مقدمة للترجمة
يتبنى معظم الفيزيائيين افتراضًا يشير إلى وجود عالم خارجي مستقل تمامًا عنا، وهو واقع موضوعي (أي موجود كما هو، بغض النظر عن الطريقة التي نراه أو نفهمه بها*)، حيث تتصرف الأشياء وفقًا لقوانين فيزيائية ثابتة. لكن دانييل أوريتي، وهو عالم في الفيزياء النظرية بجامعة كومبلوتنسي بمدريد، يرى أن التفكير على هذا النحو ساذج، سواء على المستوى المفاهيمي أو الفلسفي. فالعلوم الحديثة وخاصة ميكانيكا الكم تطمس الصورة التقليدية عن العالم. ومن الدروس الرئيسية التي تعلمناها من ميكانيكا الكم أن الحدود الفاصلة بين المراقب (الإنسان)، والعالم الخارجي ليست واضحة كما نظن.
نص الترجمة
يتبنى معظم الفيزيائيين افتراضًا يشير إلى وجود عالم خارجي مستقل تمامًا عنا، وهو واقع موضوعي (أي موجود كما هو، بغض النظر عن الطريقة التي نراه أو نفهمه بها*)، حيث تتصرف الأشياء وفقًا لقوانين فيزيائية ثابتة. لكن ما إن تطورت النظرية الكمية في القرن الماضي، حتى تسببتْ في لجة متقافزة من تساؤلات محيّرة أخذت تحوم على غير هدى في رؤوس العلماء حول دور المراقبين -بما في ذلك نحن بصفتنا أفرادًا- في تشكيل هذا الواقع.
وفي مواجهة مثل هذه التساؤلات الفلسفية المتعلِّقة بالواقع ودور المراقبين فيه، التي غالبًا ما يُغفَل عنها، يظهر دور دانييل أوريتي، وهو عالم في الفيزياء النظرية بجامعة كومبلوتنسي بمدريد. ولعل السبب الحقيقي الكامن وراء سعيه الحثيث للإجابة عن هذه التساؤلات هو عمله على أحد أكبر التحديات في الفيزياء الحديثة، وهو تطوير نظرية كمية للجاذبية. وتكمن الصعوبة هنا في التوفيق بين الصورة السلسة للزمكان التي يقدمها كلّ من النسبية العامة ونظرية الكم، اللتين تُعبران عن الكون بلغات رياضية متناقضة.
لكن ظلتْ محاولة التوفيق بين هاتين النظريتين هاجسًا يهدد صفاء سريرته، لهذا اضطر أوريتي إلى التفكير بعمق في القوانين الفيزيائية وطبيعتها، وتوصل إلى أن المفهوم التقليدي للزمكان ليس أساسًا ثابتًا أو متينًا يمكن أن يعوَّل عليه لبناء القوانين الفيزيائية. وبناءً عليه لا يمكن لقوانين الفيزياء أن تكون مستقِلّة تمامًا عن المراقبين أو البشر، ولا يمكن أن تكون شيئًا موضوعيًّا نتفق عليه جميعًا. وبدلًا من ذلك، يرى أوريتي أن هذه القوانين قد تكون مرتبطة بوجودنا أو إدراكنا للواقع، أي قد تكون جزءًا من كيفية فهمنا أو إدراكنا للعالم، وليست شيئًا ثابتًا ومستقِلًّا عنّا.
توماس لوتون: ما الذي يخطئ الناس فيه فيما يتعلق بطبيعة الواقع؟
دانييل أوريتي: ربما ما سأقوله قد يثير الجدل، ومع ذلك أرى أنه من المهم التعبير عنه؛ فالغالبية العظمى من العلماء والأشخاص الذين لم يتعمَّقوا في هذه القضية، يميلون إلى تبنّي ما يُطلِق عليه الفلاسفة “الواقعية الساذجة”. تفترض هذه الفلسفة وجود عالم مستقل تمامًا عن البشر، ليس مستقلا فقط في وجوده، بل أيضا في خصائصه. بمعنى أن الأشياء الموجودة تمتاز بطبيعتها الخاصة، سواء كنا ندركها أم لا، وأن هذه الخصائص مستقِلّة عن العقول التي تدركها ونظرياتنا حولها. كما تفترض أن العالم يتكون من أشياء تُعرَّف بصورة مستقِلّة وتتمتع بخصائص جوهرية، وأن هذه الأشياء تتبع أنماطًا سلوكية لا تعتمد علينا حتى وإن لم نكن نعرفها أو نفهمها تمامًا.
