أين نُشر هذا الاختراق العلمي؟.. سؤال عادة ما يستقبله المراسلون المعنيون بالشأن العلمي من محرري الأقسام العلمية بالمواقع والصحف عند إبداء الرغبة في الكتابة عن اختراق علمي توصلت له إحدى الفرق البحثية.
لا يشعر المراسلون عادة بأي قلق من احتمالات رفض مقترحاتهم بالكتابة عن أي اختراق، طالما أنه وجد طريقه إلى النشر في مجلات مرموقة مشهود لها بالرصانة مثل “نيتشر ” و”ساينس” و “فيزيكال ريفيو ليترز”، فالثقة التي تحظى بها هذه الدوريات في المجتمع العلمي كافية لإقناع المحررين بأن هناك اختراقا حقيقيا يستحق المتابعة.
لكن يبدو أن جدار الثقة الذي بُني على مدار سنوات طويلة أصيب بثقب بدأ يتسع رويدا رويدا، ليهدد مصداقية هذه الدوريات، وذلك بعد أن تفككت العديد من الادعاءات بحدوث اختراقات كبيرة في مجال الفيزياء، إثر اكتشاف باحثين آخرين “فبركة النتائج” التي نُشرت بتلك الدوريات بسبب عدم قدرتهم على إعادة إنتاجها.
“احتيال علمي” يثير القلق
وعلى الرغم من أن المشكلة بدأت تظهر بشكل واضح قبل نحو خمس سنوات، فإن أخطاء جسيمة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة أثارت قلق مجتمع الفيزياء، ودفعهت رجالاته إلى الاجتماع مؤخرا في مؤتمر بجامعة بيتسبيرغ الأميركية، حيث ضم 50 فيزيائيا ومحررا للمجلات العلمية لمناقشة أفضل السبل لترميم جدار الثقة.
وتجسدت هذه الأخطاء الجسيمة -التي أسماها باحثون استطلعت “الجزيرة نت” آراءهم بـ”الاحتيال العلمي”- في ادعاء أحد الفرق بقيادة الفيزيائي رانجا دياس من جامعة روتشستر الأميركية، أنه اخترع أول موصل فائق في العالم في درجة حرارة الغرفة، وذلك في ورقة بحثية نُشرت عام 2023 في مجلة “نيتشر”. وبعد مراجعة العمل من قبل باحثين مستقلين، توصل تحقيق لاحق أجرته جامعة دياس إلى أن دياس لفّق وزوّر بياناته، لتسحب مجلة “نيتشر” الورقة البحثية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وفي العام الماضي، سحبت مجلة “فيزيكال ريفيو ليترز” دراسة صدرت عام 2021 عن الخصائص غير العادية في “كبريتيد المنغنيز”، والتي شارك أيضا دياس في تأليفها.
وقبلها سحبت “نيتشر” في 2021 بحثا آخر لفريق بحثي شهير من شركة “مايكروسوفت”، ادعى في دراسة نشرت عام 2018 أنه تمكن من إنشاء نمط من الإلكترونات يُعرف باسم “جسيم ماجورانا” -وهو إنجاز طال انتظاره في مجال الحوسبة الكمومية- وذلك بعد أن وجدت التحقيقات المستقلة لهذا البحث أن الباحثين فيه اختلقوا بياناتهم بعناية.
و”جسيمات ماجورانا” جسيمات افتراضية وضع نظريتها الفيزيائي الإيطالي إيتوري ماجورانا في عام 1937، فعلى عكس فيزياء الجسيمات حيث يكون لمعظم الجسيمات متضادات تسمى “الجسيمات المضادة”، فإن “جسيمات ماجورانا” لا تحتاج إلى توأم، لأنها وجسيمها المضاد كيان واحد.
وواجه فريق بحثي آخر أقل شهرة يتابع “جسيمات ماجورانا” مصيرا مشابها، عندما تراجعت مجلة “ساينس” عن مقال نُشر عام 2017 يدّعي وجود أدلة غير مباشرة على وجود الجسيمات في عام 2022.
فائزون بنوبل في قفص الاتهام
والمشكلة ليست قاصرة على مجال الفيزياء، حيث واجه الطبيب والعالم الشهير الحائز على جائزة نوبل جريج سيمينزا اتهامات شبيهة، تسببت بسحب 17 من أوراقه البحثية أو تصحيحها منذ عام 2011، وسحب 4 من أوراقه البحثية من دورية “بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس” في سبتمبر/أيلول 2022، وسحبت 5 من أوراقه نتيجة للتلاعب بالصور.
