب النفط والغاز الروسية التي يبلغ طولها 200 ألف كيلومتر، ناهيك عن آلاف الأميال من الطرق وخطوط السكك الحديد التي تربط بعضا من أوسع أنهار روسيا.
وقد يؤدي هذا إلى إطلاق كارثي محتمل للكربون في الغلاف الجوي، وهو ما لن يمثل مشكلة روسيا وحدها بعد الآن. فوفقا لإحدى الدراسات، فإن الانخفاض بنسبة 30 إلى 99% في التربة الصقيعية التي تغطي ما يقرب من ثلثي الأراضي الروسية، من شأنه أن يضع الكرة الأرضية “على حافة الهاوية” بحلول نهاية القرن.
ومن المتوقع أن تؤدي التحولات الجذرية في أنماط الطقس العالمية -والتي تسارعت بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه القطب الشمالي وتقلُّص الغطاء الجليدي- إلى زيادة حالات الجفاف في مناطق “سلة الخبز” الزراعية الغنية بجنوب روسيا، وهذا يمكن أن يشكل مخاطر على الأمن الغذائي العالمي، ويهدد الصادرات الروسية الأساسية مثل القمح.
ومن الممكن أن تؤدي زيادة حالات الجفاف والفيضانات وحرائق الغابات وأضرار التربة الصقيعية والأمراض إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% سنويا في العقد المقبل، وفقا لغرفة الحسابات في الاتحاد الروسي.
وقد تكلف الأضرار المناخية التي تلحق بالمباني والبنية التحتية وحدها روسيا ما يصل إلى 9 تريليونات روبل (99 مليار دولار) بحلول عام 2050، وذلك وفقا لنائب وزير تنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي الروسي ألكسندر كروتيكوف.
ويحذر العلماء من أن الحد من ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية إلى أقل من درجتين مئويتين قد لا يمنع الجليد البحري في القطب الشمالي من الاختفاء في فصول الصيف هذا القرن حتى لو حققت الحكومات هدفا أساسيا للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري حددته في عام 2015.
لكن بالنسبة لعدد قليل من الدول، سيمثل تغير المناخ فرصة لا مثيل لها، حيث تصبح المناطق الأكثر برودة على كوكب الأرض أكثر اعتدالاً، وقد لا تكون أي دولة في وضع أفضل للاستفادة من تغير المناخ من روسيا.
وهناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن هذه الأماكن سوف تستقبل أيضا تدفقا غير عادي من النازحين من المناطق الأكثر حرارة في العالم مع ارتفاع حرارة المناخ.
ويمكن القول إن التهديد الذي يواجه الاقتصاد الروسي نتيجة لتغير المناخ، من الممكن أن يكون أيضا بمثابة تذكرة إلى الرخاء والازدهار، لا سيما مع انخفاض الجليد البحري في الصيف بمعدل يقارب 13% على مدى السنوات الـ40 الماضية، وارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي الآن بمعدل أسرع بنحو أربع مرات من المتوسط العالمي، وفقدان المحيط القطبي ما يقرب من مليون ميل مربع من الجليد.
وفي عام 2020، قال باحثون في المركز الوطني لبيانات الثلج والجليد، ومقره كولورادو: إن الحد الأدنى من الكتلة الجليدية الصيفية في المحيط الشمالي المتجمد يقل بنحو الثلث عن المتوسط في الثمانينيات عندما بدأ الرصد، ومن المتوقع أن يصبح خاليا من الجليد الصيفي بحلول منتصف القرن تقريبا.
فوق وتحت هذا الجليد الشاسع ثروات لا حصر لها ترقد في سُبات عظيم؛ ذهبٌ ومعادن مكتشفة مثل النيكل والبلاتين والبلاديوم والمعادن الأرضية النادرة الموجودة بقيمة تريلوني دولار على طول الشريط الساحلي لروسيا بمحاذاة القطب.
