يحتاج الباحثون في شركات الأدوية عادة إلى ما يقرب من 12 خطوة حتى يتمكنوا معمليا من إنتاج أحد أدوية السرطان التي تعتمد على مثبطات إنزيم يُعرف باسم إنزيم “جيه إن كيه”. غير أن الباحثين بجامعة كاليفورنيا الأميركية أعلنوا في دراسة نشرت بدورية “ساينس” عن نجاحهم في اختصار خطوات التصنيع إلى 3 خطوات فقط، وهو ما سيؤدي إلى الدفع بخروج هذا الدواء إلى الأسواق بسعر منخفض.
ويُعد إنزيم “جيه إن كيه” (الذي يُرف علميا باسم c-Jun N-terminal kinase) من الإنزيمات التي تلعب أدورا أساسية في تنظيم العمليات الخلوية المختلفة، كما كشفت العديد من الدراسات، ومن هذه الأدوار:
- الاستجابة للإجهاد الخلوي: يستجيب للضغوط المختلفة مثل الأشعة فوق البنفسجية والصدمة الحرارية.
- تكاثر الخلايا وتمايزها: يلعب أدوارا في نمو الخلايا وتكاثرها وتمايزها في كل من الحالات الطبيعية والمرضية.
- موت الخلايا المبرمج: مسارات إشاراته متورطة في تنظيم موت الخلايا المبرمج (آلية طبيعية وأساسية للحفاظ على توازن الأنسجة، والقضاء على الخلايا التالفة أو غير الطبيعية).
- التمثيل الغذائي: يشارك في تنظيم التمثيل الغذائي، بما في ذلك استقلاب الجلوكوز واستقلاب الدهون وإشارات الأنسولين.
وبسبب أهميته الكبيرة رُبط خلل تنظيم إشاراته بأمراض مختلفة، بما في ذلك السرطان واضطرابات التنكّس العصبي (مثل مرض ألزهايمر ومرض باركنسون) والحالات الالتهابية والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية.. وأدى فهم دوره في هذه الأمراض إلى إجراء أبحاث تهدف إلى تطوير مثبطات ومعدِّلات له كتدخلات علاجية محتملة.
وبينما نجحت دراسات سابقة معمليا في تطوير أدوية مثبطة لهذا الإنزيم، فإن سعره المرتفع للغاية حال دون تسويقه تجاريا، حيث يصل سعر الغرام الواحد منه إلى 3200 دولار، أي أكثر بـ50 مرة من غرام الذهب، ويرجع ذلك في الأساس إلى خطوات الإنتاج التي تصل إلى 12 خطوة، وهي المشكلة التي عالجها الباحثون بقسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا في دراستهم الجديدة عبر ابتكار طريقة غير مكلفة لإنتاج جزيء الدواء بكلفة 3 دولارات فقط للغرام.
ماذا فعل الباحثون؟
استخدم الباحثون طريقة للتخليق العضوي للمواد تُعرف باسم “الألكين الأميني”. وكان الإنجاز الذي توصل له الباحثون هو إدارة تلك العملية بمواد رخيصة السعر، وبخطوات أقل.
ويقوم التفاعل في عملية التخليق العضوي بطريقة “الألكين الأميني” على إدخال المجموعة الأمينية (NH2) في الجزيء، بينما يقوم في الوقت نفسه بإنشاء رابطة مزدوجة من الكربون (ألكين) في البنية، وتتضمن هذه الطريقة استبدال مجموعة وظيفية في الجزيء عبر وضع “ألكين” مكانها أثناء إدخال مجموعة أمينية في نفس ذرة الكربون أو بالقرب منها.
ويمكن أن تختلف الطرق والتقنيات المحددة لـ”ألكلين الأميني” اعتمادا على المواد الأولية والمنتجات المطلوبة، وفي كثير من الأحيان، تتضمن هذه التفاعلات استخدام الكواشف والمحفزات المناسبة لتعديل الجزيء بشكل انتقائي بطريقة خاضعة للرقابة، مما يسمح بتكوين الرابطة المزدوجة من الكربون (ألكين) ودمج المجموعة الأمينية.
وباستخدام الأكسجين ككاشف والنحاس كمحفز لكسر الرابطة المزدوجة من الكربون (ألكين) للعديد من الجزيئات العضوية المختلفة، واستبدل الباحثون في دراستهم هذه الروابط ووضعوا مكانها روابط “كربون/نيتروجين”، وحولوا الجزيئات إلى مشتقات من الأمونيا تسمى “الأمينات”.
ونظرا لأن الأمينات (التي تتميز بوجود ذرة نيتروجين مرتبطة بذرات الكربون أو ذرات الهيدروجين أو كليهما) تتفاعل بقوة مع الجزيئات الموجودة في النباتات والحيوانات الحية، فإنها تستخدم على نطاق واسع في المستحضرات الصيدلانية، وكذلك في المواد الكيميائية الزراعية، ولذلك فإن الإنتاج الصناعي لها يحظى باهتمام كبير، ولكن المواد الخام والكواشف المستخدمة في الإنتاج غالبا ما تكون باهظة الثمن، ويمكن أن تتطلب العمليات العديد من الخطوات المعقدة لإكمالها. وباستخدام خطوات أقل وبدون مكونات باهظة الثمن، يمكن للعملية التي تُطور في جامعة كاليفورنيا أن تنتج مواد كيميائية قيمة بكلفة أقل بكثير من الطرق الحالية.