لقد سبق لي الوقوع في هذا الفخ من قبل. فبصفتك طالبًا تدرس الفيزياء، سيكون من الطبيعي أن تراودك رغبة مُلِحّة في فهم العالم. ولتحقيق هذه الرغبة تبدأ في بناء نماذج ومن ثَم تعديلها، وتتصور أنك بذلك تقترب أكثر فأكثر من القصة الحقيقية، في حين أن طريقة التفكير هذه تعتبر غاية في السذاجة.
لماذا يُعتبر هذا النوع من التفكير ساذجا إلى هذا الحدّ؟
أولًا وقبل كل شيء، يُعدُّ التفكير على هذا النحو ساذجًا بالفعل سواء على المستوى المفاهيمي أو الفلسفي. فالعلوم الحديثة وخاصة ميكانيكا الكم تطمس الصورة التقليدية عن العالم. ومن الدروس الرئيسية التي تعلمناها من ميكانيكا الكم أن الحدود الفاصلة بين المراقب (الإنسان)، والعالم الخارجي ليست واضحة كما نظن. وتخبرنا أيضًا أن خصائص الجسيم ليست مُحددة مُسبقًا، بل تغدو مشفرّة في كيان احتمالي يُسمى “الدالة الموجية”، التي تخبرنا باحتمال ظهوره في أماكن معينة على سبيل المثال. إضافة إلى ذلك، لا يمكن إسناد خصائص معينة إلى الجسيم حتى يرصده المراقب، وهو ما يؤكد أهمية المراقبين في فهم الواقع.
كيف ينبغي لنا أن نفكر في هؤلاء المراقبين؟
يوجد العديد من التفسيرات المختلفة لهذه النتائج التجريبية في ميكانيكا الكم، التي يمكن تقسيمها إلى فئتين رئيسيتين. تشير الفئة الأولى إلى أن الحالة الكمية، أو ما يُعرَف بـ”الدالة الموجية”، تمثل خاصية حقيقية للنظام، مثل موقع الجسيم أو سرعته (في هذه التفسيرات، تُعتبر الدالة الموجية جزءًا فعليًّا من الواقع المادي، وليست مجرد أداة رياضية لوصف الاحتمالات*). وهو ما قد يسمح لهذه التفسيرات بالاحتفاظ بالمفهوم التقليدي للواقعية، الذي يفترض أن الأشياء موجودة وتتمتع بخصائص مستقِلّة عن المراقب، مع إضافة فكرة الحالات الكمية بوصفها خصائص جوهرية للنظام الفيزيائي.
لكن تفسيرات أخرى لميكانيكا الكم تشير إلى أن الدالة الموجية (التي تمثل حالة الجسيم) ليست خاصية حقيقية للجسيم نفسه، بل هي شيء يضيفه المراقب بناءً على معرفته بالجسيم. بمعنى آخر، تصبح الدالة الموجية طريقة المراقب لتمثيل أو وصف ما يعرفه عن الجسيم. وفي هذه الحالة تُعرَف الدالة الموجية بالدالة “الإبستيمية” أو الدالة “المعرفية”.
يعتقد بعض الفيزيائيين الذين يتبعون هذا النهج المعرفي أن هناك واقعًا مخفيًا مشابهًا للفهم التقليدي للواقع، لكنه خفي ويتعذّر على الحالات الكمية (مثل الدالة الموجية) التعبير عنه. أما التفسيرات الأكثر جوهرية فتُقرّ بعدم وجود واقع خفي أو واقع عصي على إدراكنا. وبالتالي فالواقع ليس شيئًا مستقلًّا بذاته، بل يتحدد فقط من خلال العلاقات بين المراقبين وما يلاحظونه.
ولعل المثال الأكثر تطرفًا لذلك هو نظرية “ميكانيكا بيشان الكمية”، التي ترى أن الدالة الموجية (الحالة الكمية) ليست أكثر من مجرد أداة يستخدمها المراقب لتنظيم الشكوك التي تراودنا إزاء العالم. بمعنى أن الدالة الموجية لا تعبِّر عن الواقع في حد ذاته، بل تُستَخدم لفهم ما يقف وعينا حياله حائرًا. ويُلقي التفسير الثاني الضوء على ميكانيكا الكم العلائقية، التي ترى أن جوهر الواقع لا يكمن في الأشياء نفسها أو خصائصها المستقلِّة، بل في التفاعلات والأواصر التي تربط بين هذه الأشياء.
كيف أثرت أبحاثك في مجال الجاذبية الكمية في فهمك للقوانين الفيزيائية؟
حتى لو افترضنا أن هذه القوانين الفيزيائية موجودة بصورة مستقلّة عنا، فإن البحث في مجال الجاذبية الكمية يجعل تحديد طبيعتها أو خصائصها أكثر تعقيدًا. يبدأ بعض المفاهيم الفلسفية الأساسية للقوانين بفكرة مفادها أن ثمة حقائق موضوعية موجودة في العالم وبإمكاننا العثور على أنماط تُوجِد آصرة بين هذه الحقائق، في حين تتجاوز القوانين الفيزيائية هذه الأنماط، وتُظهِر علاقة أعمق معها.
يُقال إن القوانين “تتجاوز” الحقائق، مما يعني أنها تعتمد عليها بطريقة معينة، لكنها لا تقتصر فقط على ما تراه العين. في النهاية، تُعتبر كل من الحقائق والقوانين الفيزيائية واقعًا حقيقيًّا وموضوعيًّا في العالم، مما يبرز العلاقة بينهما ويؤكد أنهما كليهما جزء من الطبيعة المادية للواقع. (بعبارة أخرى، القوانين ليست مجرد تجميع للحقائق، بل هي تعبير عن العلاقات والتفاعلات بين هذه الحقائق*).
على الجانب الآخر، نواجه مشكلة تتعلق بفهم القوانين الفيزيائية في ضوء الأبحاث الحديثة حول الجاذبية الكمية. تشير هذه المشكلة إلى أن المكان والزمان يشكلان عنصرين رئيسيين في تحديد الحقائق حول العالم وربطها معًا. فمثلًا، عند مراجعة الاقتراحات الرئيسية من الفلاسفة حول ماهية القوانين، سنجد أن جميعها يعتمد إلى حد ما على المكان والزمان. ومع ذلك، تشير أبحاث الجاذبية الكمية إلى أن المكان والزمان قد لا يكونان عنصرين أساسيين أو جوهريين كما كنا نعتقد. بل من المفترض أن يظهرا فقط بوصفهما جزءًا من تقريبات معينة، وليس جزءًا من البنية الأساسية للواقع. وهو ما يطرح السؤال التالي: كيف سيؤثر ذلك في فهمنا للقوانين الفيزيائية؟ في الأغلب، سيتطلب الأمر استبدال المكان والزمان بأسس بديلة لفهم القوانين.
ماذا تقصد بأن الزمكان ليس أساسًا ثابتًا في الكون، وإنما مجرد نتيجة لتفاعلات فيزيائية؟
نواجه حتى الآن قصورًا في وجود نظرية شاملة للجاذبية الكمية، لكن كل المناهج المتاحة تشير إلى أن الزمكان بمفهومه الكلاسيكي الذي يعمل بوصفه حقلًا للجاذبية ويتمتع بأبعاد هندسية واضحة لن يكون موجودًا. ويُعزى السبب في ذلك إلى أننا بحاجة إلى تحويل هذه الحقول الكلاسيكية إلى حقول كمومية، مما يعني أنها ستكتسب خصائص جديدة مثل التراكبات والتقلبات الكمومية. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على مفهوم الزمكان كما نعرفه، لأنه لن يتمتع بأبعاد هندسية واضحة أو خصائص سببية. وتقترح بعض المناهج في الجاذبية الكمية استبدال هذه الحقول الكلاسيكية بشيء آخر.
