في العصر الرقمي سريع الخطا الذي نعيشه اليوم أصبح العثور على المكان الذي نقصده والطريق الموصلة إليه أمرا يسيرا بفضل التقدم الملحوظ في أنظمة تحديد المواقع الجغرافية. فهذه التكنولوجيا أحدثت منذ ظهورها قبل خمسة عقود ثورة في الملاحة كان لها تأثير واسع النطاق في مختلف المجالات، ومن المتوقع أن يكون لها دور أكثر أهمية وأوسع تأثيرا في المستقبل عبر تحفيز موجة جديدة من الابتكار والإبداع في مختلف القطاعات.
وفيما يلي أهم ما يجب عليك معرفته عن أنظمة تحديد المواقع العالمية واتجاهات تطورها في المستقبل.
تقنية تحديد المواقع.. كيف نشأت؟
تعود أصول تقنيات تحديد المواقع بحسب موقع وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” إلى عام 1957، عندما أطلق الاتحاد السوفياتي السابق أول قمر صناعي “سبوتنيك” وتمكن العلماء من تتبعه عبر التحولات في إشارة الراديو الخاصة به، والتي أصبحت الفكرة الأساسية لأنظمة تحديد المواقع.
وُضع تصور لأول نظام لتحديد المواقع (أو تموضعها) في أوائل الستينيات، عندما أدركت وزارة الدفاع الأميركية أهمية الملاحة عبر الأقمار الصناعية في تعزيز القدرات العسكرية. ودفعت التجربة السوفياتية الولايات المتحدة إلى الاستثمار في تكنولوجيا الأقمار الصناعية لأغراض الملاحة وتحديد المواقع.
وفي عام 1973، شرعت وزارة الدفاع الأميركية في تطوير نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي أس” الذي أطلق عليه في البداية اسم “نافستار”، وخُصص المشروع لخدمة الأغراض العسكرية مثل تعزيز دقة أنظمة توجيه الصواريخ وتحديد مواقع الآليات والأفراد. وبعد خمس سنوات، وتحديدا في 1978، أُطلقت أول أربعة أقمار صناعية لنظام تحديد المواقع العالمي إلى الفضاء. لكن هذا النظام لم يصل إلى القدرة التشغيلية الكاملة إلا في عام 1995 بعد تشغيل 24 قمرا صناعيا وفرت تغطية كاملة لسطح الأرض.
ومع تقدم التكنولوجيا، شاع استخدام هذا النظام لتلبية الاحتياجات المدنية والتجارية والعلمية، ويوجد اليوم عدد من أنظمة تحديد المواقع الأخرى مثل نظام “غاليليو” الأوروبي و”غلوناس” الروسي و”بايدو” الصيني.
النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية
يعد النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية نظام الملاحة القياسي الذي يوفر خدمات تحديد المواقع للأجهزة التي نستخدمها كل يوم، مثل الطائرات والسيارات والهواتف الذكية في جميع أنحاء العالم. وفي هذا النظام تترابط الأنظمة التي أنشأتها دول مختلفة مثل “جي بي إس” و”غاليليو” و”غلوناس” و”بايدو” إضافة إلى أنظمة إقليمية أخرى، مما يسمح بالاستخدام المتبادل لخدمات تحديد المواقع وزيادة دقتها.
وإلى جانب خدمات تحديد الموقع والملاحة، يساعد النظام العالمي الملاحة -الذي يتكون حاليا من 100 قمر صناعي- على الضبط الدقيق للتوقيت ومزامنة شبكات الاتصالات والطاقة.
وبفضل هذا النظام العالمي انخفض هامش الخطأ بالنسبة لأجهزة الاستقبال وأصبح لا يتجاوز بضعة أمتار في معظم الأماكن بالنسبة للهواتف الذكية على سبيل المثال. وتصل دقة تحديد المواقع في بعض الخدمات الخصوصية إلى أقل من سنتيمترات.
أبرز الاستخدامات
تعد أنظمة تحديد المواقع عنصرا أساسيا في البنية التحتية العالمية للمعلومات، ومكّنت من تطوير مئات التطبيقات التي تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة الحديثة.
وأصبحت التقنيات المرتبطة بها مدمجة في جل الأجهزة بدءا من الهواتف المحمولة وساعات اليد ووسائل النقل البري والبحري والجوي حتى حاويات الشحن وأجهزة الصراف الآلي.
وتساهم هذه التقنيات في تطوير مختلف الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك الزراعة والبناء والتعدين والمسح وإدارة سلسلة التوريد اللوجستية وفي النقل الجوي وتعزيز سلامة الطيران.
وتعتمد شبكات الاتصالات والأنظمة المصرفية العالمية والأسواق المالية وشبكات الطاقة بشكل كبير على نظام تحديد المواقع لمزامنة الوقت بدقة. كما تساهم أنظمة تحديد المواقع في إنقاذ الأرواح عبر منع حوادث النقل، ومساعدة جهود البحث والإنقاذ، وتسريع تقديم خدمات الطوارئ والإغاثة في حالات الكوارث. كما تستخدم هذه الأنظمة في تطوير الأهداف العلمية مثل التنبؤ بالطقس ومراقبة الزلازل وحماية البيئة.
تحديد المواقع والتكنولوجيا الحديثة
أدى التكامل مع التقنيات الأخرى إلى توسيع قدرات أنظمة تحديد المواقع الجغرافية، فعلى سبيل المثال، أتاح دمج نظام تحديد المواقع العالمية مع تقنيات التموضع في شبكات الهاتف الجوال وتلك المستخدمة في الشبكات اللاسلكية لتبادل المعلومات (واي فاي)، إلى تحسين دقة تحديد الموقع، خاصة في البيئات الحضرية والداخلية.
وذكر موقع “يوتاليتيز ون” أن الطريقة الهجينة في تحديد المواقع يعد أمرا بالغ الأهمية للتطبيقات التي تتطلب بيانات دقيقة. كما يلعب إنترنت الأشياء وتحليلات البيانات الضخمة دورا متزايد الأهمية في تطور تقنيات تحديد المواقع الجغرافية.
ومن خلال توصيل الأجهزة المختلفة وتحليل بيانات الموقع، تتيح هذه التقنيات تخطيطا أكثر ذكاء للمدن، وتطوير الخدمات المبتكرة المستندة إلى الموقع. ويعمل هذا التكامل على توفير معلومات التنقل الأكثر دقة وفي الوقت الفعلي، بما يمكّن نظام الملاحة في السيارة -على سبيل المثال- من ضبط المسار تلقائيا بناء على بيانات الازدحام التي تُجمع من المركبات الأخرى في المنطقة المجاورة.
ويفتح التكامل بين تقنيات الملاحة والواقع المعزز والواقع الافتراضي آفاقا واسعة من خلال توفير تجارب جديدة مثل الجولات الافتراضية والتنقل القائم على الواقع المعزز في بيئات معقدة، والمزج بين العالمين المادي والرقمي بطرق مبتكرة.
اتجاهات التطور في المستقبل
من المتوقع بحسب الخبراء، أن يؤدي دمج الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي مع أنظمة الملاحة إلى تطبيقات أكثر ذكاء وتكيفا. وقد يُحدث ذلك ثورة في مجالات مثل الملاحة الذاتية وثلاثية الأبعاد والاستشعار والتحليلات التنبؤية والخدمات الشخصية القائمة على الموقع، كما سيساهم في تطوير أنواع جديدة من الملاحة مثل الملاحة السحابية والصوتية، بحسب موقع “يوتاليتيز ون”.
- الملاحة المستقلة وتحديد المواقع في الأماكن المغلقة
وتعمل الملاحة الذاتية على إحداث تحوّل في مجال تكنولوجيا الملاحة عبر تمكين المركبات والأجهزة الأخرى من التنقل دون تدخل بشري. وتجمع هذه التقنية بين أجهزة الاستشعار والكاميرات والخوارزميات لتمكين الأجهزة من اكتشاف بيئتها والاستجابة لها في الوقت الفعلي، كما ستوفر للمستخدمين إمكانيات التنقل داخل المباني والأماكن المغلقة الأخرى حيث لا تتوفر إشارات نظام تحديد المواقع العالمي.
