عادة ما تكون الاختراعات التي تتعامل مع قضايا تنقية وتعقيم المياه حصرا على الباحثين المتخصصين في علوم المواد، الذين يكون جُلّ اهتمامهم اختراع مواد جديدة تؤدي هذه المهام، ولكن الأمر المثير للدهشة، أن يكون من بين قائمة الباحثين بأحدث دراسة في هذا المجال خرجت من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ونشرتها دورية “نيتشر كومينيكيشن”، علماء متخصصون في علم الوراثة، وذلك لطبيعة المادة الجديدة التي اخترعها الباحثون.
البوليمر مع نظام بيولوجي
أطلق الباحثون على مادتهم الجديدة اسم “المادة الحية”، وهي عبارة عن هيكل مطبوع ثلاثي الأبعاد مصنوع من بوليمر مستخلص من الأعشاب البحرية مع بكتيريا هُندِست وراثيا لإنتاج إنزيم يحوّل الملوثات العضوية المختلفة إلى جزيئات حميدة، وصُمّمت البكتيريا -أيضا- لتدمر نفسها ذاتيا في وجود جزيء يسمى “الثيوفيلين”، الذي يوجد غالبا في الشاي والشوكولاتة، وهذا يوفر طريقة للقضاء عليها بعد قيامها بعملها.
يقول جون بوكورسكي، أستاذ هندسة النانو بجامعة كاليفورنيا، والباحث المشارك بالدراسة في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة في 5 سبتمبر/أيلول الجاري “الأمر الجديد هو إقران مادة البوليمر مع نظام بيولوجي لإنشاء مادة حية يمكنها العمل والاستجابة للمحفزات، بطرق لا تستطيع المواد الاصطناعية العادية القيام بها، ولذلك تم التعاون في هذا العمل بين المهندسين وعلماء المواد وعلماء الأحياء، في مركز علوم وهندسة أبحاث المواد بجامعة كاليفورنيا”.
وسمح هذا التعاون لعلماء الأحياء بتطبيق معرفتهم بعلم الوراثة وعلم وظائف الأعضاء في البكتيريا الزرقاء لإنشاء مادة حية، كما توضح سوزان غولدن، عضو هيئة التدريس في كلية العلوم البيولوجية، والباحثة المشاركة في الدراسة في البيان الصحفي الذي نشره موقع الجامعة.
كيف تم التصنيع؟
لإنشاء المادة الحية في هذه الدراسة، استخدم الباحثون “ألجينات”، وهو بوليمر طبيعي مشتق من الأعشاب البحرية، ورطّبوه لصنع هلام (جِلْ) وخلطوه مع نوع من البكتيريا التي تعيش في الماء، التي تعمل التمثيل الضوئي والمعروفة باسم “البكتيريا الزرقاء”.
وأُدخِل الخليط في طابعة ثلاثية الأبعاد، وبعد اختبار مختلف الأشكال الهندسية المطبوعة ثلاثية الأبعاد لموادهم، وجد الباحثون أن الهيكل الشبيه بالشبكة كان الأمثل لإبقاء البكتيريا على قيد الحياة، حيث يحتوي الشكل المختار على نسبة مساحة السطح إلى الحجم عالية، مما يضع معظم البكتيريا الزرقاء بالقرب من سطح المادة للوصول إلى العناصر الغذائية والغازات والضوء، كما أن زيادة مساحة السطح تجعل المادة أكثر فعالية في إزالة التلوث.
وكتجربة لإثبات المفهوم، هندس الباحثون البكتيريا الزرقاء الموجودة في مادتهم وراثيا لتنتج باستمرار إنزيما مطهرا يسمى “لاكاز”، وأظهرت الدراسات أنه يمكن استخدام الإنزيم لتحييد مجموعة متنوعة من الملوثات العضوية، بما في ذلك ثنائي الفينول أ (BPA)، والمضادات الحيوية والأدوية الصيدلانية والأصباغ.
التخلص من الصبغة الزرقاء
وفي هذه الدراسة، أثبت الباحثون أن موادهم يمكن استخدامها لتطهير الصبغة القرمزية النيلية الملوثة، وهي صبغة زرقاء تستخدم على نطاق واسع في صناعة النسيج.
كما طور الباحثون طريقة للقضاء على البكتيريا الزرقاء بعد إزالة الملوثات، وهندسوا البكتيريا وراثيا للاستجابة لجزيء يسمى “الثيوفيلين”، حيث يحفز الجزيء البكتيريا على إنتاج بروتين يدمر خلاياها.
ويقول بوكورسكي، “يمكن للمادة الحية أن تعمل على الملوثات محل الاهتمام، ثم يمكن إضافة جزيء صغير بعد ذلك لقتل البكتيريا، وبهذه الطريقة، يمكننا تخفيف أي مخاوف بشأن وجود بكتيريا معدلة وراثيا باقية في البيئة”.
ويشير الباحثون إلى أن الحل الأفضل هو جعل البكتيريا تدمر نفسها دون إضافة مواد كيميائية، وسيكون هذا أحد التوجهات المستقبلية لهذا البحث.
ويضيف بوكورسكي، “نحن متحمسون للإمكانات التي يمكن أن يؤدي إليها هذا العمل، والمواد الجديدة المثيرة التي يمكننا صنعها، وهذا هو نوع البحث الذي يمكن أن ينتج عندما يجتمع الباحثون ذوو الخبرة المتعددة التخصصات في المواد والعلوم البيولوجية”.
الإنتاج التجاري للمادة
من جانبه، لا يرى بوكورسكي، أي عوائق كبيرة أمام الإنتاج التجاري للمادة، قائلا في تصريحات خاصة عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت، إن “المادة الأساسية مشتقة من الطحالب والموارد اللازمة لنمو البكتيريا الزرقاء متاحة، وهي الهواء والماء والضوء”.
ويوضح أن ما توصلوا إليه هو عمل أولي، حيث يمكنهم الآن التفكير في حالات الاستخدام المحتملة، سواء كان ذلك معالجة المياه على نطاق واسع، أو شبكة صغيرة الحجم أكثر توزيعا.
وعن إمكانية التفكير في تطوير مادتهم الجديدة لتعمل مع ملوثات أخرى مثل جزيئات البلاستيك، وهي المشكلة التي أصبحت أكثر خطورة، قال، “سنعمل على ذلك، حيث توفر البيولوجيا مجموعة من الموارد المحتملة التي يمكن إعادة استخدامها لأغراض إزالة التلوث البيئي، وتتمتع المادة الحالية بالقدرة على تطهير الأصباغ الصناعية والمواد الكيميائية الدقيقة والمستحضرات الصيدلانية، ونتوقع دمج وظائف بيولوجية جديدة في المستقبل، منها التعامل مع المواد البلاستيكية”.