عند غمر الملح في الماء، يؤدي التفاعل بين القطبين الموجب والسالب لجزيئات الماء إلى تعطيل الرابطة بين أيونات الصوديوم والكلور المكونة للملح، مما يؤدي إلى انفصالهما وتكوين المياه المالحة.
ووبينما يبدو أن مبدأ ذوبان الملح في الماء واضح، ووصفته دراسات سابقة من الناحية النظرية، فإن القدرة على ملاحظة تفاصيل تلك العملية على المستوى الذري ومعرفة الأيونات التي تذوب في الماء أولا، ظلت تمثل تحديا بسبب الحركة الديناميكية للأيونات الذائبة داخل الماء، وهو الإنجاز الذي نجح فريق بحثي كوري في تحقيقه، وأُعلن في دورية “نيتشر كومينيكيشنز”.
نقطة البداية.. تجهيز بيئة الدراسة
كانت البداية التي انطلق منها الباحثون بقسم علوم وهندسة المواد بمعهد “أولسان الوطني للعلوم والتكنولوجيا” بكوريا الجنوبية، هي تجهيز البيئة التي ستُجرى التجارب داخلها، بحيث تكون ظروف الفراغ عالية ودرجة البرودة مرتفعة للغاية (سالب 268.8 درجة مئوية).
والمقصود بالعمل في الفراغ إجراء التجارب في مكان خالٍ من الهواء أو الغازات الأخرى، وفي الفراغ يكون الضغط أقل بكثير من الضغط الجوي، مما يسمح بظروف محددة لا يمكن تحقيقها في البيئات الجوية العادية.
وهناك مستويات مختلفة من الفراغ تتراوح من النوع المنخفض إلى العالي جدا اعتمادا على مستوى الضغط، وغالبا ما يُفضل العالي جدا لإجراء تجارب حساسة للغاية على المستوى الذري أو الجزيئي، كما حدث في الدراسة الكورية، ويؤدي ذلك إلى تحقيق عدة مزايا:
- تقليل التداخل؛ فغياب الهواء أو الغازات الأخرى، يمنع التداخل من الجزيئات التي يمكن أن تؤثر في النتائج التجريبية، وهذا مهم بشكل خاص للتجارب التي تنطوي على قياسات أو تفاعلات حساسة على المستوى الذري.
- تقلل البيئات المفرغة من التلوث بالجسيمات أو الشوائب المحمولة بالهواء؛ مما يضمن نقاء المواد والعينات المستخدمة في التجارب.
- توفر البيئات المفرغة ظروفا مستقرة لإجراء التجارب؛ بما في ذلك مستويات الضغط ودرجة الحرارة والرطوبة الثابتة، وهذا الاستقرار ضروري لتحقيق نتائج موثوقة وقابلة للتكرار.
ولا يقل أهمية عن بيئة الفراغ ما يُتخذ من إجراءات لضمان تنفيذ التجربة في ظل ظروف شديدة البرودة، وتحقق ظروف الفراغ المبردة عدة مزايا، هي:
- تقليل الاهتزازات الحرارية؛ والتي يمكن أن تتداخل مع القياسات والملاحظات الدقيقة.
- تساعد درجات الحرارة المبردة في الحفاظ على التركيب الذري للمواد التي تُدرس؛ وهذا أمر بالغ الأهمية للحفاظ على سلامة الغشاء الملحي وضمان أن التفاعلات بين جزيئات الماء والأيونات تحدث بشكل طبيعي قدر الإمكان.
- تساعد درجات الحرارة المنخفضة على حدوث التفاعلات الكيميائية بمعدل أبطأ؛ وهذا يسمح للباحثين بمراقبة عملية ذوبان الملح في الماء على مدى فترة طويلة، والتقاط التغيرات والتفاعلات الدقيقة التي قد تحدث بسرعة أكبر في درجات الحرارة المرتفعة.
- يمكن للظروف المبردة أن تعزز حساسية معدات القياس المستخدمة في هذه الدراسة، وهذا يمكّن الباحثين من اكتشاف وتحليل التغيرات على المستوى الذري بدقة أكبر.
التحكم في الأيون المفرد
بعد تجهيز بيئة الدراسة، استخدم الباحثون تقنية “التحكم في الأيون المفرد” الخاصة بهم والتي سمحت لهم بإجراء معالجة دقيقة لجزيئات الماء الفردية لاستخراج أيونات محددة بشكل انتقائي من الملح، وهو ما أتاح لهم ممارسة التحكم على المستوى الذري والتأثير في سلوك الأيونات داخل المحلول.
ولفهم ما فعله الباحثون، يمكننا تخيل الملح كخرزة ملونة تضم خرزات حمراء تمثلها “أيونات الصوديوم”، وأخرى زرقاء تمثلها “أيونات الكلور”، وعوضا عن مجرد صب الماء على الخرزة ومشاهدة ما يحدث، قدم الباحثون تقنية جديدة يمكن تشبيهها بـ”ملاقط صغيرة”، وهي “تقنية التحكم في الأيونات الفردية” التي يمكنها التقاط وتحريك كل أيون من الأيونات (أو خرزة من الخرزات، وفق المثال التوضيحي).
وخلال التجارب التي أجريت في ظروف الفراغ المبردة، قاموا بتجهيز غشاء ملحي رقيق (الخرزة الملونة وفقا لمثالنا التوضيحي)، ثم قاموا بإضافة جزيئات الماء إليه باستخدام ماصة دقيقة (أداة تستخدم في المختبرات لقياس ونقل كميات صغيرة جدا من السائل)، ووضعوا قطرات الماء بعناية حول الغشاء باستخدام مغناطيسات صغيرة (تمثل قطبية جزيئات الماء) للتحكم في حركتها.
وباستخدام مجهر المسح النفقي (أداة لتصوير ودراسة الأسطح على المستويين الذري والجزيئي)، لاحظوا أنه عندما تتلامس قطرات الماء مع الغشاء أو الخرزة الملونة وفقا للمثال، يحدث شيء مثير للاهتمام، إذ تتسبب بطريقة ما في انفصال أيونات الكلور (الخرزة الزرقاء) عن الغشاء (الخرزة الأم الملونة) وتذوب في الماء، وتمكنوا من رؤية حدوث ذلك في الوقت الحقيقي تحت المجهر.
وكرر الباحثون هذه العملية عدة مرات، وحركوا قطرات الماء في أنماط مختلفة ولاحظوا كيفية تفاعل كل أيون (خرزة)، كما أخذوا قياسات تفصيلية وجمعوا البيانات لتحليل ما يحدث بالضبط على المستوى الذري.
وبعد العديد من التجارب، استنتجوا أنه من خلال المعالجة الدقيقة لجزيئات الماء الفردية، يمكنهم استخراج أيونات محددة بشكل انتقائي من الملح، مما يكشف عن رؤى بشأن عملية ذوبان الملح في الماء على المستوى الذري.
تحسين أداء البطاريات وتطبيقات أخرى
يصف الأستاذ بقسم علوم وهندسة المواد بمعهد “أولسان الوطني للعلوم والتكنولوجيا” والباحث الرئيسي بالدراسة “هيونغ جون شين”، ما توصلوا إليه بأنه “إنجاز تجريبي كبير”، وقال في بيان أصدره المعهد: “على الرغم من أن الفهم النظري لذوبان الملح في الماء قد تأسس منذ فترة طويلة، فإن نجاحنا في استخلاص الأيونات المفردة من خلال التحكم الدقيق في جزيء الماء، هو عمل مهم للغاية”.
ويضيف أن “الأيونات تلعب دورا محوريا في تغيير أداء البطاريات والمواد شبه الموصلة، لذلك نحن نتصور أن الاستفادة من تقنية التحكم في الأيونات الفردية ستساعد على تطوير التقنيات الأساسية المتعلقة بوظائف الأيونات”.
ويؤكد أستاذ علوم المواد والمدير المشارك لمركز علوم المواد ومدير مكتب الأبحاث في “مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا” محمد الكردي، أن نتائج الدراسة “إنجاز مهم “، ويشير في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، إلى أنها “ستكون لها تطبيقات متعددة، ليس في مجال البطاريات فقط، ولكن في تحلية المياه وتوليد طاقة الهيدروجين من المياه أيضا”.
ووفق الكردي، فإن فهم التفاعلات الدقيقة بين الأيونات في المحلول، يساعد في تلك المجالات الثلاثة على النحو التالي:
- إنتاج البطاريات؛ ففهم التفاعلات الدقيقة بين الأيونات في المحلول يمكن أن يساعد على تحسين نقل الأيونات وتفاعلات الأقطاب الكهربائية، وهذا من شأنه أن يحسّن من أداء البطاريات ويطيل عمرها.
- تحلية المياه؛ تقنيات تحلية المياه تهدف إلى إزالة الملح والشوائب الأخرى من مياه البحر أو المياه قليلة الملوحة لإنتاج المياه العذبة، وقدرة الباحثين على استخلاص أيونات محددة بشكل انتقائي من الملح باستخدام تقنية التحكم في الأيون الواحد يمكن أن تؤدي إلى طرق أكثر كفاءة وانتقائية لتحلية المياه، مقارنة بالطرق التقليدية مثل التناضح العكسي.
- توليد الهيدروجين من الماء؛ فالهيدروجين هو وقود نظيف ومتجدد يمكن إنتاجه عن طريق تقسيم جزيئات الماء من خلال التحليل الكهربائي، وفهم الباحثين للتفاعلات الأيونية والتلاعب بجزيء الماء يمكن أن يؤدي إلى تحسينات في عمليات التحليل الكهربائي لإنتاج الهيدروجين، كما أنه من خلال تحسين استخراج الأيونات من الماء قد يصبح من الممكن تعزيز كفاءة وقابلية التوسع في أنظمة التحليل الكهربائي، مما يقلل من مدخلات الطاقة اللازمة لتوليد الهيدروجين.