وكان سيمينزا تقاسم جائزة نوبل في الطب لعام 2019 مع عالمين آخرين لعمله في تنظيم الأكسجين الخلوي، كما تقاسموا جائزة “لاسكر” للأبحاث الطبية الأساسية عام 2016 عن العمل نفسه، ومع ذلك، حتى قبل حصوله على هذه الجوائز، كان بعض العلماء متشككين في نتائجه المنشورة.
ووجد مستخدمو موقع “بوب بيير”، الذي يسمح للمعلقين بالإبلاغ عن الأخطاء الواضحة أو التلفيقات في الأبحاث المنشورة، مشكلات محتملة في 54 بحثا قام سيمينزا بتأليفها.
وفي حقل الطب أيضا اضطر عالم الأعصاب الحائز على جائزة نوبل في الطب لعام 2013 توماس سودهوف هو الآخر إلى التراجع عن دراسة أجراها عام 2023 بعد أن قام هو وزملاؤه بإعادة تحليل البيانات الأولية.
وكانت دورية ” بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس” وضعت في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ما يشير إلى “التعبير التحريري عن القلق” بشأن البيانات التي أرفقها سودهوف ورفاقه، وذلك بعد أن عبر كثير من مستخدمي نفس الموقع “بوب بيير” عن مخاوف تتعلق بسلامة البيانات.
و”التعبير التحريري عن القلق” هو بيان تصدره هيئات تحرير المجلات العلمية بخصوص أحد المقالات المنشورة، ويشير عادة إلى أن المجلة لديها مخاوف بشأن صحة أو موثوقية أو سلامة البحث أو المقالة نفسها، لأسباب قد تكون أخلاقية مثل الانتحال أو تلفيق البيانات أو عيوب منهجية، كأن تكون هناك شكوك إزاء سلامة التصميم التجريبي أو تحليل البيانات أو تفسير النتائج أو لأسباب تتعلق بالتناقضات أو الأخطاء، كأن تكون هناك تناقضات أو أخطاء في البيانات أو النتائج أو الاستنتاجات، مما يثير الشكوك تجاه موثوقية النتائج.
ولا يعني التعبير التحريري عن القلق بالضرورة ارتكاب مخالفات أو سوء سلوك، لكنه بمثابة إشعار للقراء والباحثين والمجتمع العلمي بوجود مخاوف بشأن العمل، وأن المجلة تقوم بتقييم الوضع وقد تتخذ مزيدا من الإجراءات اعتمادا على نتيجة التحقيق.
منتجات مصانع المقالات
وإذا كانت مثل هذه “الأخطاء الجسيمة” تلتصق بدوريات رصينة وعلماء على قدر الفائزين بجائزة نوبل، فإن “ما خفي أعظم”، إذ يشير تقرير نشره موقع دورية “نيتشر” إلى تجاوز عدد عمليات سحب المقالات البحثية إلى 10 آلاف مقالة بحثية في عام 2023، بما يحطم الأرقام القياسية السنوية، حيث يكافح الناشرون لتنظيف عدد كبير من الأوراق البحثية المزيفة.
وكان الجزء الأكبر من عمليات سحب المقالات المنشورة في الدوريات المملوكة لشركة “هنداوي” وهي شركة فرعية تابعة للناشر “وايلي” ومقرها لندن.
وحتى نشر التقرير في ديسمبر/كانون الأول 2023، قامت مجلات الهنداوي بسحب أكثر من 8 آلاف مقالة، معللة ذلك بأسباب مثل “التلاعب المنهجي بعملية النشر ومراجعة النظراء”، وذلك بعد تحقيقات أجراها محققو نزاهة الأبحاث الذين أثاروا أسئلة بشأن النص غير المتماسك والمراجع غير ذات الصلة في آلاف الأوراق البحثية.
ويشير التقرير إلى أن معدل سحب الأبحاث -أي نسبة الأوراق البحثية المنشورة في أي سنة معينة والتي يتم سحبها- تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي. ويشير التقرير إلى أن المملكة العربية السعودية لديها أعلى معدل سحب مقالات بحثية، حيث يبلغ معدل عدد المقالات المسحوبة 30 لكل 10 آلاف مقال.
وإذا تضمنت أوراق المؤتمرات البحثية، فإن عمليات السحب للأوراق العلمية المنشورة في مؤتمر معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات في مدينة نيويورك تضع الصين في المرتبة الثانية.
ويُظهِر التحليل أن نحو ربع إجمالي عدد الأوراق البحثية المسحوبة هي أوراق مؤتمرات، والجزء الأكبر منها يشمل عمليات سحب من قبل معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات الذي سحب أكثر من 10 آلاف ورقة بحثية من هذا القبيل في العقدين الماضيين.
