كانت العرب قديما إذا رأت مجموعة نجوم الثريا قبيل الشروق عرفت أن هناك موجة حارة شديدة قادمة، وكانوا يسمون تلك الموجات “الوغرات”، وتعرف بأنها ارتفاع شديد شاذ في درجات الحرارة، ونسبت العرب 6 وغرات في السنة إلى 6 مواسم تبدأ بالثريا وتنتهي بسهيل.
وقيل في حر الوغرات وصف بديع تقرؤه في كتاب النويري نهاية الأرب في فنون الأدب: “أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها، فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب، هاجرة كأنها قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق”.
وتُعرّف الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ الموجة الحارة بالمعايير المعاصرة على أنها ارتفاع في درجات الحرارة عن معدلاتها في مكان ما لمدة تبدأ من يومين وحتى شهر. وإذا كانت درجات الحرارة أعلى من معدلاتها بـ7 درجات مئوية أو أعلى، فعادة ما تسمى “موجة حر شديدة”.
ويعني ذلك أن الموجة الحارة في دولة ما قد لا تمثل موجة حارة في دولة أخرى، فعلى سبيل المثال في بريطانيا خلال يونيو/حزيران 2023 سُجلت درجة حرارة 32.5 مئوية على أنها رقم مرتفع جدا عن المعدلات في هذا الشهر، والذي يقف عادة عند العشرينات، بينما لو كانت نفس الدرجة في مصر أو السعودية أو قطر لكانت طبيعية تماما وليست موجة حارة.
التغير المناخي
وطوال تاريخ المنطقة العربية الطويل جدا، كانت الموجات الحارة تأتي كل صيف بنفس المعدلات، لكنْ بات الأمر مختلفا خلال ما مضى من عقود قليلة، حيث ارتفعت معدلات الموجات الحارة وأصبحت أشد عما مضى من أعوام، كما أنها أصبحت أطول لتحيل بعض فصول الصيف وكأنها موجة حارة كبرى بسبب تتالي الموجات الحارة والتصاقها ببعضها البعض.
ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى الآثار الضارة التي تركها التغير المناخي على كل العالم بشكل عام، وعلى منطقتنا العربية بشكل خاص، حيث تقع الكثير من مناطق عالمنا العربي في نطاق المناطق الأكثر تأثرا بالتغير المناخي حول العالم.
ويؤدي ذلك إلى تفاقم عدة عوامل مثل التصحر، فتتوسع المناطق القاحلة بسبب ارتفاع درجات الحرارة والإجهاد المائي، ويزداد التبخر وتقل المياه، وفي هذا السياق تكون الموجات الحارة أكثر تسببا بالضرر.
وتتنبأ النماذج المناخية بأنه إذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة، فإن موجات الحر في الشرق الأوسط قد تتجاوز علامات الخطر. وتشير دراسة من معهد ماكس بلانك الألماني إلى أنه بحلول عام 2050، ستكون درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعلى بمقدار 4 درجات مئوية. وبحلول نهاية القرن، تشير الدراسة نفسها إلى أن درجات الحرارة القصوى يمكن أن تصل أثناء النهار إلى 50 درجة مئوية، مع 200 يوم من الحرارة الاستثنائية كل عام.
مسألة أمن قومي
وتتأكد تلك النتائج من دراسة أخرى نشرت في دورية بلوس وان، قامت بتحليل التطور الزمني لمعدلات وشدة وطول موجات الحر في 53 مدينة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال القرن الحادي والعشرين، وتوصلت إلى أنه بحلول نهاية القرن من المتوقع أن تشهد 80% من المدن الأكثر اكتظاظا بالسكان ما لا يقل عن 50% من الأيام تحت ظروف موجة الحر خلال الموسم الدافئ.
ووجدت الدراسة كذلك أنه سيكون هناك ارتفاع ملحوظ في متوسط وأقصى شدة لموجات الحرارة، وحذر الباحثون بشكل خاص من أن أحداث الحرارة “المتطرفة” يمكن أن تصبح شائعة بحلول عام 2050 بشكل يرفع معدلات الوفيات بسبب الإجهاد الحراري سنويا إلى قيم استثنائية.
ولأن بعضا من مناطق العالم العربي تواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، فإن الأمر يرفع حجم المشكلة إلى مستويات الأمن القومي، حيث يحذر الباحثون من أن التغير المناخي عادة ما يضغط بقوة أكبر على المناطق الهشة، فموجات الحر لا تمنع الناس فقط من المشي في الشوارع، بل تؤثر في الثروات النباتية والحيوانية ووفرة المياه، مما يؤثر مباشرة في الاقتصاد.
ويحذر تقرير صادر من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي من أن تغير المناخ في الشرق الأوسط سيؤدي إلى تضخيم نقاط الضعف الموجودة مسبقا والناجمة عن الصراع والنزوح والتهميش والفساد، ويخلق أيضا أخطارا جديدة.
صيف غير مبشّر
ويأتي ذلك كله في سياق تصاعد ملحوظ لآثار التغير المناخي، وكان الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2023 هو الأسبوع الأكثر سخونة على الأرض على الإطلاق، وكان أبريل/نيسان 2024 هو كذلك الأكثر حرارة على الإطلاق إذا ما قورن بالشهر نفسه على مدار الأعوام، بحسب الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (نووا).
وأعلن علماء من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية قبل عدة أشهر أن هناك احتمالية بنسبة 90% لظهور تأثيرات واضحة لظاهرة النينو تؤثر في الطقس بمناطق متفرقة من العالم خلال الأعوام القليلة القادمة بداية من الشتاء الماضي.
وتنبأ تقرير تقرير أصدرته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في مايو/أيار 2022 أن هناك احتمالا بنسبة 98% أن تكون واحدة على الأقل من السنوات الخمس المقبلة هي الأكثر دفئا على الإطلاق، متجاوزة الرقم القياسي المسجل في عام 2016 عندما كانت ظاهرة النينو قوية بشكل استثنائي.
وذكر التقرير نفسه أن هناك احتمالا بنسبة 66% أن يكون المتوسط السنوي لدرجة الحرارة العالمية القريبة من السطح بين عامي 2023 و2027 أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات عصر ما قبل الصناعة، لمدة عام واحد على الأقل.
ويخشى العلماء في هذا السياق مما يسمى بالضربة المزدوجة، أي أن تساهم ظاهرة النينو في دعم حالات الشذوذ المناخية، إلى جانب التغير المناخي الذي يرفع كذلك من شدة وطول وتردد الظواهر المناخية المتطرفة مثل الأعاصير الشديدة والموجات الحارة وموجات الجفاف.