ما الذي يمكن أن يحل محل شيء يبدو أساسيًّا مثل المكان والزمان؟
تشير المناهج الحديثة في الجاذبية الكمية إلى أن الزمكان ينبثق من شيء أعمق، وهو ما قد يوفر أساسًا جديدًا للقوانين الفيزيائية. وفقًا لهذه المناهج، فإن الزمكان -كما يُفهم في النسبية العامة- لا يمكن اعتباره شيئًا يمكن استبداله بحقول كمومية فحسب، بل هو مفهوم تقريبي لشيء أكثر جوهرية. وهذا يعني أن هناك مكونات أو عناصر مفاهيمية أخرى، ربما لم نكتشفها بعد تشكِّل البنية الأساسية للواقع. وفي الوقت ذاته، تشير هذه النظريات إلى وجود بنية دقيقة ينطوي عليها الزمكان.
كيف يبدو شكل هذه البنية الدقيقة؟
إنني أعمل على نماذج في الجاذبية الكمية التي لا تبدأ بوصف الهندسة التقليدية للزمكان، بل تعتمد على كائنات “ذرية” مجردة تُوصف بلغة رياضية بحتة. تُعامِل هذه النماذج الكون بوصفه نظامًا كموميًّا غريبًا يتألف من هذه اللبنات الأساسية، وتُطَبّق تقنيات ومفاهيم من فيزياء المادة المكثفة، التي تتعامل عادة مع السوائل والمواد الصلبة لفهم تفاعلات تلك “الذرات” المجهرية المجردة.
إن مفهوم الزمكان التقليدي قد لا يكون أساسيًّا أو جوهريًّا في بنية الكون، وإنما قد يظهر بوصفه تقريبًا ناتجًا عن تفاعلات “الذرات” المجهرية غير المادية في نماذج الجاذبية الكمية. وإذا تأملت الكون على هذا النحو، وكأنه نوع غريب من السوائل، فسيساعدك ذلك في فهم هذه الفكرة، حيث يمكن أن تتشكَّل خصائص المكان والزمان من هذه التفاعلات المعقدة بين اللبنات الأساسية المجهرية للكون، التي قد لا تكون مادية بالطريقة التي نفهمها تقليديًّا.
قد نحتاج أيضًا إلى عنصر إضافي لجعل الأساس الذي يقوم عليه فهمنا للقوانين الطبيعية أكثر ثباتًا. ومن بين الاحتمالات هنا أن التشابك الكمومي -وهو ارتباط دقيق بين جسيمين كموميين- يؤدّي دورًا رئيسيًّا.
تشير بعض النظريات إلى أن الهندسة الكلاسيكية للزمكان يمكن استبدالها بالعلاقات بين تلك “الذرات” المتشابكة التي تشكل الزمكان. وثمة نتائج نظرية مثيرة للاهتمام تربط بين مقاييس التشابك والخصائص الهندسية للأنظمة ذاتها. فمثلًا عندما تُقرر حساب درجة التشابك بين نظامين كموميين منفصلين عبر مجموعة من المسافات المختلفة، ستجد أن درجة التشابك تتغير مع المسافة. ومن هنا يطرح العلماء فكرة عكس التفكير التقليدي: فبدلًا من أن تكون المسافة هي التي تحدد التشابك، يمكن لمقدار التشابك أن يحدد المسافة. وهذا يوفر مفهومًا بدائيًّا للعلاقات في المكان، لأنه يمكن تطبيقه قبل أن يظهر الزمكان بمفهومه التقليدي الذي نعرفه.