ويقول المحققون في نزاهة الأبحاث إن الأبحاث التي سُحبوها ليست سوى قمة جبل الجليد من الأعمال التي يجب سحبها. ويقدر المحقق في نزاهة الأبحاث من نيوزيلندا ديفد بيملر بمئات الآلاف عدد المقالات التي تنتجها “مصانع المقالات”؛ أي الشركات التي تبيع أعمالا ومؤلفات زائفة للعلماء، بصرف النظر تماما عن الأوراق الأصلية التي قد تكون معيبة من الناحية العلمية.
ويقول بيملر في التقرير الذي نشرته “نيتشر”: إن “منتجات مصانع المقالات تمثل مشكلة حتى لو لم يقرأها أحد، ذلك لأنه يمكن تجميع هذه الأوراق مع مقالات بحثية مشروعة في مقالات مراجعة، وعندما يحدث ذلك يصبح هذا المحتوى الاحتيالي أو منخفض الجودة مختلطا بالأبحاث الحقيقية، مما يؤدي إلى غسله بشكل فعال في الأدبيات السائدة”.
تشخيص دون علاج
وإزاء هذه الإحصائيات والتقارير، يشعر الفيزيائي بجامعة ألبرتا في كندا فرانك مارسيليو، بالقلق في أن تتسبب تلك “الاحتيالات العلمية” بتقويض ثقة المجتمع في البحث العلمي.
واعترض مارسيليو -الذي كان مشاركا في اجتماع جامعة بيتسبيرغ الذي أشرنا إليه سابقا- على تشخيص هذه التجاوزات بـ”الأخطاء”، وقال في حديث عبر البريد الإلكتروني مع “الجزيرة نت”: “جميعنا نرتكب الأخطاء، فمن الناحية النظرية عندما أقوم -على سبيل المثال- بإجراء تقديرات تقريبية وما إلى ذلك، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى أخطاء، وهذه هي ما أسميها الأخطاء الصادقة، ومن المفهوم أنها موجودة على مستوى ما تقريبا، ولكن التشخيص الحقيقي أننا أمام عملية احتيال”.
وأوضح أنه “عندما يُبلّغ عن النتائج بطريقة غير واضحة بما فيه الكفاية بحيث لا يمكن إعادة إنتاج النتائج بشكل صحيح من قبل باحثين آخرين، فهذه الممارسة هي الاحتيال”.
وحمّل مارسيليو الباحثين المسؤولية كاملة، رافضا ان يتحملها محررو المجلات العلمية، وقال: “لا يمكن للمحررين العثور على أخطاء في الأوراق البحثية، فهم يعتمدون على المزيد من المحكّمين الخبراء للعثور على هذه الأخطاء، ولكن حتى المحكمين لا يمكنهم العثور على كل الأخطاء أو حتى معظمها”.
ورغم مشاركته في مؤتمر جامعة بيتسبيرغ، فإن وصفة العلاج لم تتشكل لدى مارسيليو، وأضاف أن “هذه ليست مشكلة سهلة الحل، وهذا هو سبب تنظيم المؤتمر، وليس لديّ حلول سهلة، لأنه لا يمكن للمرء أن يُجبر الآخرين على النزاهة من خلال التشريعات”.
الميل نحو التفسيرات المثيرة
وحاول عالم الفيزياء في جامعة ولاية أوهايو الأميركية بريان سكينر، تشخيص المشكلة بعبارات أكثر هدوءا، موضحا -في حديث مع “الجزيرة نت” عبر البريد الإلكتروني- أن السبب الرئيسي للمشكلة هو التحيز نحو تصديق التفسيرات التي تبدو مثيرة، بدلاً من التفسيرات المملة ولكنها مدعومة بالأدلة بشكل أفضل.
وقال سكينر، وهو منظم المؤتمر الذي عقد بجامعة بيتسبيرغ: إن “التحيز ينشأ عادة في شكل تجاهل النتائج أو تفسيرها بشكل انتقائي، أو الترويج للنظريات الغريبة كتفسيرات، حتى عندما تكون هناك نظريات أقدم وراسخة يمكنها تفسير البيانات”.
وإذا كان من الطبيعي أن يقع اللوم في الغالب على الباحثين أنفسهم، فإن سكينر لا يُعفي الدوريات العلمية من المسؤولية، مشيرا إلى أنه “كما يتحيز الباحث نحو تصديق التفسيرات المثيرة، فإن المجلات تتحمل بعض المسؤولية عندما تقبل عن عمد عملاً يبدو غير موثوق به لمجرد أنه يمكن أن يثير الاهتمام”.
