بلاستيك يغيّر شكلة لأغراض بيئية وعسكرية وفضائية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 10 دقيقة للقراءة

على مدى سنوات مضت، أصبح من الواضح أن استخدام المواد البلاستيكية في المنتجات لا يضر بالبيئة على كوكب الأرض فحسب، بل بصحة الإنسان أيضا، حيث عُثر على أجزاء من البلاستيك في التربة والغلاف الجوي والمحيطات وجسم الإنسان، كما أن رواد الفضاء الراغبين في القيام بمهام فضائية مستقبلا سيكونون بحاجة إلى تقليل كميات البلاستيك التي يحملونها، وذلك من أجل تقليل حمولة رحلتهم الفضائية،  وكذلك الأمر بالنسبة للجنود في المعارك، فإنهم بحاجة إلى عدم حمل كميات كبيرة من الأدوات.

ونتيجة لذلك، بدأ العلماء في البحث عن طرق لتقليل كمية البلاستيك التي تُصنع وتُستخدم. ويزعم فريق بحثي أميركي أنه نجح في ذلك، إذ تمكنوا من ابتكار نوع من البلاستيك يمكن تحويله إلى شيء جديد بمجرد استنفاد غرضه الأولي، حيث يمكن -على سبيل المثال- تحويل كيس بلاستيكي يحتوي على طعام إلى شوكة أو ملعقة.

وفي الدراسة المنشورة بدورية “ساينس”، تحدث الباحثون من جامعة شيكاغو ومختبر أبحاث الجيش الأميركي والمعاهد الوطنية للمعايير والتكنولوجيا ومركز “جلين” للأبحاث التابع لناسا، عن آلية صناعة البلاستيك الخاص بهم والتجارب التي أجريت لاختبار قدرته على التحول حسب الغرض من الاستخدام.

تحديد الحاجة.. 4 أغراض

وانطلقت الدراسة في البداية من إدراك الباحثين لحاجتهم إلى تقليل استخدام البلاستيك، وذلك لأهداف تتعدى نطاق الأرض إلى الفضاء.

والحاجة إلى تقليل البلاستيك على الأرض، ينطلق في الأساس من ثلاثة أهداف بيئية وصحية وحربية، وهدف رابع فضائي له صبغة اقتصادية:

هناك حاجة لتقليل استخدام المواد البلاستيكية، لأنها لا تتحلل مع مرور الوقت، ونتيجة لذلك تتراكم في مدافن النفايات والممرات المائية والمحيطات، مما يؤدي إلى تلوث النظم البيئية والإضرار بالحياة البرية، وقد تبتلع الحيوانات البحرية الحطام البلاستيكي، مما يؤدي إلى موتها.

كما أن النفايات البلاستيكية قد تتحلل إلى جزيئات أصغر مع مرور الوقت، وهو ما يعرف باسم المواد البلاستيكية الدقيقة، ويمكن لهذه الشظايا البلاستيكية الصغيرة أن تلوث التربة والماء والهواء.

يمكن أن يكون للتلوث البلاستيكي آثار ضارة على صحة الإنسان، ومن خلال استهلاك المأكولات البحرية أو المياه الملوثة، قد يبتلع البشر -عن غير قصد- جسيمات بلاستيكية دقيقة، وهو ما قد يؤدي إلى مشاكل صحية مثل الالتهاب والإجهاد التأكسدي وتراكم المواد الكيميائية السامة.

يمكن أن يساعد البلاستيك المتغير الشكل في تقليل العبء اللوجستي لنقل الأدوات والمعدات المختلفة إلى ساحة المعركة، فبدلا من حمل العديد من العناصر المتخصصة، يمكن للجنود حمل قطعة واحدة من البلاستيك المتغير الشكل والتي يمكن أن تتحول إلى أشياء مختلفة حسب الحاجة، وبالتالي الحفاظ على الموارد وتقليل الوزن.

ويمكن للجنود في هذا الإطار تسخين البلاستيك الجديد باستخدام مصادر حرارية محمولة لإنشاء حواجز مؤقتة، أو مواد تمويه، أو أدوات مخصصة مصممة خصيصا لمتطلبات مهمة محددة.

أما الهدف الفضائي فيتعلق بالجانب الاقتصادي لرحلات الفضاء ، والمتمثل في تقليل حمولة الرحلات، حيث تشير التقديرات إلى أن إرسال كيلوغرام واحد في البعثات المأهولة مستقبلا إلى المريخ، سيتكلف من 100 ألف إلى 500 ألف دولار، ويأتي في هذا الإطار الدور الذي يلعبه البلاستيك القابل للتشكل، ففي الصباح مثلا يمكن تشكيل البلاستيك كأدوات تناول الطعام، وعند الانتهاء من وجبة الإفطار يمكن تحويل الشوكة والسكين إلى مجرفة لتعتني بحديقتك المريخية مثلا، وبعد ذلك يمكن أن تصبح كوب ماء.. وهكذا.

عرض توضيحي يوضح الاستخدامات المختلفة للبلاستيك (دورية ساينس) 

3 خطوات تقود للإنجاز

وانطلاقا من الأهداف الأربعة التي حددها الباحثون، انطلقوا نحو إنجاز البلاستيك الذي يمكن تحويله إلى شيء جديد بمجرد استنفاد غرضه الأولي، وذلك عبر ثلاث خطوات:

  • أولا: تصميم البلاستيك

كانت البداية، هي تطوير نوع جديد من البلاستيك بخصائص ديناميكية تسمح بتغيير الشكل، وتحقق ذلك باستخدام مادة “الثيول” في تفاعل مع مادة “أسيتات البنزالسيانو” ضمن ما يعرف كيميائيا بـ”إضافة مايكل”، ويساعد ذلك على تشكيل روابط متقاطعة داخل بنية البوليمر (البلاستيك)، مما يمنحه خصائص ديناميكية وقدرة على تغيير الشكل.

و”إضافة مايكل” مصطلح يرمز إلى تفاعل وصفه الكيميائي الألماني آرثر مايكل لأول مرة في عام 1887. وحتى نفهم هذا التفاعل، يمكن تخيل أن لديك قطعتين مختلفتين من الليغو؛ الأولى عبارة عن قطعة بها جزء بارز، والثانية بها فتحة صغيرة، وعندما تقوم بدفع القطعة ذات الجزء البارز في فتحة القطعة الأخرى، فإنهما تلتصقان ببعضها وتشكلان هيكلا جديدا.

وفي سياق هذا المثال التوضيحي فإن كتلة الليغو ذات الجزء البارز تمثل “البنزالسيانوسيتات”، والكتلة ذات الفتحة تمثل “الثيول”، وبعد إدخالهما معا يتكون مركب جديد داخل بنية البوليمر يُكسب البلاستيك الخصائص الديناميكية.

  • ثانيا: التعديل بـ”التقسية”

وعلى عكس ما هو معروف عن المواد البلاستيكية بأنها تتكون من سلاسل من الجزيئات المترابطة بشكل دائم مما يجعل تفكيكها صعبا، كان البلاستيك الديناميكي الناتج من النوع الذي يمكن تعديله عن طريق عملية “التقسية”، وهي مفهوم في سياق علوم وهندسة المواد يشير إلى عملية معالجة حرارية تُستخدم لتعديل خصائص المادة عن طريق تسخينها إلى درجة حرارة معينة ثم تبريدها بسرعة، وذلك بهدف تحقيق الخواص الميكانيكية المرغوبة -مثل الصلابة والمتانة والليونة- في المادة.

ويمكن تنفيذ خطوات تلك العملية عبر مراحل:

  • 1- التسخين: فتُسخن المادة إلى درجة حرارة محددة مسبقا، وعادة تكون من نقطة الانصهار، ولكنها عالية بما يكفي لإحداث تغييرا في بنيتها المجهرية أثناء التسخين، وتخضع المادة خلال هذه العملية لتحولات طورية، مثل إعادة ترتيب الذرات اعتمادا على تركيبها.
  • 2- التثبيت: فبمجرد وصول المادة إلى درجة الحرارة المطلوبة، يُحتفظ بها عند درجة الحرارة مدة محددة، مما يسمح بحدوث تغييرات في البنية المجهرية بشكل موحد في جميع أنحاء المادة.
  • 3- التبريد: وبعد فترة الاحتفاظ تُبرد المادة بسرعة، وهذا التبريد السريع الذي يتحقق غالبا عن طريق إخماد المادة في الماء أو الهواء، يؤدي إلى “تجميد” البنية الدقيقة في حالتها المتغيرة، مما يؤدي إلى الاحتفاظ بالخصائص المطلوبة.

وتعتمد درجة الحرارة المحددة ومدة عملية “التقسية” بالإضافة إلى معدل التبريد، على المادة التي تتم معالجتها والخصائص المطلوبة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي “تقسية الفولاذ عالي الكربون” في درجات حرارة منخفضة إلى زيادة صلابته وقوته، في حين يمكن أن تؤدي “التقسية” في درجات حرارة أعلى، إلى أن يحسن صلابته وليونته.

