قبل 385 عاما، تطورت فكرة إنشاء مستعمرة على القمر، عندما كتب القس والفيلسوف والعالم الموسوعي الإنجليزي جون ويلكينز عام 1638 خطابا عن عالم جديد وكوكب آخر، تنبأ فيه بمستعمرة بشرية على سطح القمر.
وأصبح العالم الآن أقرب من أي وقت مضى باتجاه هذا الحلم، بعد أن حددت وكالة الفضاء الأميركية عام 2028 موعدا لتحقيقه، لكن تظل هناك تحديات خطيرة تهدد هذا المشروع، وفي مقدمتها الغبار القمري الذي تسبب في إفساد مهام فضائية سابقة، وهي المشكلة التي وضع فريق بحثي ألماني حلا محتملا لها في دراسة نشرتها يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري دورية “ساينتفيك ريبورتس”، وأظهرت إمكانية إذابة غبار القمر باستخدام الليزر، لإنشاء طرق معبدة ومناطق هبوط.
تقول ميراندا فاتيري، من كلية الهندسة الميكانيكية وعلوم المواد بجامعة آلين الألمانية والباحثة المشاركة بالدراسة، في تصريحات خاصة للجزيرة نت، إن “سطح القمر مغطى بغبار ناعم ومشحون كهربائيا وكاشط ومغناطيس، ويمكنه الالتصاق بالبدلات الفضائية، والمركبات الجوالة، والمعدات، مما يشكل تحديات ومخاطر محتملة”.
وتضيف “كانت فكرتنا هي استخدام الغبار نفسه لإنشاء الطرق المعبدة، التي تسهم في تقليل المشكلات المرتبطة به، من خلال توفير سطح أكثر سلاسة وتحكما للتنقل، مما يؤدي في النهاية إلى حماية البنية التحتية القمرية وإطالة عمر المعدات”.
كيف أثبت الباحثون فكرتهم؟
ولأنه لا يوجد غبار قمري يمكن للباحثين استخدامه لإثبات فكرتهم، قام الباحثون بتجربة مادة دقيقة الحبيبات تسمى “إي إيه سي- 1 إيه” ( EAC-1A)، طورتها وكالة الفضاء الأوروبية لتكون بديلا للتربة القمرية، واستخدموا شعاع ليزر بقطر 50 ملم لتسخين الغبار إلى نحو 1600 درجة مئوية وإذابته، ورسموا أشكالا مثلثة منحنية، يبلغ عرض كل منها نحو 25 سم، يمكن أن تتشابك لإنشاء أسطح صلبة عبر مساحات كبيرة من التربة القمرية، لتكون بمثابة طرق ومنصات هبوط مستقبلية.
وكما أوضح الباحثون في دراستهم، لم تكن تلك العملية سهلة، إذ استغرق إنتاج كل وحدة هندسية صغيرة نحو ساعة، مما يعني أن إنشاء مكان هبوط بمساحة 10 × 10 أمتار سيستغرق نحو 100 يوم.
ولتجاوز مشكلة تكلفة نقل مواد البناء من الأرض إلى القمر، اهتم الباحثون بدراسة كيفية إعادة إنتاج هذا النهج على القمر باستخدام الموارد المتاحة، وهي الشمس بدلا من أشعة الليزر.
وتوصل الباحثون إلى أنه يجب نقل عدسة تبلغ مساحتها نحو 2.37 متر مربع من الأرض لتعمل مكثفا لأشعة الشمس بدل الليزر، ويمكن أن تكون العدسة مصنوعة من رقائق البوليمر التي يمكن لفها، مما يسهل نقلها.
ولأن الغبار سيظل يمثل مشكلة بالنسبة للعدسة نفسها عندما يتراكم عليها، اقترح الباحثون أنه يمكن استخدام عدسة الاهتزاز، بما قد يساعد في تخفيف هذه المشكلة.
الخطوة التالية من الدراسة
وإذا كان من السهل على الباحثين تخيل المشكلات واقتراح الحلول لها، تبقى هناك مشكلة واحدة يصعب توفير حلول لها على الأرض، وتحتاج لتجهيزات من نوع خاص.
