تتسبب حركة المرور الزائدة بحالة من الجمود والتلوث في الشوارع، وكذلك الحال مع الفوسفات في المياه، إذ يتسبب محتواه الزائد في نمو الطحالب الضارة التي تعوق حركة المياه في المجاري المائية وتسبب تلوثا لها.
وكما أن الحل لتنظيم حركة المرور على الأرض يكون في سلسلة من إشارات المرور الموضوعة بشكل إستراتيجي، فإن ما فعله الباحثون بجامعة “ساسكاتشوان” الأميركية يشبه ذلك، عندما ابتكروا كريات بلاستيكية مصنوعة من مواد حيوية مثل قشر البيض، لتعمل على إدارة تدفق الفوسفات في الماء بشكل فعّال عبر امتصاص الزائد منه، لتُحصد هذه الكريات لاحقا وتُستخدم كسماد زراعي.
ويلعب الفوسفات (وهو أحد العناصر الغذائية الأساسية الثلاثة التي يحتاجها النبات إلى جانب النيتروجين والبوتاسيوم) دورا حاسما في العمليات البيوكيميائية المختلفة داخل النبات، بما في ذلك عملية التمثيل الضوئي، ونقل الطاقة، وتكوين الحمض النووي وأغشية الخلايا. ويقدر حجم سوق الأسمدة الفوسفاتية العالمية بـ61.54 مليار دولار أميركي في عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 101.18 مليار دولار أميركي بحلول عام 2030.
وتمهّد كريات البلاستيك الحيوي التي ابتكرها الباحثون وأعلنوا عن تفاصيلها في دورية “آر إس سي سيستانبيلتي”، لتوفير مصدر مستدام لهذه الأسمدة، مع تخليص الممرات المائية من الفوسفات الزائد لتصبح أكثر نظافة وفعالية.
كيف تُصّنع كريات البلاستيك الحيوي؟
تمر عملية تصنيع كريات البلاستيك الحيوي بعدة خطوات فصّلها الباحثون في الدراسة على النحو التالي:
- اختيار المواد الحيوية: فقد اختار الباحثون المواد الحيوية المناسبة لتكون بمثابة اللبنات الأساسية لكريات البلاستيك الحيوي، واستخدموا في هذه الحالة قشر البيض، والسكاريد البحري المسمى “الشيتوزان”، وقش القمح.
- تحضير المواد الحيوية: فتُحضر المواد الحيوية المختارة، ويُستخرج الشيتوزان من مصادر بحرية ويعالج في شكل قابل للاستخدام، وينظف قشر البيض ويُسحق إلى مسحوق ناعم، ويعالج قش القمح لإزالة الشوائب ويقسم إلى جزيئات أصغر.
- تطوير التركيبة: جرب الباحثون تركيبات مختلفة لتحسين خصائص كريات البلاستيك الحيوي المصنوعة من تلك المكونات الحيوية، وأجروا تجارب لتحديد النسب المثالية للشيتوزان وقشر البيض وقش القمح لتحقيق الخصائص المطلوبة، مثل الامتصاص والسلامة الهيكلية.
- تشكيل الكريات: بمجرد تحسين التركيبة يدمج الباحثون المواد الحيوية المطلوبة لتشكيل كريات البلاستيك الحيوي.
- البثق أو القولبة: يُعالج بعد ذلك خليط المواد الحيوية باستخدام تقنيات البثق أو القولبة لتشكيلها على شكل كريات، ويتضمن البثق دفع المادة عبر قالب لتكوين كريات موحدة ذات حجم وشكل محددين.
- التجفيف والمعالجة: إذ تُجفف كريات البلاستيك الحيوي لإزالة الرطوبة الزائدة وتعزيز المعالجة، وتساعد هذه الخطوة على تقوية الكريات وتحسين متانتها.
- التقييم النهائي للمنتج: فبمجرد تصنيع كريات البلاستيك الحيوي، تُقيم فعاليتها في امتصاص الفوسفات من مصادر المياه، ومدى ملاءمتها للاستخدام كأسمدة زراعية.
نظام الحلقة المغلقة
وتعمل هذه الكريات وفق “نظام الحلقة المغلقة”، والذي يشير إلى نظام أو عملية يعاد فيها تدوير الموارد بدلا من التخلص منها كنفايات، فالكريات تُستخدم في البداية كمادة ماصة للفوسفات من المياه، ثم تُستخدم لاحقا كسماد.
ويشرح البيان الصحفي الصادر عن جامعة “ساسكاتشوان” تفاصيل النظام على النحو التالي:
- امتصاص الفوسفات: فالكريات البلاستيكية الحيوية تمتص الفوسفات من مصادر المياه، لتكون بمثابة وسيلة فعالة لإزالة العناصر الغذائية الزائدة والتخفيف من تلوث المياه.
