استوحى علماء من جامعة باث البريطانية آلية طبيعية دفاعية تعطي زهرة “أولدنلانديا أفينيس” الاستوائية قوة خارقة في مواجهة التهديدات، وقاموا بتوظيفها من أجل إنتاج أدوية أفضل وأكثر صداقة للبيئة.
وتعمل معظم الأدوية عن طريق الالتصاق ببروتينات معينة في أجسامنا. وعوضا عن الأدوية المعتادة التي تستخدم جزيئات صغيرة، يسعى العلماء لاستكشاف بروتينات صغيرة تسمى “الببتيدات” يمكنها القيام بالوظيفة نفسها بشكل أفضل.
ولكن العائق الذي دائما ما يواجه العلماء هو أن تلك “الببتيدات” هشة وتتفكك وتكافح للوصول إلى الخلايا حيث تكون هناك حاجة إليها، وهي المشكلة التي وجد الباحثون من قسم علوم الحياة بجامعة باث حلا لها، استلهموه من الآلية الدفاعية التي تستخدمها زهرة “أولدنلانديا أفينيس”، وأعلنوا عن تفاصيل هذا الحل في دراسة نشرتها دورية “الجمعية الكيميائية الأميركية”.
وتتضمن الآلية الدفاعية التي تستخدمها الزهرة إنتاج “البروتينات الحلقية” التي تعمل كرادع للحيوانات المفترسة أو التهديدات، فعندما يتعرض النبات للهجوم أو يواجه الإجهاد، فإنه ينتج هذه البروتينات المتخصصة، والتي قد تتداخل مع الجهاز الهضمي للحيوانات العاشبة أو تعطل العمليات في الآفات التي تحاول أن تتغذى على النبات، وتساعد هذه الآلية الدفاعية النبات على تثبيط أو منع الضرر الذي تسببه الحيوانات العاشبة أو مسببات الأمراض، مما يساهم في بقائه في بيئته الطبيعية.
بين البروتينات الخطية والحلقية
وتمتلك أغلب البروتينات “بنية خطية”، وهذا هو الشكل الشائع في الطبيعة، حيث تتكون من سلسلة من الأحماض الأمينية -التي هي اللبنات الأساسية للبروتينات- مرتبة في بنية تشبه السلسلة الخطية، حيث يبدأ هذا الترتيب الخطي بمجموعة أمينو في أحد الأطراف (النهاية N)، وينتهي بمجموعة الكربوكسيل في الطرف الآخر (النهاية C)، ويحدد تسلسل الأحماض الأمينية في هذه السلسلة الخطية بنية البروتين ووظيفته.
والاختلاف بينها وبين البروتينات الحلقية، أن الأخيرة تُربط نقاط بداية البروتين ونهايته (أطرافه) معا، لتشكل حلقة مغلقة أو بنية حلقية، ويتم إنشاء هذه البروتينات الحلقية عن طريق ربط الأطراف السائبة لسلسلة البروتين، مما يجعلها أكثر استقرارا ومقاومة للتفكك أو التدهور مقارنة بنظيراتها الخطية.
وأدرك العلماء منذ فترة طويلة، أن استقرار “البروتينات الحلقية” يجعلها مرشحة بشكل كبير للاستخدام في إنتاج الأدوية، ولكن ظلت الكيفية الاقتصادية والصديقة للبيئة، التي يمكن من خلالها إنتاج هذه البروتينات غير واضحة بشكل كبير، ويزعم الباحثون من جامعة باث أن دراسة آلية إنتاج تلك البروتينات في زهرة ” أولدنلانديا أفينيس”، وضعهم على الطريقة الصحيح.
كيف تنتج الزهرة البروتينات الحلقية؟
ويلعب الإنزيم المعروف باسم (OaAEP1) الموجود في زهرة “أولدنلانديا أفينيس”، الدور المهم في عملية إنتاج البروتينات الحلقية، فعلى وجه التحديد، يساعد في عملية تدوير بعض البروتينات أو الببتيدات داخل النبات، حيث يتعرف على تسلسلات محددة داخلها، ويساعد في ربط أطرافها السائبة معا، مما يؤدي إلى إنشاء الهياكل الدائرية المغلقة التي تعرف بـ “البروتينات الحلقية”.
ووفق بيان صحفي صادر عن جامعة باث، قال الباحثون في قسم علوم الحياة بالجامعة، إن النباتات تقوم بهذه العملية لإنتاج البروتينات الخطية، ولكن ببطء، وعند محاولة محاكاتها كيميائيا سيكون الأمر معقدا ويحتاج لمواد كيميائية ضارة، وكان الحل الذي اهتدى له العلماء هو استخدام بكتيريا “الإشركية القولونية”، لإنتاج أسرع وأبسط وأكثر أمانا للبروتين الحلقي.