وبالتأكيد ثمة رواسب هائلة من النفط والغاز الطبيعي في الأعماق تُقدَّر قيمتها بـ30 تريليون دولار، مما يعني أن القطب الشمالي يستحق القتال من أجله بشكل متزايد.
هناك أيضا كم هائل من الأسماك التي تعيش في مياه القطب الشمالي الغنية بالعوالق، وتكفي لإطعام الأعداد المتزايدة من السكان، وأنواع من الوقود الأحفوري في متناول اليد في عصر تتضاءل فيه الاحتياطيات مع استمرار الصناعة العالمية في الاعتماد على الطرق القديمة لإنتاج الطاقة.
وتختلف التقديرات، لكن ما يقرب من 16% من النفط غير المستغل في العالم و30% من الغاز غير المكتشف في العالم مدفونة تحت المحيط.
من ناحية أخرى، يشكل اعتماد روسيا المفرط على إنتاج النفط والغاز نقطة ضعف واضحة مع تحول العالم نحو مصادر الطاقة المنخفضة الكربون والحياد الكربوني، وقد يعمل الغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي كجسر لروسيا نحو مستقبل منخفض الكربون، ولكن من المتوقع أن يشهد الطلب العالمي على الغاز انخفاضا حادا بحلول منتصف هذا القرن.
وبحسب وثيقة “إستراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي للاتحاد الروسي وتوفير الأمن القومي للفترة حتى عام 2035″، فإن هذه المنطقة التي تطالب بها روسيا في القطب الشمالي تحتوي على أكثر من 17.3 مليار طن نفط، و85.1 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، لكنْ لهذا الغاز ومليارات البراميل من النفط قصة صراع مؤجل بين 8 دول تتقاسم السيطرة على رقعة المحيط.
من بين تلك الدول الثماني، تطالب 5 منها ببعض الغطاء الجليدي القطبي باعتباره ملكهم، ولكن الكثير من هذه المطالبات تتداخل، وأكبر نقطة خلاف تتمحور حول جبل تحت الماء في النطاق المعروف باسم “ليونوس ريدج”، والذي تقول كل من كندا والدانمارك وروسيا إنه ملكهم الشرعي.
وتحتل موسكو مقعد القيادة بقوة للسيطرة على هذه الموارد، فهي تمتلك حاليا ما يقرب من نصف الأراضي القطبية و24 ألف كيلومتر من الخط الساحلي، وقد سمحت هذه الهيمنة الإقليمية لروسيا بتوسيع جيشها بشكل كبير في المنطقة على مدى السنوات الماضية.
طريق الحرير القطبي الجديد
على الرغم من أن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ربما تتسابق لتجنب التأثيرات الكارثية المحتملة لتغير المناخ، فإن اقتصاديات الاحتباس الحراري العالمي تلعب دورها بشكل مختلف في روسيا.
فعلى سبيل المثال، في بيفيك -وهي مدينة ساحلية صغيرة تقع على المحيط المتجمد الشمالي في أقصى شمال روسيا تستفيد من طفرة الشحن البحري في القطب الشمالي- يُنظر إلى المناخ الدافئ على أنه منحة.
وقبل أن يفتح ارتفاع درجات الحرارة آفاقا اقتصادية جديدة، كانت المدينة والمجتمعات التابعة لها مهجورة في الغالب، وواحدة من العديد من المواقع الاستيطانية الجليدية الراكدة للإمبراطورية السوفياتية، وانخفض فيها عدد السكان من نحو 25 ألفا إلى نحو 3 آلاف في العهد السوفياتي.
ولكن مع الاحتباس الحراري العالمي دارت عجلة الحظ، وارتفع عدد السكان بنحو 1500 نسمة، الأمر الذي أثبت -على الأقل في جيب واحد صغير- إستراتيجية الكرملين في التكيف مع التغيير، وذلك عبر الإنفاق حيثما دعت الحاجة وتحقيق الربح حيثما أمكن.
وتتوسع الأراضي الصالحة للزراعة، ويقوم المزارعون بزراعة الذرة في أجزاء من سيبيريا حيث لم تنم من قبل، وتنخفض فواتير التدفئة في فصل الشتاء، وعثر الصيادون الروس على كمية متواضعة من سمك البلوق في المناطق المُذابة في المحيط المتجمد الشمالي قرب ألاسكا.
إحدى الفوائد التي لم يشعر بها سكان بيفيك الشعور بأن المناخ يسخن بالفعل، فبالنسبة لهم يبدو الطقس باردا وبائسا كما كان دائما، على الرغم من أن متوسط درجة الحرارة أصبح أكثر دفئا بمقدار 2.1 درجة فهرنهايتية عما كان عليه قبل 20 عاما.
ولا تبدو التوقعات في أي مكان أكثر إشراقا مما هي عليه في أقصى شمال روسيا، حيث فتحت درجات الحرارة المرتفعة بسرعة مجموعة واسعة من الإمكانيات الجديدة، مثل مشاريع التعدين والطاقة.
انحسار جليد القطب الشمالي جعل الشحن التجاري في الممرات الشمالية الغربية والشمالية الشرقية في قبضة الدب الروسي، فلم تعد الناقلات وسفن الشحن القادمة من الشرق وجنوب شرق آسيا بحاجة إلى كاسحات جليد تشق لها طريقها إلى أوروبا عبر طريق الحرير الأبيض.
لتوضيح مدى أهمية هذه الممرات الجديدة، فكِّر في الطريق التقليدي من روتردام في هولندا إلى شنغهاي في الصين، ففي أوائل القرن التاسع عشر كان على السفينة أن تسافر حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، أي أن المسافة تبلغ نحو 26 ألف كيلومتر، وبمجرد افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869 أصبح من الممكن تجنّب الرحلة الطويلة والشاقة حول أفريقيا، وأصبحت الرحلة نفسها أقصر بنسبة 23%.
وعبر القطب الشمالي الروسي، هناك ائتلاف تجاري من الشركات التي تدعمها الحكومة لروسية من خلال خطة لاستثمار 735 مليار روبل (نحو 10 مليارات دولار) على مدى خمس سنوات لتطوير الممر الشمالي الشرقي، وهو ممر ملاحي بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي يسميه الروس “طريق بحر الشمال”، ويخططون لجذب الشحن بين آسيا وأوروبا الذي يعبر الآن قناة السويس، ولتمكين مشاريع التعدين والغاز الطبيعي والسياحة.
كلما انحسر الجليد في القطب الشمالي أصبحت هذه الأفكار التجارية أكثر منطقية، فهذا الممر الملاحي مثلا من شأنه أن يختصر 24% إضافية عبر طريق بحر الشمال خلال رحلة من بوسان في كوريا الجنوبية إلى أمستردام، وهو ما يوفر بشكل كبير في الوقت وتكاليف الوقود، مما يجعله ممرا مائيا ذا أهمية إستراتيجية.
وعلى الرغم من أن حركة المرور منخفضة في الوقت الحاضر فإنه في المستقبل القريب ستتمكن السفن من الإبحار في هذا الطريق دون مساعدة كاسحات الجليد، وستسمح البحار الخالية من الجليد الأكثر دفئا بمرور أعداد كبيرة من السفن التجارية بأمان.
لم يسبق لهذا الطريق التجاري المحيطي المليء بالمفارقات والمهم إستراتيجيا أن سلكته أي دولة من قبل، والآن تشدد روسيا قبضتها عليه، وتطلق عليه الصين “طريق الحرير القطبي”، ويلخص طموحاتها في أقصى الشمال، ويمتد من مضيق بيرنغ في الشرق إلى بوابة كارا في الغرب، ويغطي نحو 5600 كيلومتر، ويستخدمه أغلبية المجتمع الدولي كممر دولي، لكن روسيا تعتبره ممرا مائيا داخليا خاصا بها.
وقد سلَّم الكرملين الشركة النووية الحكومية الروسية “روس آتوم” التي تنسق الاستثمار في خط الشحن، الإشراف على هذا المسار، وقام بتقييد حركة مرور السفن الحربية الأجنبية دون إخطار مدته 45 يوما وإذن صريح من الحكومة الروسية.
كانت البداية في عام 2017، عندما سافرت ناقلة نفط روسية عبر القطب الشمالي دون الحاجة إلى كاسحة جليد، وقطعت رحلة بين آسيا وأوروبا في 19 يوما فقط، أي أقل بكثير من الـ48 يوما التي تستغرقها السفن عادة للانتقال من الصين إلى أكبر ميناء في أوروبا في روتردام.
يذيب المناخ الدافئ القمم الجليدية، ويجعل هذه الرقعة من المحيط متاحة لأول مرة في تاريخ البشرية، مما يسهّل نقل الوقود الأحفوري الذي تسبب بذوبان الجليد في المقام الأول. ومع فقدان المزيد من الغطاء الجليدي، سيكون هذا الطريق العابر للقطب متاحا بشكل أكبر خلال المزيد من الأشهر بدلا من شهرين فقط في السنة.
وارتفعت حركة السفن في القطب الشمالي الروسي بنحو 50% في عام 2020، رغم أنها لا تزال تمثل 3% فقط من حركة المرور عبر قناة السويس، لكن تجربة التشغيل في فبراير/ شباط 2021 باستخدام سفينة تجارية معززة بشكل خاص قدمت دليلا على أنه يمكن عبور الممر في فصل الشتاء، لذلك من المتوقع أن ترتفع حركة المرور بشكل حاد عندما يُفتح الطريق على مدار العام، حسبما قال يوري تروتنيف نائب رئيس الوزراء لوسائل الإعلام الروسية.
اقتصاديات تغير المناخ
تدر طرق الشحن الجديدة في القطب الشمالي أرباحا على المدن المزدهرة التي ستنشأ على طول هذه الممرات البحرية الجديدة. ومع زيادة التركيز على هذه الطرق الجديدة، سيتراجع البعض الآخر.
ويُتوقع أن تتضاءل حركة مرور عبر قناة السويس ومضيق ملقا في إندونيسيا، وعلى الرغم من أنه ما زال مهما، فإنه لن يُعد الممر البحري الرئيسي الوحيد للصين مع تشغيل الطرق الجديدة القابلة للتطبيق من وإلى البلاد.
وبالنسبة لروسيا، من المحتمل أن يكون ميناء ميغابورت العملاق الذي تبلغ كلفته 110 مليارات دولار في شبه جزيرة تايميار هو الشيء الأكثر إثارة للإعجاب الذي تبنيه روسيا في الوقت الحالي.
يُطلق عليه أكبر مشروع في صناعة النفط العالمية الحديثة، وسيضم أكبر محطة نفط في القطب الشمالي في البلاد، وهو ضخم وبعيد جدا لدرجة أن شركة النفط الروسية المملوكة للدولة “روسنفت” سيتعين عليها أولا بناء البنية التحتية اللازمة فقط للوصول إلى الطرق السريعة الجديدة في الموقع.
وسيتم تجهيز مطارين عملاقين جديدين، وتشييد آلاف الكيلومترات من الطرق السريعة وأنابيب النفط، و15 قرية، والعديد من محطات الكهرباء في جميع أنحاء المنطقة؛ لبدء أعمال البناء وإيواء 400 ألف عامل لتحقيق كل ذلك.
وحتى الآن، شُحن ما يزيد على 18 ألف طن من الآلات الثقيلة ومعدات الاتصالات إلى الموقع، وتقوم موسكو أيضا ببناء خط أنابيب بطول 770 كيلومترا لنقل النفط إلى الميناء حيث ستنقله 10 حاويات من النوع الجليدي إلى بقية الطرق إلى أوروبا وآسيا.
وانطلاقا من مدينة مورمانسك في أقصى الغرب الروسي إلى فلاديفوستوك، أمر بوتين بتركيب ألياف ضوئية بقيمة 889 مليون دولار يطلق عليها اسم “بولار إكسبريس”، وهو كابل يمتد بطول 12600 كيلومتر لتحسين اتصالات الإنترنت والهاتف لـ2.5 مليون شخص يعيشون في أقصى شمال روسيا، أي ما يقرب من نصف سكان القطب الشمالي بأكمله.
وهذا الميناء الضخم ليس سوى جزء واحد من مخطط تنمية أكبر في المنطقة، فقد شرعت روسيا بتطوير 4 مطارات (مطار أمديرما في الغرب وبيفيك وتشيرسكي وكيبيرفييم في الشرق) على طول الساحل الأبيض، كما تنال السكك الحديد الطويلة نصيبا وافرا من التطوير.
وتتدفق الأموال على مشاريع القطب الشمالي، حيث تعمل شركة “روس آتوم” الروسية جنبا إلى جنب مع شركة موانئ دبي العالمية -ومقرها الإمارات- على تطوير موانئ جديدة في مومانسك وفلاديفوستوك، وتصميم أسطول من سفن الحاويات الجليدية ذوات هياكل معززة خصيصا للإبحار في البحار الجليدية.
كما أن ذوبان المحيطات جعل مشاريع النفط والغاز الطبيعي والتعدين أكثر ربحية، مما قلل من تكاليف شحن الإمدادات والمنتجات إلى الخارج. فالمشروع المشترك الذي تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات بين شركة نوفاتيك الروسية وتوتال الفرنسية وشركة النفط الوطنية الصينية ومستثمرين آخرين؛ يصدِّر نحو 5% من إجمالي الغاز الطبيعي المسال الذي يُتداول عالميا عبر المحيط المتجمد الشمالي الذي يذوب.
وبشكل عام، يقول المحللون إن ما لا يقل عن 6 شركات روسية كبيرة تعمل في مجالات الطاقة والشحن والتعدين ستستفيد من ظاهرة الاحتباس الحراري.
وتتمثل الفكرة في زيادة التنمية الاقتصادية الروسية بشكل كبير على طول طريق بحر الشمال على مدار الخمسة عشر عاما القادمة، مما يؤدي بشكل أساسي إلى فتح المنطقة كبديل لقناة السويس لشحن البضائع بين أوروبا وآسيا خاصة خلال أشهر الصيف عندما يختفي الجليد الذي يغطي البحر تماما.
وبحلول عام 2035، تهدف روسيا إلى زيادة تدفق البضائع عبر المنطقة بما لا يقل عن 72 مليون طن، وهي في طريقها لتحقيق ذلك، ففي عام 2018 وحده زادت حركة المرور بنسبة 80% عن العام السابق لتصل إلى 16 مليون طن، وفي عام 2019 ارتفع الرقم إلى 23 مليونا.
أزمات المناخ.. بين الاستثمار والعسكرة
تنظر روسيا إلى القطب الشمالي وكأنه كعكة، حيث تُقسم شرائحها وفقا للخط الساحلي المحيط بها، وهي بالتأكيد المتلقي الأكبر على الإطلاق. وتتعقد هذه الفكرة بسبب حقيقة أن القطب الشمالي ليس بالشكل المثالي، ويتكون من مطالبات متنافسة وحدود طويلة ومياه دولية، كما أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ليست واضحة بشأن من يملك ماذا.
أدركت روسيا -أكبر دولة في العالم والتي تمتد عبر 11 منطقة زمنية- أن ذوبان الجليد يعني الآن أن أطول حدود لها والتي تقع فوق الدائرة القطبية الشمالية؛ أصبحت مكشوفة، وأدَّت هذه الثغرة الأمنية الجديدة إلى إعادة تنظيم التفكير العسكري الروسي، وإجراء توسع كبير في أصولها في القطب الشمالي.
بنى بوتين العشرات من القواعد العسكرية هناك، وضخ المليارات في طريق شحن جديد يأمل أن ينافس في يوم من الأيام قناة السويس المصرية، وطالب بسلسلة جبال تحت الماء يمكن أن تحتوي على موارد هائلة غير مستغلة.