وفي حالة البلاستيك الموصوف في الدراسة، تُستخدم “التقسية” وسيلة لتغيير شكل المادة، ومن خلال تسخين البلاستيك إلى نطاق درجة حرارة معينة ثم تبريده بسرعة، يخضع هيكله الجزيئي لتغييرات عكسية، مما يسمح له باعتماد أشكال مختلفة بناء على المعالجة الحرارية المطبقة، وهذا يدل على تنوع البلاستيك وقابليته للتكيف، مما يجعله مناسبا لمختلف التطبيقات.

وحدد الباحثون نطاق درجة الحرارة اللازمة لتسخين البلاستيك وهي ما بين 60 و110 درجات مئوية، وعملية التبريد السريعة اللاحقة لترسيخ شكله الجديد.

  • ثالثا: اختبار المواد

بمجرد تصنيع البلاستيك، أجرى الباحثون اختبارات مكثفة لتقييم خصائصه، بما في ذلك قدرته على تغيير الشكل من خلال “التقسية”، فضلا عن متانته وثباته في ظل ظروف مختلفة.

وأظهر الباحثون قدرات البلاستيك المطور على تغيير الشكل عن طريق تشكيله في أجسام مختلفة، وفي البداية صنعوا ملعقة ثم حولوها إلى شوكة باستخدام “التقسية”، وبعد ذلك غيروا البلاستيك إلى مادة لاصقة قادرة على ربط لوحين من الزجاج معا.

وطوال عملية التجربة قيم الباحثون حدود البلاستيك، واكتشفوا أنه لا يمكن أن يخضع لعملية تغيير الشكل إلا لعدد محدود من المرات (معدل سبع مرات) قبل أن يبدأ في التحلل.

البلاستيك الجديد يمكن توظيفه لأغراض عسكرية أو فضائية (صورة منتجة بالذكاء الإصطناعي)

سؤال و4 شروط

ومن جانبه، يصف أستاذ هندسة البوليمرات بجامعة أسيوط (جنوب مصر) محمد بدوي، فكرة وجود مادة واحدة يمكنها تحقيق مجموعة متنوعة من الخصائص الفريدة والمثيرة بـ”الرائعة”، لكنه تساءل عن اعتبارات السلامة والصحة.

ويقول في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إن “تقييم السمية لهذا المنتج يجب أن تحدده دراسات لاحقة، كما يجب أن تحدد تلك الدراسات بروتوكولات السلامة المناسبة للتعامل مع البلاستيك الجديد وكيفية التخلص منه، وهذا مهم لصحة الإنسان والسلامة البيئية”.

ويعتقد بدوي أن التطبيقات الأكثر رواجا للمنتج الجديد ستكون في الظروف العادية، لكن ما يتعلق بظروف الحرب والفضاء يحتاج إلى ثلاثة شروط مختلفة لضمان سهولة عملية “التقسية” التي يتم إجرائها لتعديل شكل البلاستيك، وهذه الشروط هي:

  • قابلية النقل: فيجب أن تكون الأدوات المستخدمة في عملية “التقسية” مدمجة وخفيفة الوزن ومحمولة لتسهيل النقل والاستخدام في بيئة الحروب والفضاء.
  • كفاءة استهلاك الطاقة: فينبغي أن تصمم الأدوات بحيث تعمل بكفاءة، مع الحد الأدنى من استهلاك الطاقة وإمكانات التسخين والتبريد السريعة، وذلك لضمان أن عملية “التقسية” يمكن تنفيذها بسرعة وفعالية دون استهلاك مفرط للطاقة.
  • المتانة: ففي البيئات القاسية مثل مناطق الحرب أو الفضاء، يجب أن تكون الأدوات متينة ومرنة لتحمل الظروف الصعبة، وهذا يضمن قدرتها على تحمل الاستخدام المتكرر والحفاظ على وظائفها لفترات طويلة.
  • التكامل: فلا بد من تصميم الأدوات بحيث تتكامل بسلاسة مع المعدات والموارد الأخرى المتوفرة في البيئة التشغيلية.

وتحمل تعليقات الباحثين المشاركين في الدراسة، وعداً بمزيد من الدراسات في البيان الصحفي المنشور على موقع جامعة شيكاغو، حيث اعتبروا أن ما أنجزوه هو أول خطوة في الطريق.

ويقول أستاذ الهندسة الجزيئية وكبير مؤلفي الدراسة ستيوارت روان: “نعتقد أن ما أنجزناه هو المثال الأول لمادة اصطناعية تظهر سلوكا متعدد القدرات، ونحن نعتقد أن ما فعلناه يمهد الطريق نحو طريقة مختلفة للتفكير في تصميم المواد”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *