نتخلص يوميا من جبال الزجاجات البلاستيكية المستعملة باستخدام طرق دفن النفايات أو الحرق، والتي قد تكون لها تداعيات بيئية سلبية. لكن فريقا بحثيا بريطانيا يزعم أنه وضع حلا لهذه المشكلة باستخدام الميكروبات.
وخلال الدراسة المنشورة في العدد الأخير من دورية “إيه سي إس سينترال ساينس”، أفاد الباحثون من كلية العلوم البيولوجية بجامعة إدنبره البريطانية بنجاحهم في الهندسة الجينية لبكتيريا الإشركية القولونية التي تعيش في الأمعاء، كي تتمكن من تحويل نفايات البولي إيثيلين تيريفثالات (PET) بكفاءة إلى حمض “الأديبيك”، والذي يستخدم بدوره لصنع الأدوية والعطور ومواد النايلون.
والبولي إيثيلين تيريفثاليت، مادة بلاستيكية حرارية تستخدم في جميع الصناعات الكيميائية الحديثة، ويتجاوز الطلب العالمي على هذه المادة نحو 30 مليون طن سنويا، ويصَمم أكثر من 80% منها للاستخدام مرة واحدة، مما يؤدي إلى 25 مليون طن سنويا من النفايات، ويساهم في أزمة نفايات عالمية، كما يقول الباحثون في مقدمة دراستهم.
وعلى الرغم من وجود أساليب كيميائية وميكانيكية راسخة لإعادة تدوير تلك النفايات، فإن تللك الأساليب ليست صديقة للبيئة بدرجة كافية. وفي المقابل فإن تقنيات إعادة التدوير الحيوي، المعتمِدة على العمليات الأنزيمية والكائنات الحية الدقيقة التي تعالج تلك المشكلة، لا تزال أقل رسوخا، وذلك بسبب عراقيل يزعم الباحثون أنهم نجحوا في تجاوزها خلال تلك الدراسة.
تدوير بتحفظات بيئية
وكما توضح دراسة نشرتها دورية “البويمرات” في يونيو/حزيران من العام الماضي، فإن التدوير الميكانيكي لنفايات البولي إيثيلين تيريفثالات، يعتمد على تجميعها ثم تنظيفها وتقطيعها إلى قطع صغيرة أو رقائق، ثم تُصهر تلك الرقائق الممزقة وتُبثق حراريا لتكوين كريات أو أشكال أخرى يمكن استخدامها لتصنيع منتجات جديدة.
والبثق الحراري، هو عملية تصنيع تتضمن تسخين مادة -عادة ما تكون بوليمر أو معدنا- إلى حالة ناعمة أو منصهرة، ثم تُدفع عبر قالب أو فوهة على شكل معين لإنشاء أشكال.
أما التدوير الكيميائي فيعتمد على ثلاثة أساليب شهيرة هي:
- أولا: أولا: تكسير البولي إيثيلين تيريفثالات باستخدام الجليكول (مادة ذات خصائص توصيل حراري جيدة) لإنتاج جزيئات صغيرة من مواد جلايكول الإيثيلين وحمض التريفثاليك، ويمكن بعد ذلك استخدام تلك الجزيئات لإنشاء مادة بلاستيكية جديدة.
- ثانيا: استخدام الميثانول لتحليل مادة البولي إيثيلين تيريفثالات إلى المونومرات المكونة لها لإعادة استخدامها في إنتاج المادة من جديد.
- ثالثا: تعريض نفايات مادة البولي إيثيلين تيريفثالات لدرجات حرارة عالية في غياب الأكسجين، مما يؤدي إلى تحللها إلى هيدروكربونات أصغر، ليتم استخدام هذه الهيدروكربونات كمواد خام لإنتاج البلاستيك الجديد أو كوقود.
وتبدو هذه الطرق أفضل من دفن النفايات وحرقها، إلا أنه لا تزال تثير بعض التحفظات البيئية، منها أنها طرق مستهلِكة للطاقة، وتنتج انبعاثات غازات الدفيئة خلال عملية الإنتاج، وهو ما دفع الباحثين للاتجاه إلى طرق التدوير الحيوي التي تَستخدم العمليات الإنزيمية والكائنات الحية الدقيقة، والتي تتغلب بدورها على تلك الآثار البيئية، لكنها لا تعطي إنتاجا كبيرا يكون مجديا من الناحية الاقتصادية، لأسباب تتعلق بعدم العثور على الإنزيمات الأكثر كفاءة في التحليل، كما أن عملية التحلل تكون بطيئة للغاية.
ونجح باحثو الدراسة الجديدة في تجاوز تلك العراقيل لتثبيت أقدام طرق التحلل الحيوي كخيار صديق للبيئة ومجدٍ اقتصاديا في الوقت نفسه، وذلك بالعثور على الإنزيمات المناسبة التي هُندست بكتيريا الإشركية القولونية لإنتاجها واستخدامها في عملية التحلل، وصولا إلى إنتاج مركب اقتصادي هام هو حمض “الأديبيك”.
من نكهة الفانيلا إلى حمض متعدد الاستخدامات
ويوضح تقرير نشره الموقع الرسمي للجمعية الكيميائية الأميركية، أن الدراسة الجديدة استكمال لجهد سابق بذله باحثون بجامعة إدنبره وآخرون، وذلك بهدف تعظيم القيمة الاقتصادية لعملية التدوير الحيوي لمادة البولي إيثيلين تيريفثالات.