إذا كنا نستطيع إيجاد أساس بديل لبناء القوانين الفيزيائية عليه، فهل يعني ذلك أن القوانين الفيزيائية موجودة بالفعل؟
نعم، لقد طُوّرت المناهج الحديثة للجاذبية الكمية دون التشكيك في حقيقة وجود القوانين الفيزيائية. وتساعد هذه المناهج في الحفاظ على النظرة التقليدية للقوانين الفيزيائية باعتبارها كيانات واقعية. أما أنا، فما زلت أميل إلى اعتقاد أن القوانين الفيزيائية ليست في الواقع كيانات مستقِلّة، بل هي كيانات معرفية في طبيعتها، أي أنها موجودة بصورة أساسية في أذهاننا (وليست جزءًا ثابتًا من العالم الخارجي*).
من وجهة نظر فلسفية، فإن ما نُسميه “قانونًا طبيعيًّا” يعتمد دائمًا على نماذجنا التي نستخدمها لفهم العالم، ويقع اختيارنا على هذه النماذج بناءً على معايير معينة نفضِّلها. وبالتالي، فادِّعاء أن هذه القوانين موجودة بصورة مستقِلّة عنّا لا يوجد مبرر يمكن أن يسوّغه. كما أن ميكانيكا الكم تدل على أنه لا يوجد فصل واضح بيننا وبين العالم. والغريب أن البعض يتعامل مع هذه القوانين باعتبارها قوة أو مفهومًا مُطلَقًا يحكم الكون.
إذن كيف سيبدو العالم بدون أيّ قوانين فيزيائية تحكمه؟
الصورة التي تتبادر إلى ذهني تشبه واقعًا مُعقدًا لا نهائيا ومشوشا، نُضفي عليه شكلًا ومعنى بفضل النماذج التي نبنيها. بطريقة ما، سنجد أن النماذج والقوانين قابعة في أذهاننا، لكن لا يوجد تمييز كبير بين أفكارنا والواقع. فالواقع يُبنى على أساس نماذجنا، وليس مجرد وصف لها. فالنماذج التي نبتكرها، بما في ذلك المفاهيم، والقوانين الرياضية، واللغة التي نستخدمها، تعتمد جميعها على تفاعلاتنا مع العالم، وبنياتنا المعرفية، وتاريخنا. وينطبق الشيء ذاته على أي كائن يسعى لفهم العالم الخارجي، كما هو الحال مع قطتي على سبيل المثال.
كيف سيبدو الأمر مع قطتك؟
إن الطريقة التي تفكِّر بها قطتي وتختبر العالم من خلالها تختلف عن الطريقة التي يتبناها البشر؛ مما يؤثر في كيفية فهمها للملاحظات والتفاعلات مع العالم. لذلك، فإن النماذج التي تبنيها حول الواقع لا تشبه النماذج التي نبنيها نحن. وبالتالي فستكون القوانين الطبيعية مختلفة بالنسبة لها.
ما الذي يجب علينا فعله إذا كانت القطط والبشر وغيرهم من الكائنات لديهم تصورات مختلفة عن الواقع؟
إن الفهم التقليدي المعروف بـ”الواقعية الساذجة” يعتبر الأمور بسيطة، إذ يفترض وجود عالم مستقل عنّا ونماذج خاصة به تمثل هذا العالم. لكن عند إضافة العلاقات المعقدة بين النماذج والعالم، ندرك أن الحقيقة لا توجد فقط في العالم الخارجي، بل تتشكل عند نقطة التقاء بين هذه النماذج والفهم الإنساني. وبالتالي، يغدو الموضوع أعقد وأكثر أهمية، بافتراض أن هذه الديناميكية تتطلب إعادة التفكير في كيفية إدراكنا للواقع.