يقول خوان كارلوس جينيس بالوماريس، من كلية الهندسة الميكانيكية وعلوم المواد بجامعة آلين الألمانية، والباحث المشارك بالدراسة في تصريحات خاصة للجزيرة نت، إن “التجربة أجريت في بيئة الجاذبية الأرضية، ولكننا إذا أردنا جلب هذه التقنيات إلى القمر يوما ما، فيجب اختبار المعدات في الظروف القمرية (على وجه التحديد، غياب الهواء والجاذبية القمرية)، وهذه ما سنفعله في دراستنا التالية”.
ويضيف “سنعالج التصنيع في ظروف الجاذبية المنخفضة الشبيهة بالقمر، من خلال القيام برحلة استكشافية خالية من الجاذبية، وهي رحلات متاحة لمن يرغب في تجربة أحاسيس انعدام الوزن التي يعيشها رواد الفضاء”.
ويعد نجاح هذه التجارب، ليس فقط في استخدام الغبار القمري لإنشاء طرق معبدة على سطح القمر، ولكن يمكن توظيفه في أكثر من اتجاه، كما يؤكد بالوماريس.
ويقول “يمكن تحويل غبار القمر إلى مادة صلبة مدمجة مناسبة للبناء بعدة طرق، إذ يمكن تلبيده لتشكيل الطوب، ويمكن أن يذوب ويتصلب بسرعة لتشكيل الزجاج، كما يمكن استخدامه لتكوين الإسمنت القمري، كما فعل باحثون في دراسات أخرى”.
وقد نجح فريق بحثي من مختبر جامعة “قوانغشي” الصينية لمعالجة موارد البتروكيماويات، في استخدام رماد بركاني شبيه بالغبار القمري لتصنيع الإسمنت في بيئة تجريبية تحاكي ظروف القمر، وتم الإعلان عن نتائج هذا العمل في دراسة نشرتها دورية “جندوانا ريسيرش” أبريل/نيسان 2017.
وفي تجربة أحدث، نجح فريق بحثي من المعهد الهندي للعلوم في إثبات إمكانية استخدام الغبار القمري لتصنيع الطوب الفضائي الاصطناعي، وتم نشر النتائج في أغسطس/آب العام الجاري في موقع ما قبل نشر الأبحاث “أركايف”.
فوائد متعددة
وعن القيمة الاقتصادية والعلمية لإنشاء طرق معبدة ومنصات هبوط على القمر كجزء من تطوير البنية التحتية القمرية للمهمات البشرية المستقبلية، تقول ميراندا فاتيري إن “القمر يعد موقعا مثاليا لإجراء التحقيقات العلمية وتوسيع فهمنا للكون، ويمكن أن يوفر تركيب التلسكوبات والأدوات العلمية على سطحه مناظر فريدة وخالية من العوائق للفضاء، وخالية من الغلاف الجوي للأرض، مما يجعله موقعا جذابا للبحث الفلكي”.
وتابعت “يمكن أيضا أن يكون القمر بمثابة محطة توقف حاسمة للمهمات المتجهة إلى المريخ وما بعده، ويمكن أن يكون بمثابة محطة للتزود بالوقود أو نقطة انطلاق لمزيد من استكشاف الفضاء السحيق”.
وتضيف أنه “لتمكين وجود بشري مستدام على القمر، لتنفيذ هذه المهام، تعد البنية التحتية ضرورية، إذ تتطلب القواعد أو الموائل القمرية طرق نقل ومواقع هبوط موثوقة، لتسهيل حركة المعدات والمركبات والإمدادات، مما يجعل العمليات القمرية أكثر كفاءة واستدامة”.
عوائد اقتصادية
وإضافة لهذه العوائد البحثية، هناك عوائد اقتصادية يشير إليها بالوماريس، وتتمثل في أنه” خلال الآونة الأخيرة، أصبحت السياحة الفضائية تستحوذ على اهتمام مزيد من الشركات، ومن ثم لا بد من تأمين طرق نقل ومواقع هبوط موثوقة، ولتنفيذ ذلك، هناك حاجة إلى استخدام المتاح بالقمر، وهو الغبار السائب”.
ويقول إنه “بتنفيذ ذلك، تتحقق فائدة أخرى، وهي تقليل خسائر المهام الفضائية، إذ أفسد الغبار بعض المهام السابقة، مثل مهمة المركبة الفضائية الأميركية (سيرفيور 3)، التي تم إطلاقها في أبريل/نيسان عام 1967 وتضررت بسبب الغبار القمري، لذلك، فإن التغلب على هذا التحدي أولوية بالنسبة لوكالة ناسا، التي تهدف إلى إنشاء موقع استيطاني دائم على سطح القمر”.