- الملاحة ثلاثية الأبعاد
فالتنقل ثلاثي الأبعاد يوفر تجربة غامرة ودقيقة أكثر، على عكس الخرائط التقليدية ثنائية الأبعاد، فهو يتيح للمستخدم تصور المناطق المحيطة به، ويوفر تمثيلا أكثر واقعية للعالم. وتعمل هذه التقنية على تمكين التنقل في البيئات الحضرية حيث تعوق المباني والهياكل الأخرى رؤية الخرائط التقليدية.
- الاستشعار عن بعد
يوفر الاستشعار عن بعد للمستخدم معلومات في الوقت الفعلي عن المناطق المحيطة من خلال مراقبة حركة السفن والطائرات والمركبات باستخدام أجهزة الاستشعار والكاميرات وأنظمة الرادار، ويحلل ظروف حركة المرور وتحديثات الطقس والعوامل البيئية التي تؤثر في الملاحة مما يتيح تزويد المستخدم بمعلومات لتنقل أكثر أمنا.
- الملاحة السحابية
يوفر التنقل المستند إلى السحابة تجربة تنقل دقيقة وفعالة باستخدام البيانات المخزنة في السحابة، وتتضمن هذه البيانات صور الأقمار الصناعية وبيانات حركة المرور ومعلومات الطقس.
ويوفر التنقل المستند إلى السحابة أيضا معلومات في الوقت الفعلي عن المناطق المحيطة بالمستخدم، بما في ذلك تحديثات حركة المرور وظروف الطريق والتنبؤات الجوية.
وإضافة إلى ذلك، تسمح الحوسبة السحابية للمرافق بتخزين بيانات الموقع ومشاركتها، مما يتيح للمركبات والطائرات بدون طيار الوصول إلى سجل التنقل ومشاركة الموقع مع الآخرين. وبشكل عام يوفر التنقل المستند إلى السحابة للمسافر تجربة تنقل أكثر أمانا وموثوقية ومصممة خصيصا لتلبية الاحتياجات الفردية.
- الملاحة الصوتية
توفر تقنية التنشيط الصوتي في الملاحة تجربة مريحة بدون استخدام اليدين، مما يسمح للمستخدم بالتفاعل مع نظام الملاحة باستخدام الأوامر الصوتية، وهذا يلغي حاجة السائق للتفاعل جسديا مع الأجهزة ورفع يديه عن عجلة القيادة وعينيه عن الطريق. وتعمل هذه التقنية على تحسين السلامة وتقليل عوامل التشتيت مع تزويد السائق بتحديثات حركة المرور في الوقت الفعلي، والتنبؤات الجوية، والمساعدة خطوة بخطوة.
تهديدات ومخاوف
مع أهمية دورها في مختلف الأنشطة اليومية، ما زالت أنظمة تحديد المواقع عرضة للتهديدات التي قد تؤدي إلى اختراقها أو تعطيل عملها. وتمثل العواصف الشمسية التي قد تضرب الأقمار الصناعية التابعة للمنظومة والموجودة في مدارات على ارتفاع يصل إلى 20 ألف كيلومتر أقوى هذه التهديدات.
وبحسب باحثين من جامعة نيوساوث ويلز الأسترالية فإن أحد الحلول تتمثل في توفير خدمات الملاحة بواسطة الأقمار الصناعية في مدارات أرضية منخفضة على ارتفاع يتراوح بين 500 و1000 كيلومتر فوق الأرض، وستكون هذه الأقمار محمية أكثر بواسطة الغلاف الجوي للأرض في حالة حدوث نشاط مغناطيسي كبير في الفضاء.
وبالنظر إلى أن نظام تحديد المواقع العالمي يفسح المجال لاستخدامات لا تعد ولا تحصى، فإن بعض هذه الاستخدامات قد يكون لأغراض غير أخلاقية.
وفي غياب التشريعات المتعلقة بالاستخدامات المشكوك فيها لنظام تحديد المواقع العالمي، يمكن للبعض استخدام نظام تحديد المواقع العالمي لمطاردة الضحايا عن طريق إخفاء جهاز استقبال في السيارة على سبيل المثال، مما يستوجب تطوير هذه التشريعات لتواكب التكنولوجيا المتطورة.