في عالم ينوء بالأزمات والمشاكل الاقتصادية والحياتية، تكرر في عام 2023 كثيرا السؤال عن القيمة المضافة لأبحاث يتم إجراؤها على الحفريات وفي الفضاء وتتكلف أموالا طائلة. ولم يجد العلماء من المتخصصين في هذه المجالات صعوبة في الرد على هذا السؤال؛ بشكل نظري عبر توضيح قيمة أبحاثهم، وبشكل عملي عبر مزيد من الاكتشافات التي أماطت اللثام عن المزيد من أسرار الكون المبكر والحياة القديمة.
يقول رئيس قسم الفلك بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر أشرف شاكر في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إن “الحديث عن قيمة أبحاث الفضاء هو سؤال قديم، لكنه تكرر كثيرا منذ عام 2022 مع الضجة التي صاحبت الإعلان عن أول صورة لتلسكوب جيمس ويب، وشهد عام 2023 إعادة طرح السؤال مجددا مع توالي الاكتشافات الاستثنائية للتلسكوب التي كان يحتفي بها المجتمع العلمي ويسأل الرجل العادي عن الفائدة التي ستعود عليه منها”.
ويوضح شاكر أنه “إذا كانت لا توجد تأثيرات فورية وملموسة لهذه الاكتشافات على الحياة اليومية، فإن لديها القدرة على تغيير فهمنا للكون، وإلهام التقدم العلمي، وتمهيد الطريق للتقنيات المستقبلية التي يمكن أن تفيد البشرية بشكل غير مباشر بطرق عديدة”.
أسئلة تثار.. نظريات تُهدم
ونجحت اكتشافات التلسكوب خلال عام 2023 في إثارة أسئلة بحثية قد تغير إجاباتها فهمنا للكون، كما أدت إلى هدم نظريات قديمة في الفيزياء الكونية، ودشنت نظريات جديدة، ومن أبرز هذه الاكتشافات ما يلي:
- 1- 6 مجرات.. محطمات الكون
اكتشف تلسكوب جيمس ويب الفضائي ست مجرات هائلة يعود تاريخها إلى وقت كان فيه الكون في مرحلة 3% فقط من عمره الحالي، أي نحو 500 إلى 700 مليون سنة بعد الانفجار العظيم.
وأثار هذا الاكتشاف ضجة في العالم الفلكي، حيث رأى بعض العلماء أنه يضع رؤيتنا الحالية لتطور المجرات أو حتى فهمنا للكون، موضع شك، وهو ما دعاهم لوصفها بـ”محطمات الكون”، لأن وجودها يحطم ما يعرفه العلماء عن بدايات المجرات في كوننا.
والمجرات المكتشفة، كما كشفت دراسة عنها نشرتها دورية “نيتشر” في فبراير/شباط الماضي، كانت أكبر بكثير مما كان يُفترض أنه ممكن بالنسبة للمجرات في وقت مبكر جدا بعد الانفجار العظيم، حيث إنها ناضجة مثل مجرتنا “درب التبانة”.
وتملك تلك المجرات كتلا نجمية تصل إلى عشرة مليارات ضعف كتلة شمسنا، وواحدة منها يمكن أن تكون ضخمة بما يعادل 100 مليار كتلة شمسنا.
- 2- التمهيد لفيزياء كونية جديدة
يلاحظ العلماء الذين يدرسون توسع الكون معدلات مختلفة اعتمادا على المكان الذي ينظرون إليه. وقبل تلسكوب جيمس ويب، قامت تجربتان رئيسيتان بقياس ذلك، وهما:
- – تجربة باستخدام القمر الصناعي “بلانك”، كشفت عن معدل توسع قدره 67 كيلومترا في الثانية لكل ميغابارسيك (وحدة مسافة يستعملها الفلكيون لقياس المسافات الكبيرة للأجرام الفلكية خارج النظام الشمسي).
- – تجربة باستخدام تلسكوب هابل الفضائي، وجدت معدلا أعلى قدره 73 كيلومترا في الثانية لكل ميغابارسيك من خلال دراسة النجوم النابضة التي تسمى” القيفاويات”.
والقيفاويات هي نوع خاص من النجوم المتغيرة التي تنبض بانتظام في الحجم والسطوع، وتتوسع هذه النجوم وتنكمش بشكل إيقاعي، مما يتسبب بتقلب سطوعها خلال فترة يمكن التنبؤ بها، وترتبط فترة النبض هذه ارتباطا مباشرا باللمعان الجوهري للنجم أو السطوع الحقيقي.
والميزة الرائعة لهذا النجوم هي أن هناك علاقة واضحة بين فترة تباين سطوعها وسطوعها الفعلي، وتسمح هذه العلاقة لعلماء الفلك باستخدامها كـ”شموع قياسية” في الفضاء، مما يعني أنه يمكن استخدام سطوعها المعروف لتحديد المسافات إلى المجرات البعيدة. فمن خلال مراقبة فترة تغيرات سطوعها يمكن للعلماء قياس لمعانها بدقة، والذي عند مقارنته بسطوعها المرصود يساعد في حساب المسافة إلى هذه الأجرام السماوية، وكانت هذه الطريقة حاسمة في قياس المسافات داخل مجرتنا وخارجها، مما ساهم بشكل كبير في فهمنا لحجم الكون وتوسعه.
وحاول العلماء تفسير الاختلاف بين تجربة هابل والتلسكوب بلانك، فاقترحوا أن سببها عدم تمييز هابل بين النجوم القيفاوية ونجوم الخلفية (الأجرام السماوية التي ليست محور المراقبة الأساسي ولكنها موجودة في مجال الرؤية)، ولكن تلسكوب جيمس ويب الفضائي بدد هذا التفسير عندما وصلت التجربة التي استخدمته إلى أن معدل توسع الكون يبلغ 74 كلم/ثانية/ميغابارسيك، وهي نتيجة مقاربة لما وصل له تلسكوب هابل، وأُعلن عن هذه النتيجة في دراسة نشرها موقع ما قبل طباعة الأبحاث (أرخايف).
ودفعت هذه النتيجة علم الكونيات إلى “أزمة”، حيث بدا عاجزا عن تفسير سبب الاختلاف بين رصد القمر الاصطناعي “بلانك” وتلسكوب “هابل”، ويمكن أن تكشف المزيد من التجارب باستخدام “جيمس ويب”عن المزيد من المفاجآت في هذا الاتجاه، بما قد يقود إلى فيزياء كونية جديدة.
- 3- العثور على أقدم ثقب أسود في الكون
لم تقتصر اكتشافات “جيمس ويب” على المجرات القديمة، بل ضمت قائمة اكتشافاته هذا العام ثقوبا سوداء؛ الأول هو ” سي إي إي آر إس 1019″، وتبلغ كتلته 10 ملايين مرة كتلة شمسنا، وتعود نشأته إلى 570 مليون سنة فقط بعد الانفجار الكبير، مما يجعله أقدم ثقب أسود رُصد على الإطلاق في وقت اكتشافه في أبريل/نيسان 2023، وأُعلن عن هذا الاكتشاف في دراسة نشرها موقع ما قبل طباعة الأبحاث (أرخايف).
ولم تمر سوى عده شهور حتى كان التلسكوب على موعد في شهر ديسمبر/كانون الأول مع اكتشاف ثقب أسود آخر، يعود تاريخه إلى وقت سابق عن الأول هو “440 مليون سنة من بداية الكون” أو بعد الانفجار الكبير.
ويدرس علماء الفيزياء الفلكية حاليا كيف تشكلت هذه الثقوب السوداء، وتشمل خيارات تشكلها من الانهيار السريع لسحب الغاز العملاقة، أو ربما تكون قد نبتت من أخرى “بدائية” يُعتقد أنها تكونت بعد لحظات من بداية الكون.
- 4- نظرية جديدة لتشكل الكواكب
وكانت عين التلسكوب فائقة القوة على موعد مع اكتشاف أجسام جديدة تماما وغير قابلة للتفسير، حيث رصدت 42 زوجا من الأجسام الثنائية ذات كتلة المشتري، وهي كواكب بحجم المشتري تنجرف عبر الفضاء في أزواج، بعضها بعيد عن بعضها البعض بمقدار 390 ضعف المسافة بين الأرض والشمس.
وتعتبر هذه الكواكب صغيرة جدا بحيث لا يمكن اعتبارها نجوما، ولكن نظرا لوجودها بشكل محير في أزواج، فمن غير المرجح أن تكون كواكب مارقة مقذوفة من الأنظمة الشمسية. وقد نبه هذا الاكتشاف علماء الفلك إلى آلية جديدة تماما لتشكل الكواكب أُعلن عنها في دراسة نشرت بموقع ما قبل طباعة الأبحاث (أرخايف).
فهم الحاضر من بقايا الماضي
وتبدو الفوائد الحياتية التي تعود على عالمنا المعاصر أوضح بشكل كبير في مجال دراسة الحفريات القديمة، كما يقول أستاذ الحفريات بجامعة جنوب الوادي المصرية خالد عبد الجواد.