إن القضية الأساسية ـوهي مسألة صعبةـ تتلخص في التفكير في العلاقات بين وجهات النظر المختلفة للواقع. وهنا يبقى السؤال الأهم: “ما الذي يجعل وجهات النظر المختلفة هذه متماسكة أو صالحة إلى حد ما؟”. تكمن الإجابة في أننا نتواصل، مما يعني أننا لسنا عوامل معرفية تتعامل مع المعلومات فحسب، بل إننا أيضًا عوامل اجتماعية يتفاعل بعضها مع بعض. وبالتالي، تساهم هذه العوامل الاجتماعية في بناء عالم يعتمد على التفاعلات بين أفراده. كما أن الواقع الذي ندركه لا ينبثق من فراغ، بل يتشكل من خلال التعاون والتفاعل بين الأفراد. علاوة على ذلك، لا تُستنبَط النماذج العلمية الجيدة من فراغ، بل يُتفَق عليها من قبل مجتمع العلماء، مع مراعاة جميع القيود الأخرى مثل الملاحظات والمنطق؛ مما يبرز أن المعرفة ليست مجرد تجربة فردية، بل هي نتيجة للتعاون الاجتماعي.
كيف يمكن أن تستمر فكرة وجود عالم موضوعي مع اعتماد فهمنا له على تفاعلات وآراء مختلفة؟
إن الفكرة التي تشير إلى الموضوعية المُطلَقة (أي التعامل مع الواقع بوصفه شيئًا مستقلا تمامًا عن المراقب) هي فكرة ساذجة. بمعنى أن ما هو صحيح أو خاطئ، وما هو حقيقي أو غير حقيقي، لا يمكن أن يكون منفصلا تمامًا عن منظور الأشخاص أو المراقبين المختلفين. الفكرة الرئيسية هي أن الموضوعية المطلقة غير ممكنة، ولكن يمكننا السعي لتحقيق أفضل ما يمكن، وهو وجود طريقة للتواصل من خلال الترجمة من منظور إلى آخر دون فقدان أي معلومات.
من المهم أيضًا أن ندرك أن الفهم المتبادل بين الأشخاص لا يعني بالضرورة أنهم يتفقون على كل شيء، وإنما بدلًا من ذلك يستطيع الفرد ترجمة منظوره إلى منظور فرد آخر تمامًا. بمعنى أنه يمكنه وضع نفسه مكان الآخر وفهم ما يراه الآخر عن الكون بدقة وشمول. ومع ذلك، ما زلتُ غير مقتنع تمامًا بأننا نستطيع الوصول إلى هذا المستوى من الفهم المتبادل.
كيف يؤثر ذلك كله في تصورنا لماهية النظرية الفيزيائية وعلاقتها بالواقع؟
علينا أن نأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين نظرياتنا عن الواقع وما ينطوي عليه الواقع الحقيقي بجدية أكبر. وهو ما يحفزنا على إعادة النظر في مفهومنا لما هو حقيقي، إذ تصبح العناصر المعرفية أكثر أهمية في تشكيل تصورنا للواقع. وكما نرى فإن هذا الفهم الجديد يحمّلنا مسؤولية أكبر، لأن فكرة وجود قوانين موضوعية دقيقة تحكم العالم هي فكرة أساسية وغاية في الأهمية، وبدونها نغدو مثل سفينة في مواجهة عاصفة هوجاء، إذ نضطر إلى أن نبحر في هذا العالم وحدنا، بدون وجود يقين مطلق أو قواعد ثابتة نسترشد بها.
ينص المفهوم القديم للواقع على أننا لا نتحمل أي مسؤولية اتجاه ما هو موجود في العالم، إننا فقط موجودون هنا بالصدفة فحسب ولا نشارك في تشكيل هذا العالم. ولكن من المنظور المعرفي، نحن بحاجة إلى تبنّي فهم يرتكز على المشاركة في تشكيل الواقع. بمعنى أننا لسنا فقط مراقبين للواقع، بل نشارك في تكوينه وفهمه من خلال تفاعلاتنا. وهو ما يضع مسؤولية فلسفية أكبر على عواتق العلماء للتفكير في تأثير ما يفعلونه. وفي الوقت ذاته، يُعدُّ هذا المنظور أكثر إثارة للانتباه، لأننا لسنا مجرد مراقبين لأحداث لا نؤثر فيها، بل علينا أن نتقبل حقيقة أننا نشارك في صنع الواقع.
_____________________________________________
* إضافات من المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت