قديما قال سقراط “تكلم حتى أراك”، وكان يقصد بذلك أن ما بداخل الإنسان من أفكار ومعارف يمكن أن يظهر في أسلوب كلامه. وأحد جوانب أهمية هذه الفكرة تَظهر إذا تمكّنا عبر الكلام من أن ننقذ روح إنسان حياتُه مهددة، فالكلام قد يكون كاشفا عن الميول الانتحارية قبل أن تتطور إلى فعل حقيقي.
ويعد الكلام مفتاحا لفهم الحالة العقلية والعاطفية للأشخاص، لذلك يتدرب مستشارو الخطوط الساخنة لمكافحة الانتحار على التقاط الميول الانتحارية من أصوات المتصلين، ومن ثم مساعدتهم بشكل أفضل يضمن عدم تطور تلك الميول إلى فعل حقيقي.
ولكن كما لا يوجد نظام مثالي، هناك مجال للخطأ في تفسير كلام المتصلين، لذلك سعى فريق بحثي من جامعة “كيبيك” الكندية إلى مساعدة مستشاري الخط الساخن على تقييم حالة المتصل بشكل صحيح عبر تطوير نموذج للتعرف على عواطف الكلام باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وذلك عن طريق فك شفرة الموجات الصوتية في أصوات المتصلين، بما يمكن أن يساعد على تحسين الأداء في منع الانتحار.
وتلتقط الموجات الصوتية التغيرات في ضغط الهواء الناتجة عن اهتزازات الحبال الصوتية، وتعكس الخصائص الصوتية للكلام بما في ذلك طبقة الصوت والشدة والمدة.
وتشير الأبحاث إلى أن أنماطا معينة في الكلام -مثل معدل الكلام وتباين درجة الصوت والتوقف المؤقت- قد تكون مؤشرا على حالات الصحة العقلية الأساسية، بما في ذلك الاكتئاب والتفكير في الانتحار. ويمكن أن يوفر تحليل الشكل الموجي بواسطة نموذج الذكاء الاصطناعي نظرة ثاقبة لهذه الأنماط، مما يساعد في الكشف المبكر والتدخل، وذلك وفق الدراسة التي عرضها الباحثون مؤخرا في المؤتمر الدولي الثامن عشر للحوسبة الدلالية الذي ينظمه معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات بأميركا.
ماذا فعل الباحثون؟
ويشرح تقرير نشره الموقع الإلكتروني لجامعة “كيبيك”، الخطوات التي قطعها الباحثون وصولا إلى تطبيق النموذج القائم على الذكاء الاصطناعي لمنع حالات الانتحار، وكانت على النحو الآتي:
- جمع البيانات: جمع الباحثون مجموعتين رئيسيتين من البيانات هما:
الأولى: مكالمات فعلية أجريت على الخطوط الساخنة الخاصة بالانتحار، مع تقديم أمثلة واقعية لمتصلين يعبّرون عن حالات عاطفية مختلفة.
الثانية: تسجيلات من ممثلين يصورون مشاعر محددة، مما يزيد من حجم البيانات بمجموعة متنوعة من التعبيرات العاطفية. - شرح البيانات: قُسم كل تسجيل إلى أجزاء أصغر، وعلق الباحثون أو الممثلون المدربون على كل مقطع للإشارة إلى الحالة العاطفية المحددة التي يعبر عنها، مثل القلق أو الحزن أو الغضب أو الحياد.
- تطوير النموذج: باستخدام هذه البيانات طور الباحثون نموذجا للتعلّم العميق والتعرف على عواطف الكلام باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وصُمم هذا النموذج للتعرف على المشاعر تلقائيا من خصائص الكلام.
- التدريب النموذجي: تدرّب النموذج باستخدام بنيات التعلم العميق المتقدمة، وتعلم تحليل أنماط الشكل الموجي في الكلام، وتحديد الحالات العاطفية المختلفة المرتبطة بها.
- اختبار النموذج والتحقق من صحته: واختبروا النموذج المدرب على جزء منفصل من مجموعة البيانات لتقييم أدائه وقياس معدلات النجاح لقدرته على تحديد المشاعر بدقة في التسجيلات، فتعرف على المشاعر الأربعة في مجموعة البيانات المدمجة بدقة، وحدد بشكل صحيح القلق بنسبة 82% من الوقت والحياد 78% والحزن 77% والغضب 72%.
مرونة وقدرة على التكيف
واستنادا إلى نتائج الاختبار، حسّن الباحثون النموذج بشكل متكرر لتعزيز دقته وأدائه، وذلك عن طريق تحسين خوارزميات النموذج لالتقاط الفروق الدقيقة، بما مكنه من التعرف على عواطف الكلام بشكل أفضل.
ولا يدّعي الباحث بمختبر علوم البيانات بجامعة كيبيك الكندية “علاء النفيسي” والمطور الرئيسي لهذا النموذج، أن نموذجه هو الأول من نوعه الذي يسعى لتقديم تلك الخدمة، لكنه يؤكد أنه الأفضل من ناحية المرونة والقدرة على التكيف.
ويقول النفيسي في البيان الذي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة: “على عكس النماذج القديمة التي تطلبت أن تكون مقاطع الكلام بنفس الطول، يتعامل نموذجنا مع مقاطع ذات أطوال مختلفة، وهذا يعني أنه أكثر مرونة وقدرة على التكيف، وقادر على معالجة بيانات الكلام بغض النظر عن مدة كل مقطع”.
ويضيف أنه يأمل أن يُستخدم نموذجه لدعم وظيفة المستشارين في توجيه المتصلين واختيار إستراتيجية التدخل المناسبة لحمايتهم من خطر الانتحار.
غير صالح للتعميم
ومع تقديره لما ذكره الباحثون في دراستهم، يرى مدير برنامج الذكاء الاصطناعي بجامعة النيل الأهلية بمصر “مصطفى العطار” في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، أن “النموذج غير صالح للتعميم مع كل اللغات، وداخل اللغة الواحدة قد لا يكون صالحا للتطبيق على كل من يتحدث بها، إلا في حال جمع بيانات تغطي كافة اللهجات داخل اللغة الواحدة، وهذه مهمة صعبة للغاية”.
وأضاف أن “هناك مشكلة أخرى تتعلق بجودة البيانات التي جمعت، فحتى يعطي النموذج نتائج دقيقة يجب أن تكون البيانات مثبتة بشكل إكلينيكي، بمعنى أن تكون البيانات التي تَدرب عليها النموذج تعكس ميولا انتحارية، ومثبّتا إكلينيكيا أن صاحبها يعاني من تلك الميول”.
ويخلص العطار من ذلك إلى أن ما فعله الباحثون لا يمكن الوثوق به بدرجة 100%، ولا يجب أن يدفع القائمين على الخطوط الساخنة إلى إهمال مهاراتهم الشخصية في اكتشاف الميول الانتحارية، ولكن يمكن أن يكون عاملا مساعدا فقط.