ويعدد عبد الجواد في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، الأسباب المنطقية التي تجعل من دراسة الحفريات كنزا لا يقدر بثمن يساعد في فهم الحاضر من خلال بقايا الماضي، ومن هذه الأسباب:
- أولا: فهم أصول الإنسان
فالأبحاث الأحفورية تتيح لنا تتبع التاريخ التطوري للحياة على الأرض، بما في ذلك جنسنا البشري، ومن خلالها نكتسب نظرة ثاقبة عن أسلافنا وسلوكياتهم وتكيفاتهم والتغيرات البيئية التي شكلت التطور البشري.
- ثانيا: رؤى طبية
فالحفريات توفر معلومات مهمة عن الأمراض القديمة، ويمكن أن يؤدي فهم كيفية تعامل الكائنات القديمة مع الأمراض أو التحديات الجسدية إلى تقديم نظرة ثاقبة للحالات الطبية الحديثة والعلاجات المحتملة.
- ثالثا: التنوع البيولوجي وديناميكيات النظام البيئي
فالسجلات الأحفورية توفر نافذة على النظم البيئية السابقة، مما يوضح كيفية تفاعل أشكال الحياة وتطورها واستجابتها للتغيرات البيئية، وتعتبر هذه المعرفة ضرورية لفهم أنماط التنوع البيولوجي الحالية والتنبؤ بكيفية استجابة النظم البيئية للتحديات المعاصرة مثل تغير المناخ.
حفريات قديمة.. تاريخ جديد للديناصورات
ولتحقيق هذه الأغراض التي أشار إليها عبد الجواد، كان عام 2023 مليئا بالاكتشافات الهامة في مجال حفريات الديناصورات التي عاشت على الأرض منذ نحو 66 مليون سنة، فقد اكتشف العلماء المزيد من الأدلة القديمة عن سكان كوكبنا السابقين، ومنها:
- 1- أول اكتشاف لطعام داخل أحشاء ديناصور
اكتشف باحثون في كندا بقايا شبه كاملة لتيرانوصور مراهق مع وجباته النهائية المحفوظة بشكل مثالي في معدته، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها العثور على طعام داخل أحشاء الديناصور، وتم الإعلان عن هذا الاكتشاف في دورية “ساينس أدفاسيس”.
واحتوت معدة الديناصور اليافع الذي يعود تاريخه إلى نحو 75 مليون سنة، على مجموعتين من الأرجل الخلفية تعود إلى الديناصور الأصغر الشبيه بالطيور “سيتيبس ايليغانس”، ويعتقد الباحثون أن الديناصور مزق الديناصورات الأصغر حجما إلى نصفين وأكل أرجلها، تاركا بقية أجسادها دون مساس.
- 2- نوع جديد من التيتانوصور
تم التعرف على نوع جديد من التيتانوصور من خلال حفريات عمرها 122 مليون سنة عثر عليها في إسبانيا، وأُعلن عن هذا الاكتشاف في دورية “علم الحيوان”.
وينتمي النوع الذي تم تحديده حديثا ويحمل اسم “غارومباتيتان موريلينسيس”، إلى مجموعة الصوربوديات (الديناصورات طويلة العنق).
وحتى الآن، لم يعرف العلماء أين نشأت الصربوديات، لكن الحفريات الجديدة تشير إلى أنها ربما ظهرت لأول مرة حول ما يعرف الآن بشبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال).
- 3- انتصار لحيوان من القوارض على ديناصور
وثقت حفرية اكتشفها باحثون صينيون انتصار الحيوان الثديي الشبيه بالقوارض “ريبينوماموس روبوستوس” على الديناصور من جنس “البسيتاكوصور”، لأن أسنان هذا المخلوق الصغير المكسو بالفراء كانت مدمجة في القفص الصدري للديناصور.
ويقلب الاكتشاف الجديد، الذي أُعلن عنه في دورية “ساينتفيك ريبورتيز”، افتراضات الباحثين بأن الديناصورات كانت تصطاد الثدييات بشكل رئيسي وليس العكس.
- 4- اكتشاف أول حنجرة لديناصور
فقد اكتشف باحثون في منغوليا صندوق صوت (حنجرة) عمره 80 مليون سنة من ديناصور مدرع، وهي أول حنجرة لديناصور غير طائر يتم العثور عليها على الإطلاق، وأُعلن عن هذا الاكتشاف المهم في دورية “كومينيكيشن بيولوجي”.
واعتقد الباحثون أن معظم الديناصورات تتواصل عبر همهمات وهسهسة ودمدمة وزئير شبيه بالتماسيح، ومع ذلك يشير شكل وبنية الصندوق الصوتي إلى أنه كان قادرا على إصدار أصوات تشبه أصوات الطيور بما في ذلك التغريدات، مما يشير إلى أن الديناصورات ربما كانت تمتلك ذخيرة صوتية أكثر تعقيدا مما كان يُعتقد سابقا.
- 5- ديناصور منقار البط
اكتشف الباحثون ديناصور منقار البط الذي لم يسبق له مثيل في تشيلي، وتم إحياؤه في فيلم رسوم متحركة مذهل أظهره وهو يمشي ويشرب ويتواصل مع الآخرين.
وينتمي هذا النوع من الديناصورات إلى “الهادروصور” أو “بطيات المنقار”، وأطلق عليه الباحثون اسم “جونكوكين نانوي”، ويعود تاريخه بعد تحديده حديثا إلى نحو 72 مليون سنة مضت.
ومن خلال تحليل أسنانه وفقراته وعظام جمجمته وشظايا فكه وعظام أطرافه وأضلاعه، أعاد الباحثون تكوين الشكل الذي قد يبدو عليه وكيف يتصرف، وأُعلن عن النتائج في دورية “ساينس أدفانسيس”.
ويعتقد الباحثون أن “جونكوكين نانوي” يمثل “رابطا تطوريا” بين أنواع الهادروصورات الأكبر سنا والأصغر سنا.
حفريات النياندرتال.. معين لا ينضب
وتبدو اكتشافات حفريات الديناصورات أقرب لتفسير ظواهر بيئية حديثة، لكن الحفريات الأخرى الأقرب صلة للبشر، وهي تلك التي تتعلق بالإنسان البدائي “النياندرتال”، تساعد في تفسير بعض سلوكياتنا الحالية، وتقدم تفسيرا لبعض الأمراض التي نعاني منها.
ومنذ أول اكتشاف لبقايا إنسان نياندرتال في القرن التاسع عشر، فإن الأبحاث التي أجريت عليه قادت باستمرار إلى معين لا ينضب من الاكتشافات، ولكن التطورات الأخيرة في استخراج البقايا الوراثية من الحفريات القديمة، جعلت عام 2023 مميزا في اكتشافاته، ومنها:
- 1- الحمض النووي.. سر الاستيقاط المبكر
فمن أحدث اكتشافات عام 2023 العثور على تفسير في الحمض النووي لإنسان النياندرتال لكون بعض الأشخاص المعاصرين ينامون مبكرا ويستيقظون مبكرا.
ووجد الباحثون من جامعة كاليفورنيا في الدراسة المنشورة بدورية “جينوم بيولوجي آند إيفلويشن”، أن الحمض النووي الموروث من النياندرتال قد يفسر لماذا يجد البعض راحة عند الاستيقاظ مبكرا والذهاب إلى الفراش في وقت مبكر أكثر من غيرهم.
وعلى الرغم من أن معظم الجينات التي اكتسبها الإنسان الحديث من خلال التهجين القديم قد تخلص منها عن طريق التطور، فإن جزءا صغيرا منها بقي قائما، على الأرجح لأنها ساعدت البشر المعاصرين الأوائل على التكيف مع البيئة الجديدة عندما غادروا أفريقيا إلى أوراسيا.
ويقول جون كابرا عالم الأوبئة بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو والباحث الرئيسي في الدراسة: “من خلال تحليل أجزاء الحمض النووي للنياندرتال التي بقيت في الجينوم البشري الحديث، اكتشفنا اتجاها مذهلا، وهو أن الكثير منها يؤثر على الجينات التي تتحكم في ساعات الجسم البيولوجية لدى الإنسان المعاصر، وفي معظم الحالات يزيد الميل إلى أن يكون شخصا صباحيا”.
- 2- بقايا جينية.. القدرة على تحمل الألم
معظم البشر المعاصرين لديهم قدر ما من الحمض النووي للنياندرتال، وهو يمثل ما يصل إلى 3% من الجينوم لدى بعض الناس.
وعلى الرغم من أن هذه البقايا الجينية ليس لها تأثير كبير على حياتنا اليومية، فإنها قد تكون مسؤولة عن تأثير واحد، وهو تحمل الألم.
ويظهر بحث جديد لباحثين من جامعة كلية لندن نشرته دورية “كومينيكيشن بيولوجي”، أن الأشخاص الذين لديهم متغيرات إنسان نياندرتال في الجين “إس سي إن 9 إيه”، لديهم قدرة أقل على تحمل الألم من الأشخاص الذين لا يملكون الجين.
وهذه ليست بقايا إنسان النياندرتال الوحيدة التي تم تناقلها، فقد حددت دراسة أخرى أجريت في وقت سابق من هذا العام منطقة معينة من الجينوم تؤثر على شكل الأنف، إذ إن الإنسان الحديث توارث الأنوف الأطول والأعرض من أسلافنا البدائيين الذين عاشوا في مناخات أكثر برودة.