أكثر المعادن وفرة في العالم
وتعتمد عملية الإنتاج التقليدية على محفزات من المعادن باهظة الثمن مثل البلاتين والفضة والذهب والبلاديوم، ومعادن ثمينة أخرى مثل الروديوم والروثينيوم والإيريديوم. لكن باحثي جامعة كاليفورنيا استخدموا الأكسجين والنحاس، وهو أحد أكثر المعادن الأساسية وفرة في العالم، وهذا لم يحدث من قبل كما تقول الاستاذة بقسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا والباحثة الرئيسية بالدراسة أوهيون كوون في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة.
وتضيف: “تستخدم طريقتنا شكلا من أشكال الأكسجين يسمى الأوزون -وهو عامل مؤكسد قوي- لكسر رابطة الكربون المزدوجة (ألكين) في الهيدروكربونات التي تسمى الألكينات، ومحفز النحاس لربط الرابطة المكسورة بالنيتروجين، وتحويل الجزيء إلى أمين، وجُربت هذه الآلية لإنتاج دواء السرطان الذي يعتمد على مثبطات إنزيم جيه إن كيه، وجاء ذلك في ثلاث خطوات كيميائية فقط بدلاً من 12 أو 13 خطوة لإنتاجه بشكل تقليدي”.
وفي مثال آخر وباستخدام نفس البروتوكول، يشير البيان الصحفي إلى أنه في خطوة واحدة فقط حُوّل “الأدينوزين” -وهو ناقل عصبي ووحدة بناء الحمض النووي التي تكلف أقل من 10 سنتات للغرام الواحد- إلى أحد التعديلات اللاجينية للحمض النووي الريبي (المعروفة باسم N6 ميثيلادينوسين) والتي تلعب أدوارا حاسمة في التحكم في التعبير الجيني في العمليات الخلوية والتنموية والمرضية. وكانت كلفة إنتاجه في السابق 103 دولارات للغرام.
4 تحديات حاسمة
ولا تزال تلك النتائج المبشرة التي توصل لها الباحثون في مرحلة التجارب المعملية، لذلك فإن أستاذ الصيدلية بجامعة الزقازيق (شمال شرق القاهرة) أيمن حلمي يرى أنه “ورغم ما تحقق من اختصار في عملية الإنتاج لثلاث خطوات فقط وخفض تكلفة إنتاج الغرام الواحد من الدواء، فإن هناك 5 تحديات تثير أسئلة يجب أن يجيب عليها الباحثون حتى يغادر بحثهم النطاق المعملي إلى الإنتاج التجاري الضخم”.
ويقول حلمي في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: أن هذه التحديات هي:
- الإنتاج الضخم: هل يمكن تطبيق هذه الطريقة عبر أنواع مختلفة من أدوية السرطان والمستحضرات العلاجية الأخرى، أم أن هناك قيودا على تطبيقها، وما مدى قابلية هذه العملية للإنتاج الضخم؟
- الكفاءة: كيف يمكن مقارنة كفاءة وسلامة وفعالية الأدوية المنتجة باستخدام هذه الطريقة مع تلك المنتجة من خلال الوسائل التقليدية والأكثر كلفة؟
- الأثر البيئي: هل لهذه الطريقة الجديدة أي فوائد أو عيوب بيئية مقارنة بالطرق التقليدية، وهل هي أكثر استدامة من حيث استخدام الموارد أو توليد النفايات؟
- التطبيق العملي: ما هي الخطوات العملية المطلوبة لتنفيذ هذه الطريقة الجديدة على المستوى الصناعي، وهل هناك أي عوائق أو تحديات محتملة قد تعوق التطبيق على نطاق واسع؟
- هذه الأسئلة التي تثيرها التحديات الأربعة، كان لدى الباحث بقسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا زيكي هي، اجابات عليها، خلال تصريحات خاصة لـ”الجزيرة نت” عبرالبريد الإلكتروني.
يقول زيكي إنهم يعملون حاليا على تحسين ظروف التفاعل بشكل أكبر بهدف تعزيز كفاءة محفز التفاعل (كلوريد النحاس) وإنتاجية التفاعل مع تقليل التفاعلات الجانبية، مشيرا إلى أنه أثناء سير هذا المشروع، أعربت شركتان عن اهتمامهما بأبحاثنا.
ولفت إلى أن التحديات التكنولوجية أو الصناعية التي تواجههم ليست كبيرة، والسبب هو أن كلا من تفاعل تحليل الأوزون والتحفيز النحاسي قد طُبقتا بشكل واسع على نطاق صناعي، واللوائح الخاصة بهما أصبحت راسخة، لكنهم سيعملون على إجراء المزيد من التجارب التي تؤهل فكرتهم للتطبيق العملي، وأهمها العمل على طرق تساعد على زيادة معدل الإنتاجية.
ومقارنة مع المحفزات الأخرى التي تُستخدم، يؤكد زيكي أن كلوريد النحاس الذي يستخدمونه لتحفيز التفاعل يتميز بسمّية منخفضة نسبيا، والمنتجات الثانوية الأولية لهذا التفاعل هي التربينويدات (فئة كبيرة ومتنوعة من المركبات العضوية التي تنتجها النباتات المختلفة وبعض الحشرات)، مما يشير إلى انخفاض التأثير البيئي بسبب قابليتها للتحلل.
ويقول: “حاليا، نقوم بالفعل بتحسين بنية المحفز وتحسين ظروف التفاعل لتقليل استخدام المحفز، وتعزيز كفاءة التفاعل، وتقليل حدوث التفاعلات الجانبية”.