وفي السابق، نشر الباحثون دراسة أعلنوا فيها عن تصميم سلالة من الإشركية القولونية لتحويل المكون الرئيسي في زجاجات البولي إيثيلين تيريفثالات القديمة -وهو حمض التريفثاليك- إلى شيء ألذ وأكثر قيمة وهو مركب نكهة الفانيلا. وفي الوقت نفسه، قام باحثون آخرون بهندسة ميكروبات لاستقلاب حمض التريفثاليك وتحويله إلى مجموعة متنوعة من الجزيئات الصغيرة، بما في ذلك الأحماض القصيرة.
وفي الدراسة الجديدة سعى الباحثون لتوسيع مسارات التخليق الحيوي للإشركية القولونية لتقوم باستقلاب حمض “التريفثاليك” وتحويله إلى حمض “الأديبيك”.
ويُعرف هذا الحمض أيضا باسم “حمض ثنائي الكربوكسيل”، وهو مسحوق بلوري أبيض ذو طعم حمضي قليلا، ويستخدم في العديد من الصناعات:
- صناعة النسيج: ويدخل كمادة خام في إنتاج النايلون، وهو نوع من البوليمر الاصطناعي الذي يدخل على نطاق واسع في صنع الألياف والأقمشة وغيرها من المواد.
- صناعة الأدوية: ويدخل كسواغ في تركيب الأدوية، و”السواغات” مواد غير نشطة تضاف إلى التركيبات الصيدلانية للمساعدة في عملية التصنيع أو تحسين الاستقرار أو تعزيز توصيل المكون الصيدلاني النشط.
- مستحضرات التجميل: ويمكن العثور عليه في مستحضرات التجميل ومنتجات العناية الشخصية، حيث يمكن استخدامه في تركيبات مثل الكريمات والمستحضرات والشامبو.
- صناعة المواد الغذائية: ويستخدم كمضاف غذائي لإضفاء طعم لاذع قليلاً، ويستخدم في بعض الحلويات الجيلاتينية ومساعدات التبلور، وكذلك في بعض المشروبات ومنتجات المخابز.
- صناعة السيارات: ويستخدم في إنتاج رغاوي “البولي يوريثان”، والمواد الأخرى المستخدمة في التصميم الداخلي للسيارات.
ويتم تصنيع هذا الحمض بكميات تصل إلى 2.6 مليون طن/سنة، وذلك باستخدام عمليات كثيفة للطاقة تُطلق أكسيد النيتروز في الغلاف الجوي، والذي يساهم بشكل كبير في ارتفاع مستويات الغازات الدفيئة العالمية، حيث يعادل الكيلوغرام الواحد منه 298 كيلوغراما من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (مقياس يسمح بمقارنة الكمية المنبعثة من غازات الاحتباس الحراري بقدرة هذه الانبعاثات على إحداث إحترار عالمي).
عصفوران بحجر واحد
وعلى ذلك، فإن إنتاج حمض “الأديبيك” متعدد الاستخدامات من مخلفات مادة “البولي إيثيلين تيريفثالات” باستخدام طريقة التدوير الحيوي، المعتمِدة على بكتيريا “الأشركية القولونية”؛ يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو من ناحية يخلص البيئة من مخلفات تلك المادة، ومن ناحية أخرى يتيح إنتاج الحمض بطريقة حيوية غير ملوِّثة للبيئة.
ويقول الباحثون في دراستهم، إنه للوصول إلى حمض الأديبيك من مخلفات مادة البولي إيثيلين تيريفثالات، تُستخدم سلالتان مهندستان وراثيا من البكتيريا تنتجان 8 إنزيمات مهمة في عملية التحلل الحيوي، حيث تنتج إحدى السلالات إنزيمات يمكنها تحويل حمض التريفثاليك (المكوِّن الرئيسي في زجاجات البولي إيثيلين تيريفثالات) إلى مركبات مثل حمض الموكونيك، ومن ثم لتحويل حمض الموكونيك إلى حمض الأديبيك.
كما استخدموا سلالة ثانية مهندسة وراثيا من الإشركية القولونية تساعد إنزيماتها في إنتاج غاز الهيدروجين مع استخدام نوع من المحفزات يسمى “محفز البلاديوم”.
وفي التجارب المعملية، وجد الفريق أن البكتيريا المهندسة نجحت خلال وقت قصير في تحويل ما يصل إلى 79% من حمض التريفثاليك إلى حمض الأديبيك.
وفي حديث مع “الجزيرة نت” عبر البريد الإلكتروني، يقول ستيفن والاس الأستاذ بمعهد البيولوجيا الكمية والكيمياء الحيوية والتكنولوجيا الحيوية بكلية العلوم البيولوجية بجامعة إدنبره، والباحث الرئيسي بالدراسة: إن “الإشركية القولونية تعتبر كائنا دقيقا مثاليا لهذا العمل، حيث يمكن تعديلها وراثيا بسهولة، مما يمكننا من اختبار مسارات جديدة لإنتاج حمض الأديبيك بسرعة كبيرة”.
ويتوقع والاس أن تَستخدم هذه التكنولوجيا عند تطبيقها على نطاق واسع، نفايات المواد البلاستيكية مباشرة في عمليات تخمير واسعة النطاق، حيث سيتم عزل حمض الأديبيك مباشرة من المفاعل الحيوي.
ويؤكد أن عملية الإنتاج تتم في ظل ظروف معتدلة ولا تطلق أي غازات دفيئة، مقارنة بعملية التصنيع الحالية غير المستدامة إلى حد كبير لحمض الأديبيك، والتي تستخدم الوقود الأحفوري وتطلق كميات كبيرة من غازات الدفيئة.
ويضيف: “نحن نعمل الآن بشكل وثيق مع الشركاء الصناعيين لتقييم الجدوى التجارية لهذه العملية على مدى السنوات القادمة”.