على مرتفعات جبلية واقعة جنوب شرقي أوزبكستان، تمكن مجموعة من علماء الآثار من العثور على مدينتين مندثرتين ازدهرتا خلال الحقبة التاريخية لطريق الحرير، أحد أهم خطوط التجارة العالمية، الذي كان يربط بين مشرق الأرض ومغربها من القرن السادس إلى القرن الـ11 الميلادي.
وقد ذكر الباحثون في الدراسة، التي نُشرت في دورية “نيتشر”، أن كلتا المدينتين -“توغونبولاك” و”تاشبولاك”- كانتا بعيدتين عن الأنظار لعدة قرون، على ارتفاع يتراوح بين ألفين و2200 متر، ويعود فضل الاكتشاف إلى استخدام تقنية الاستشعار عن بعد، المعروفة بتقنية “الليدار”، التي باتت تستخدم على نطاق واسع للكشف عن الآثار التاريخية.
تعتمد تلك التقنية على قياس المسافات باستخدام الضوء، عادة من خلال إرسال نبضات ليزر قصيرة، ثم استقبال الانعكاسات الناتجة عن هذه النبضات بعد اصطدامها بالأجسام المختلفة على سطح الأرض. هذا النظام يقيس الوقت الذي تستغرقه كل نبضة للعودة إلى الجهاز، ثم يحسب المسافة بدقة، وتجمع هذه البيانات لتكوين خرائط ثلاثية الأبعاد للتضاريس.
وفي حالة مدينتي توغونبولاك وتاشبولاك، استطاع العلماء اختراق الغابات الكثيفة والجبال الوعرة والأشجار العالية، عبر مسح أجرته مسيرات تحمل أجهزة ليدار، للوصول إلى المدينتين اللتين كانتا تختبئان بغطاء نباتي سميك طيلة القرون الماضية.
وقد كشف الليدار عن المخطط الحضري، بما في ذلك الهياكل والساحات والطرق الفرعية في المدينتين، وبناء على ذلك حاول الباحثون تفسير أهمية كل مدينة وفقا للمعطيات العمرانية، فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن مدينة توغونبولاك كانت تؤدي كذلك دورا دفاعيا لحماية الطرق التجارية والسلع الثمينة التي تمرّ بها بسبب الأبنية المحصنة في المدينة.
ووفقا لموقع المدينتين على طريق الحرير الشهير، فإن الباحثين يؤمنون بالدور الجوهري الذي كانتا تشغلانه، فعلى مساحة 120 هكتارا، احتلت المدينة الكبرى توغونبولاك مكانة فريدة ومركزا حضريا مهما لالتقاء القوافل التجارية والبعثات الدينية، في حين كانت المدينة الأخرى تاشبولاك تشغل عُشر مساحة المدينة الكبرى، إلا أنها كانت تتمتع هي الأخرى بأهمية بالغة، نظرا إلى وجود مقابر مهمة للمسلمين الأوائل الذين قدموا إلى تلك البلاد.
توغونبولاك.. مركز للصناعة والتجارة
تتميز مدينة توغونبولاك بمساحتها الشاسعة آنذاك، وبطبيعتها الخلابة، ويُعتقد أنه، في ذروة نشاط المدينة، كان يقطنها عشرات الآلاف من الناس، لتكون بذلك منافسا قويا للمدينة التاريخية الشهيرة سمرقند، أهم المدن الواقعة على طريق الحرير في ذلك الحين، والتي تقع كذلك على بعد 110 كيلومترات فقط عن الموقع الأثري.
ويتضح من الآثار التي خلفتها المدينة قبل أن تُهجر إلى أنها كانت مدينة صناعية ومركزا لإنتاج المعادن في المقام الأول، نظرا إلى الهياكل المحصنة جيدا وبقايا الأنشطة الصناعية المتبقية. وتكشف بعض الحفريات وجود أفران ومواقد كبيرة، مما يشير إلى أن اقتصاد المدينة ربّما كان مبنيا على إنتاج الصلب، وربما يكونوا هم أوائل من توصلوا إلى الخلطة السحرية لإنتاج الصلب عن طريق إضافة الكربون إلى الحديد بنسب محددة، وذلك في القرنين التاسع والعاشر الميلادي.
ويعتقد الباحثون بأن كون هذه المدينة تعتمد على الصناعة، فإنها بذلك تغير المشهد التقليدي عن العصور الوسطى في تلك المناطق، لا سيما أن الزراعة كانت هي المصدر الأول في خطوط الإنتاج والسياسة الاقتصادية المعتمدة على غرار ما كانت عليه سمرقند.
تاشبولاك.. معلم ثقافي وديني
وعلى الجانب الآخر، كانت تقع مدينة تاشبولاك الصغيرة، التي تتميز بإرثها الثقافي والديني، خاصة بارتباطها بمقابر المسلمين الأوائل، وقد اكتشف علماء الآثار مقبرة كبيرة فيها تحتوي على حوالي 400 قبر، لتكون بذلك إحدى أقدم المقابر الإسلامية الموثقة في تلك البلاد.
وبالنظر إلى عدد القبور، فكان الأمر مفاجئا بعض الشيء للباحثين، نظرا إلى صغر مساحة المدينة، وقد يعكس هذا الأمر أهمية المدينة من ناحية دينية وثقافية كذلك. ويعتقد الباحثون أن موقع تاشبولاك يوفّر لمحة مهمة حول انتشار الإسلام في آسيا الوسطى، الذي بدأ تقريبا في القرن السابع وانتشر سريعا عبر المناطق المتصلة بطريق الحرير.
وربما كانت المقابر الموجودة على هذا الخط التجاري العالمي المندثر، دلالة على انتشار وانتقال المعتقدات الدينية والرموز الثقافية بين الحضارات القديمة الواقعة على طول الطريق المتصل بين مشارق الأرض ومغاربها، من أقصى الشرق حيث الصين، إلى أقصى الغرب حيث بيزنطة، فضلا عن العالم الإسلامي الذي كان حلقة الوصل.