ومنذ عام 2005، أعيد فتح ما لا يقل عن 50 قاعدة عسكرية تعود إلى الحقبة السوفياتية، بما في ذلك 13 قاعدة جوية و10 محطات رادار و20 موقعا حدوديا.
كما قامت روسيا بتحديث أسطولها الشمالي الذي يتضمن تحديث عدد غواصاتها القادرة على إطلاق أسلحة نووية بعيدة المدى، وتطوير صواريخ جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت مصمَّمة للهروب من أجهزة الاستشعار والدفاعات الأميركية.
وتمتلك روسيا أكبر عدد من القوات المتمركزة في المنطقة، وتُجري بشكل روتيني تدريبات تكتيكية في القطب الشمالي، ولديها أكبر أسطول لكاسحات الجليد في العالم يفوق بشكل كبير عدد السفن التابعة لدول حلف شمال الأطلسي الأخرى، ويفوق عدد القواعد الروسية في الدائرة القطبية الشمالية عدد قواعد حلف شمال الأطلسي بنسبة 3 إلى 1.
ويقدر بعض الخبراء أن الأمر سيستغرق الدول الغربية ما لا يقل عن 10 سنوات للحاق بالجيش الروسي في المنطقة، وهذا التفاوت يشكل مشكلة كبيرة بالنسبة لحلف شمال الأطلسي، لأنه يسمح لروسيا بتعطيل الخطوط البحرية الحيوية بين أميركا الشمالية وأوروبا بشدة.
بنت روسيا وتبنت محطات طاقة نووية عائمة تضعها في الخدمة تباعا لتأمين الكهرباء والتدفئة إلى جميع المناطق، ناهيك عن إطلاق قمر صناعي لمراقبة حركة تدفق السفن.
وتتوسع السفن التي تبنيها روسيا، وتجهز أسطولا جديدا من 40 سفينة قطبية جديدة على الأقل تتضمن ناقلات نفط و16 سفينة إنقاذ ودعم، و8 كاسحات جليد تعمل بالطاقة النووية، مما يعني في الأساس أنها تستطيع اختراق الجليد القطبي السميك للغاية وإنشاء مسار يمكن للسفن التجارية أن تتبعه بعد ذلك.
وكجزء من هذا، ستقوم الصين ببناء العديد من الأرصفة الصينية عبر شمال روسيا في الموانئ غير القادرة على التعامل مع كميات هائلة من الشحن، وأيضا بناء عدد من خطوط السكك الحديد الجديدة لخدمة هذه الموانئ، وإنشاء خط بطول 500 كيلومتر لربط بيرم في جبال الأورل بالعديد من مدن الموانئ الشمالية.
وعلى الرغم من أن تكاليف هذا المشروع تبدو هائلة، فإنها تتضاءل مقارنة مع الأرباح التي من المقرر أن تحققها، فبمجرد تشغيله بكامل طاقته فإنه سينتج 25 مليون طن من النفط بحلول عام 2025 و100 مليار طن بحلول عام 2030.
هذا العمل المهول في كلفته وضخامته ومستقبله الذي سيغير دون شك مستقبل روسيا والعالم؛ يسلط الضوء على طموحات بوتين للسيطرة على القطب الشمالي، ويضع التوسع الإقليمي لروسيا تحت التركيز بشكل أكثر حدة، ويثير قلق العديد من الدول وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي استنفرت وحذرت روسيا مبكرا من المضي قدما في هذه المشاريع، مذكرة إياها بأن طريق بحر الشمال والممر الشمالي الغربي يُستخدمان كممران للملاحة الدولية ولا يخضعان لسيطرة موسكو حصريا رغم وقوع جزء كبير من هذا الطريق ضمن المنطقة الاقتصادية الروسية الخالصة بحسب القوانين الدولية.