- الاستخدام كسماد: بعد امتصاص الفوسفات تخضع كريات البلاستيك الحيوي للتحول، مما يؤدي إلى إطلاق العناصر الغذائية المحتجزة في التربة عندما تتحلل، وتعمل هذه العملية على إعادة تدوير الفوسفات بشكل فعال، مما يجعله متاحا كسماد طبيعي للتطبيقات الزراعية.
- الدمج في النظام الزراعي: بمجرد إطلاق الفوسفات من الكريات المتحللة يندمج في التربة، ويمكن للنبات امتصاصه كمصدر غذائي، وهذا يكمّل “الحلقة المغلقة” بإعادة استخدام الفوسفات داخل النظام الزراعي، مما يعزز نمو النبات ويحافظ على إنتاجية المحاصيل.
ويقول أستاذ الكيمياء بجامعة “ساسكاتشوان” والباحث الرئيسي بالدراسة “لي ويلسون”: “يُعد الفوسفات موردا غير متجدد، ونحصل عليه من خلال تعدين صخور الفوسفات، وتتمتع معادن الفوسفات بإمدادات محدودة، ويمكن استنفادها عندما تتسرب من الأرض إلى مصادر المياه المحيطة”.
ويضيف أن “نظام الحلقة المغلقة يَعِد بتقديم حل بديل لاستخراج الفوسفات واستخدام العناصر الغذائية الموجودة بالفعل في مصادر المياه بدلا من ذلك، والفضل يعود للبلاستيك الحيوي الذي يختلف تماما عن البلاستيك التقليدي”.
الفرق بين الحيوي والتقليدي
ويقول ويلسون، وهو أيضا عضو بالمعهد العالمي للأمن المائي: “عندما تتحلل المواد البلاستيكية التقليدية في البيئة فإنها ستشكل في الواقع جسيمات بلاستيكية دقيقة، ويصل حجمها إلى ميكرون واحد أو أقل، وهي تحتوي على مواد ملدنة ومواد كيميائية أخرى يمكن أن تلوث المياه”.
ويوضح أن المواد الكيميائية التي تضاف لجعل البلاستيك ناعما هي التي تجعل المادة سامة، وكلما كان البلاستيك أكثر مرونة أو ليونة زاد احتمال إضافة المزيد من المكونات.
ويؤكد أن “البلاستيك عندما يتحلل إلى جزيئات صغيرة، يمكنه الوصول إلى الطعام والتغلغل في الخلايا، ويمكن أن تصل المواد البلاستيكية الدقيقة إلى المحيطات والمياه الجوفية والنباتات التي تُحصد وتعالج وتتحول إلى غذاء”.
لذلك يشير ويلسون إلى أنه “إذا وُضعت حاوية سمن بلاستيكية في الفناء الخلفي لمنزلك ودفنتها، ستبقى هناك لمدة 50 عاما أو أكثر حتى تبدأ في التفتت إلى جزيئات صغيرة تضر بصحة الإنسان، أما مع البلاستيك الحيوي فيمكنك تجنب كل ذلك وستحصل بشكل أساسي على شيء يتحلل إلى مكوناته الأصلية، أو يمكن تحويله إلى سماد أو تُحلله بسهولة أكبر من خلال العمليات الطبيعية”.
فكرة “غير مسبوقة” ولكن
ويُثني الأستاذ بمركز البحوث الزراعية المصري “خالد عمارة” على تلك الفكرة التي وصفها بـ”غير المسبوقة”، لأنها تُخلص البيئة من فوسفات المياه، وفي الوقت نفسه تستفيد منه كمخصب للأرض الزراعية.
ومع إعجابه بالفكرة التي تبدو نتائجها إيجابية على النطاق المعملي الصغير، فإن عمارة يرى أن تطبيقها على نطاق تجاري كبير يحتاج إلى معالجة مجموعة من الأسئلة التي يلخصها في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت” على النحو التالي:
- ما هي العوامل التي تؤثر في قدرة الامتصاص وأداء الكريات البلاستيكية الحيوية، مثل تكوين الكريات وحجمها والظروف البيئية؟
- كيف يمكن مقارنة الفوسفات المنبعث من كريات البلاستيك الحيوي المتحللة بالأسمدة الفوسفاتية التقليدية من ناحية توافر المغذيات، وامتصاص النبات، وإنتاجية المحاصيل؟
- ما الآثار طويلة المدى لاستخدام الكريات البلاستيكية الحيوية كسماد على صحة التربة، ودورة المغذيات، والاستدامة الزراعية الشاملة؟
- كيف تؤثر عملية تحلل كريات البلاستيك الحيوي في جودة التربة والمجتمعات الميكروبية وعمل النظام البيئي؟
- ما التكاليف والفوائد الاقتصادية لاستخدام الكريات البلاستيكية الحيوية مقارنة بالطرق التقليدية لإزالة الفوسفات واستخدام الأسمدة؟
- كيف يمكن تحسين دمج كريات البلاستيك الحيوي في الممارسات الزراعية الحالية لتحقيق أقصى قدر من الفوائد وتقليل المخاطر المحتملة؟