وتابع أنه “يمكن للمجلات أيضا أن تساعد في تعزيز النتائج السيئة من خلال التراجع بصعوبة عن نتيجة منشورة غير موثوق بها، أو عندما تجعل من الصعب الوصول إلى جميع المعلومات اللازمة للتحقق من نتائج دراسة منشورة”.
ولا يشترك سكينر مع ما ذهب إليه مارسيليو من أن النتائج غير الموثوقة يمكن أن تقوض ثقة المجتمع في البحث العلمي، وقال: “في الوقت الحالي أعتقد أن مشاكلنا الكبيرة لا تتعلق بالإدراك العام للعلم وموثوقيته، حيث لا يزال البحث العلمي يتمتع بمستوى عالٍ من الاحترام من الجمهور، ولكن التكلفة الكبيرة للأبحاث غير القابلة للتكرار هي أنها باهظة الثمن، فهي تقود العديد من العلماء والطلاب -خاصة طلاب ما بعد الدكتوراه- إلى إضاعة سنوات من حياتهم في مطاردة نتائج مزيفة، وهذا من شأنه أن يبطئ تقدم العلم”.
وأضاف أن “وصفة علاج الداء، يجب أن تتضمن تحسين معاييرنا على العديد من المستويات: مستوى العلماء الأفراد، والجامعات، والمجلات، ووكالات التمويل الحكومية، فكل هذه الجهات تتحمل بعض المسؤولية عن المشاكل التي نواجهها، ويمكنهم تحسين الوضع من خلال اتخاذ قرارات أكثر مسؤولية”.
مشكلة قديمة تجذب الانتباه
ومن جهته، لا ينكر محرر مجلة “نيتشر” كارل زيمليس وجود المشكلة، لكنه يتحفظ على الحديث عنها، وكأن الأمور الآن أسوأ مما كانت عليه في الماضي، وقال في حديث مع “الجزيرة نت” عبر البريد الإلكتروني: “لا أرى أي مؤشر على أن مثل هذه المشاكل آخذة في الارتفاع، ولكن ما تغير هو تعزيز رؤية مثل هذه الحالات”.
ورفض زيمليس تحميل المحررين المسؤولية، وأوضح أن دورهم يتمثل في إدارة وضمان مراجعة النظراء الفعالة للأبحاث المقدمة، مشيرا إلى أنه “لا يمكنهم تحمل مسؤولية الأخطاء في العلوم الأساسية، ولن ينشروا عن عمد ورقة تحتوي على مثل هذه الأخطاء”.
وتابع أنه “عندما يُكشف عن أخطاء جسيمة في ورقة منشورة يتم تصحيحها، أو سحبها في الحالات القصوى، وذلك من خلال تحديث رسمي للسجل المنشور عبر الإنترنت، ولا يتم ذلك بصمت، حيث توضع علامة على أي تعديلات أو تصحيحات أو تراجعات جديدة بشكل بارز في جدول محتويات عددنا الأسبوعي”. وشدد على ضرورة التعامل مع الحالات الأكثر تطرفًا في الأخطاء بسرعة وحزم حتى لا تنال من ثقة الجمهور في العلوم.
واعتبر أن التركيز المتزايد على توفير البيانات وراء كل ورقة علمية يمكن أن يساعد جزئيا في حل المشكلة، حيث يساعد ذلك على اكتشاف الأخطاء في وقت مبكر من العملية (على سبيل المثال أثناء مراجعة النظراء)، أو بشكل أسرع بعد النشر.
السير خلف الترند
ويرفض أستاذ الفيزياء بجامعة تكساس إل باسو الأميركية أحمد الجندي، ما ذهب إليه محرر “نيتشر” من أن الوضع الآن ليس أسوأ من الماضي، موضحا في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت” أنه “بكل موضوعية، أرى أننا نعيش خلال الخمس سنوات الماضية في مرحلة سيئة للغاية عنوانها: السير خلف الترند”.
ويشرح الجندي مع يعنيه بذلك قائلا: “الباحث من المفترض أن يعمل في الاتجاه الذي يستهويه، لأن هذا يجعله يعمل بشغف للإجابة على التساؤلات البحثية، ولكن ما آراه الآن أن الباحث يسير خلف الترند، حيث يبحث عن الموضوعات التي ستخلق له شهرة، وهو ما قد يدفعه لاختلاق نتائج غير دقيقة”.
ويستشهد بالأبحاث التي نشرت عن جائحة “كوفيد 19″، حيث كان يرى أوراقا بحثية لباحثين من تخصصات لا علاقة لها بموضوع الجائحة، ولكنها كانت محاولة للنشر وفق منطق “الترند”.
ولا ينكر الجندي مسؤولية المجلات عن هذا الوضع قائلا: “كما أن الباحث يسير خلف الترند فإن المجلات تكون أكثر تساهلا مع أي بحث يبدو أنه مثير للاهتمام، ولا سيما إذا كان هذا البحث يحمل أسماء كبيرة في مجال التخصص، مثل الحائزين على جائزة نوبل”.
وأضاف أن مجرد وجود اسم حائز على جائزة نوبل على البحث فهذا يجعل طريقه نحو النشر سهلا للغاية، دون أن يخضع لمراجعة دقيقة، وهذا يفسر سبب سحب بعض أبحاث حائزي نوبل مؤخرا.
ويعزو الجندي وقوع حائزي نوبل في هذا الخطأ الجسيم إلى أنهم عادة ما يثقوا في صغار الباحثين بفريقهم البحثي ولا يُخضعون البيانات التي يتوصل لها مساعدوهم للمراجعة الدقيقة، ولكن هذا لا يعني أن منهم من يعلم بوجود الخطأ ويمرره عن عمد من أجل تحقيق مزيد من “الإنجازات الوهمية”.
ويستشهد الجندي بكمّ الأبحاث التي نشرت في السنوات العشر الأخيرة عن مواد ومركبات وأساليب لعلاج السرطان، دون أن تقود مخرجات هذه الأبحاث خطوة إلى الأمام نحو توفيرعلاج معتمد، وهذا دليل آخر على أننا نعيش في مرحلة “العلم المزيف”.
وصفة علاج شاملة
وعلى عكس الخبراء السابقين، كان أحمد الجندي كريما في الحديث باستفاضة عن وصفة العلاج على مستوى العلماء الأفراد والمشرفين والجامعات والمجلات. وقال: “نحتاج أن يتوقف الباحث عن السير خلف الترند، وهو ما نراه بشكل واضح في علم الفيزياء المليء بالكثير من الأسئلة التي يمكن لإجاباتها تغيير مجرى العلم، وهو ما يجعل بعض الباحثين يحاولون اختلاق نتائج تبدو غير منطقية لتحقيق إنجاز غير حقيقي”.
وأضاف أن “هناك ترندا الآن اسمه المواد فائقة التوصيل التي تعمل في درجة حرارة الغرفة، وأغلب ما تم التوصل له لن يكون له أي مردود تطبيقي في الحياة العملية، لأن هذه المواد وإن كانت تعمل في درجة حرارة الغرفة، فإنها من ناحية أخرى ستحتاج إلى ضغط غير طبيعي حتى تعمل، وبالتالي فأنت تعالج مشكلة، لكن هناك مشكلة أخرى ستظهر قد تعوق التحول إلى التطبيق، فما الفائدة إذن”.
ولا يريد الجندي أن يُفهم من كلامه غلق باب الاجتهاد في محاولة الإجابة على الأسئلة العالقة، لكن ما يعنية هو تقديم البحث بشكل يؤهله للتطبيق العملي، فعندما تُقدَّم مادة فائقة التوصيل تعمل في درجة حرارة الغرفة، تكون من ناحية قد راعت الجوانب الأخرى التي تجعلها قابلة للتطبيق، حتى لا تفقد الصناعة ثقتها في البحث العلمي.
وينتقل الجندي من مستوى الباحث إلى المشرفين، ويقول: “لا يجب أن تكون هناك ثقة عمياء في أعضاء الفريق البحثي، ويجب أن يهتم المشرفون بمراجعة البيانات”.
وعلى مستوى الجامعات، يجب تغيير قواعد الترقيات التي تربط بين كمّ النشر البحثي والترقية، وأن يكون المعيار هو “الكيف وليس الكم”، كما يجب أيضا أن تتغير القواعد التي تصنف الجامعات على أساس كمّ النشر، مشيرا إلى إعلان جامعة زيورخ بسويسرا الخروج من هذه التصنيفات حتى لا تجد نفسها مضطرة إلى الاهتمام بالكم على حساب الكيف.
ومن جانبها، يجب أن تُعطي المجلات مزيدا من الاهتمام لعملية المراجعة البحثية، وأن لا يكون وجود الأسماء الشهيرة مفتاحا للنشر بصرف النظر عن جودة العمل، وأن تتجاوب المجلات سريعا مع أي ملاحظات تشير إلى وجود أخطاء في البيانات.
واعتبر الجندي المؤتمر الذي استضافته جامعة بيتسبيرغ خطوة مهمة في طريق تنفيذ هذه الوصفة الشاملة، مضيفا أن “الاعتراف بوجود المشكلة هو أول طريق العلاج”.