حتى قبل أن يغير الغزو الروسي لأوكرانيا الحسابات الإستراتيجية للغرب، كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 قد أثار قلق جيرانها بشكل متزايد، مما أظهر لهم أنه عندما تعتقد روسيا أن لديها قضية قوية بما فيه الكفاية فإنها لن تتردد في استخدام القوة العسكرية من أجل تحقيق أهدافها متحدية الأعراف الدولية.
تناقضات روسيا.. مع أم ضد تغير المناخ؟
تؤكد روسيا دائما أن موانئ النفط الكبرى الجديدة ستكون صديقة للبيئة، ولها بصمة هيدروكربونية صغيرة جدا، وبحسب ما ورد ستُشغل المنشآت النفطية بواسطة توربينات الرياح، لكن بناء بنية تحتية نفطية جديدة ليس حقا ما يحتاجه العالم في الوقت الحالي.
ويخشى الناشطون في مجال البيئة أن الشحن التجاري في القطب الشمالي -وهو أمر ممكن لأن تغير المناخ أدى إلى تقلص الجليد بشكل مطرد في العقود الأخيرة- سيسمح باستغلال المنطقة التي كانت حتى الآن بِكرا، ويفتح المنطقة أمام المزيد من الشحن والتنقيب عن النفط والغاز.
وقامت العديد من المجموعات البيئية بحملة ضد هذه المشاريع، حيث تقع أجزاء من حقول النفط داخل محمية طبيعية، ويمكن أن يؤدي البناء إلى الإضرار بالحياة البرية في القطب الشمالي هناك، ويُلحق الضرر بسبل عيش السكان الأصليين والحياة البرية مثل الدببة القطبية التي يمثل الجليد البحري في القطب الشمالي المنصة الحيوية لصيد الفقمات بالنسبة لها.
ومع ذلك، نفى بوتين مرارا وتكرارا الإجماع العلمي على أن تغير المناخ ناجم في المقام الأول عن الانبعاثات الناجمة عن النشاط البشري، وفي مناسبات عديدة ألقى باللوم على بعض “العمليات في الكون”، وأعرب عن شكوكه بشأن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، معربا عن انزعاجه من مخاطر التوربينات على الطيور والديدان.
وتعد روسيا بالفعل رابع أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري في العالم، حيث تمثل 4.6% من إجمالي الانبعاثات العالمية، ويعد نصيب الفرد من الانبعاثات فيها من بين أعلى المعدلات في العالم، فهو أعلى بنسبة 53% من الصين، وأعلى بنسبة 79% من الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن روسيا تتمتع بإمكانات هائلة كمصدر للطاقة المتجددة، فإن حصة مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة في روسيا لا تُذكر (أقل من 0.1% لطاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية)، ولا توجد خطط واضحة للاستثمار بشكل كبير في نموها.
وتبدو سياسة الكرملين في التعامل مع تغير المناخ متناقضة، فهي ليست قضية مهمة في السياسة الداخلية، لكن من منطلق إدراكه الدائم لصورة روسيا العالمية، صدَّق بوتين على اتفاقيات باريس في عام 2019، وتعهد لأول مرة بأن روسيا -المنتج الهائل للوقود الأحفوري- ستصل إلى صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2060 على الرغم من أنها لم توافق بعد على التخلص التدريجي من انبعاثات الفحم والميثان خلال العقد المقبل.
نظريا، انضمت روسيا إلى المعركة العالمية ضد تغير المناخ، ولكنها عازمة أيضا على تحقيق أقصى استفادة من الفوائد الاقتصادية الناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وخاصة في مناطق مثل بحر سيبيريا الشرقي.
ويبدو أن النهج الروسي يتلخص في الممارسة العملية في الآتي: رغم أن تغير المناخ قد يشكل تهديدا هائلا للمستقبل، ونرى جليدا أقل فأقل في القطب الشمالي مع تقدمنا خلال القرن الحادي والعشرين، فلماذا لا نستفيد من الفرص التجارية التي يوفرها في الوقت الحاضر؟