وقام العلماء بتعديل الإنزيم الطبيعي الموجود بالزهرة، ووجدوا أنه عند وضعه في البكتيريا عمل على تكوين بروتينات وببتيدات حلقية قوية، ثم اختبروا هذه الطريقة على إنزيم موجود في خلايا العديد من الكائنات الحية، بما في ذلك البشر، وهو إنزيم “اختزال ثنائي هيدروفولات” (المعروف اختصارا بـDHFR) ، ووجدوا أنه يمكن استخدامه بنفس الطريقة لإنتاج “بروتين حلقي” عن طريق البكتيريا.
وإنزيم “اختزال ثنائي هيدروفولات” وظيفته في الكائنات الحية -بما في ذلك البشر- تحويل ثنائي هيدروفولات إلى رباعي هيدروفولات، وهي خطوة أساسية في تخليق النيوكليوتيدات (اللبنات الأساسية للحمض النووي دي إن إيه، والحمض النووي الريبوزي آر إن إيه والأحماض الأمينية).
ويلعب هذا الإنزيم دورا حاسما في انقسام الخلايا ونموها، لأنه يشارك في توفير اللبنات الأساسية اللازمة لتكرار الحمض النووي وتكاثر الخلايا. ونظرا لأهميته في هذه العمليات الخلوية الأساسية، يعد هدفا شائعا لبعض الأدوية، خاصة في العلاج الكيميائي للسرطان والعلاجات المضادة للميكروبات، ويمكن أن يؤدي تثبيط نشاطه إلى تعطيل تخليق الحمض النووي وانقسام الخلايا، وهي إستراتيجية تستخدم غالبا لوقف نمو الخلايا السرطانية أو بعض الكائنات المعدية.
إنتاج الأدوية وصناعات أخرى
في حديث عبر البريد الإلكتروني لـ”الجزيرة نت”، يقول جودي ماسون الباحث في قسم علوم الحياة بجامعة باث والباحث الرئيسي بالدراسة: إن الجزيئات الصغيرة التي تستخدم في الأدوية لا تحقق الفعالية المطلوبة في الالتصاق ببروتينات معينة في أجسامنا، وذلك لأنها عادةً ما تكون مسطحة ولا يمكن للجزيء الصغير تشكيل نقاط اتصال كافية.
ويوضح أن “الببتيدات تمثل أرضية وسطية مناسبة، فهي كبيرة بما يكفي للالتصاق والتفاعل مع البروتينات في أجسامها، ولكنها صغيرة بما يكفي لتكون قادرة على الدخول إلى الخلايا، لذلك فإن البروتينات الحلقية هي الحل”.
ويضيف أن الميزة في عملنا أننا أنتجنا تلك البروتينات الحلقية دون حاجة إلى مواد كيميائية باهظة الثمن، حيث يمكن إجراء العملية برمتها داخل البكتيريا باستخدام عمليات الإنتاج الداخلية الخاصة بها، والنتيجة إنتاج بخطوات أبسط وأسهل وأكثر نظافة ومراعاة للبيئة.
وإلى جانب صناعة الأدوية، فإن الباحثين متحمسون إزاء التطبيقات المحتملة لعملية إنتاج البروتينات الحلقية المستوحاة من نبات، حيث يمكن أن تفيد الصناعات الأخرى مثل صناعة المواد الغذائية، كما يؤكد ماسون.
وتحقق هذه النوعية من البروتينات عده مزايا لصناعات الأغذية، وهي:
- الاستقرار المعزز: تميل البروتينات الحلقية إلى أن تكون أكثر استقرارا ضد عوامل مثل الحرارة وتغيرات الرقم الهيدروجيني والإنزيمات مقارنة بنظيراتها الخطية، ويمكن أن يكون هذا الاستقرار مفيدا في معالجة الأغذية، حيث قد تواجه البروتينات ظروفا قاسية أثناء التصنيع أو التخزين أو الطهي.
- المكونات الوظيفية: قد تمتلك بعض البروتينات الحلقية خصائص وظيفية فريدة يمكن أن تكون مفيدة في تركيبات الأغذية، فعلى سبيل المثال، قد تعمل كمستحلبات أو مكثفات أو مثبتات، مما يحسن نسيج المنتجات الغذائية ومدة صلاحيتها.
- المركبات النشطة بيولوجيا: قد تظهر بعض البروتينات الحلقية نشاطا حيويا، مثل الخصائص المضادة للميكروبات أو مضادات الأكسدة، ودمج هذه البروتينات في التركيبات الغذائية يمكن أن يعزز القيمة الغذائية أو يطيل العمر الافتراضي للمنتجات الغذائية بشكل طبيعي.
- سلامة الأغذية: فيمكن استخدام البروتينات الحلقية أيضا في تطوير المواد الحافظة الطبيعية أو العوامل المضادة للميكروبات لمنع نمو الكائنات الحية الدقيقة الضارة في الغذاء.