اكتشف باحثون في جامعة رايس الأميركية طريقة مبتكرة لإعادة تدوير البلاستيك المقوى بالألياف الزجاجية، وذلك لاستخدامه في إنتاج مادة صناعية هامة هي “كربيد السيليكون”.
وتمر عملية تصنيع هذا النوع من البلاستيك بخطوات متعددة تجعله مادة في غاية المتانة، بما يؤهله للاستخدام في تطبيقات متعددة مثل أجزاء الطائرات وشفرات طواحين الهواء. ولكن المشكلة أن الصفات ذاتها التي تجعله قويا بما يكفي، تتحول إلى مشكلة بعد وصوله إلى نهاية عمره الافتراضي، حيث تكون هناك صعوبة في التخلص منه.
وتقليديا يجري التخلص من هذا البلاستيك المقوى عبر طريقين هما:
- إرساله إلى مدافن النفايات: وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعا، ومع ذلك فإن هذا النهج يطرح تحديات بيئية كبيرة، حيث إنه لا يتحلل بسهولة، ويمكن أن يشغل مساحة في مدافن النفايات لفترات طويلة.
- الترميد: وتعني التخلص بطريقة الحرق في درجات حرارة عالية، وعلى الرغم من أن هذه الطريقة يمكن أن تقلل من حجم النفايات وتولد الطاقة، فإنها تثير أيضا مخاوف بيئية، تتمثل في انبعاثات وملوثات ضارة في الهواء، بما في ذلك الغازات السامة والجسيمات والتي يمكن أن تشكل مخاطر على صحة الإنسان والبيئة.
طريق ثالثة نحو مادة مفيدة
ويقدم النهج الذي أعلن عن الباحثون في دراسة نشرتها دورية “نيتشر سستانبلتي”، طريقا ثالثة هي إعادة تدوير البلاستيك المقوى بالألياف الزجاجية، وذلك باستخدام “تسخين غول الوميضي”.
ويعود أصل تلك الطريقة إلى “جيمس بريسكوت غول”، وهو فيزيائي من القرن التاسع عشر قدم مساهمات كبيرة في دراسة الكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية، وتشير إلى تقنية يجري من خلالها تمرير تيار كهربائي عبر مادة ذات مقاومة معتدلة لتسخينها بسرعة إلى درجات حرارة عالية بشكل استثنائي، وتحويلها إلى مواد أخرى.
ونجح مختبر أستاذ الكيمياء وعلوم المواد وهندسة النانو بجامعة رايس “جيمس تور”، في توظيف تلك الطريقة لتطوير تطبيقات جديدة للتخلص من النفايات وإعادة التدوير. ومع زيادة الضغط من جانب الهيئات التنظيمية لمراجعة وتحسين ممارسات إعادة التدوير للمركبات التي انتهى عمرها الافتراضي، نجح تور وفريقه البحثي في استغلال خبرتهم بهذا المجال لتوفير أول طريقة لإعادة تدوير نفايات البلاستيك المقوى بالألياف الزجاجية لإنتاج كربيد السيليكون.
وتقليديا، يجري إنتاج كربيد السيليكون باستخدام عملية تُعرف باسم “عملية أتشيسون”، والتي طورها إدوارد جودريتش أتشيسون في أواخر القرن التاسع عشر، وتعتمد على تسخين رمل الكوارتز وفحم الكوك في فرن أسطواني إلى نحو 2500 درجة مئوية، وهي عملية ليست معقدة، ولكنها تنتج قدرا كبيرا من ثاني أكسيد الكربون، حيث يجري إطلاق حوالي 2.4 طن من غازات الدفيئة مقابل 1 طن من كربيد السيليكون، هذا بالإضافة إلى استهلاك الطاقة الهائل الذي يصل إلى 7.15 ميغاواتات/طن نتيجة تشغيل الفرن لعدة أيام، ويؤدي هذا إلى إطلاق 1.8 طن آخر من ثاني أكسيد الكربون لكل طن من كربيد السيليكون.
وحاولتْ فرق بحثية حول العالم تطوير طريقة بديلة تسمح بتدوير منتجات ثانوية غير رمل الكوارتز وفحم الكوك لإنتاج كربيد السيليكون، وكان أقربها “معهد فراونهوفر لتقنيات وأنظمة السيراميك في ألمانيا إكتس” الذي أعلن عن نجاحه في إنتاج تلك المادة باستخدام فرن عالي التقنية، فوفر في مدخلات الطاقة بنسبة 80% مما هو عليه الحال في عملية أتشيسون، وقلل ذلك من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير.
ولكن الطريقة التي أعلن عنها فريق جامعة رايس الأميركية تُحقق مزايا بيئية واقتصادية تفوق ما توصل له الألمان، فضلا عن أنها تَستخدم لأول مرة البلاستيك المقوى بالألياف الزجاجية.
طريقة بسيطة.. تكاليف أقل
ويشرح الباحثون في الدراسة طريقتهم المبتكرة والتي تمر بعدة خطوات، وهي:
- الطحن والخلط: يجري طحن النفايات وتُحول إلى خليط من البلاستيك والكربون، ويُضاف الكربون الإضافي لضمان أن يصبح الخليط موصلا.
- تسخين غول الوميضي: يُستخدم “تسخين غول الوميضي” الذي يتضمن تطبيق جهد عال على الخليط باستخدام الأقطاب الكهربائية، مما يؤدي إلى رفع درجة حرارته إلى ما بين 1600 و2900 درجة مئوية، ويُسهل هذا التسخين السريع تحويل البلاستيك والكربون إلى كربيد السيليكون.
- المنتجات الناتجة: تُنتج العملية نوعين من كربيد السيليكون المناسبين لتطبيقات مختلفة، ويُظهر أحد الأنواع أداء فائقا باعتباره مادة “أنود” للبطارية.
- الكلفة والأثر البيئي: تكاليف التشغيل لإعادة تدوير البلاستيك المقوى بالألياف الزجاجية باستخدام هذه الطريقة أقل من 0.05 دولار لكل كيلوغرام، أي 5 سنتات تقريبا مقارنة بطرق التخلص التقليدية مثل الحرق، وعلاوة على ذلك فإنها طريقة أكثر صداقة للبيئة، وتتجنب توليد الغازات السامة أو النفايات الضارة.
لماذا كربيد السيليكون؟
إذا كانت إعادة التدوير أنتجت أحد أنواع كربيد السيليكون الفعالة في تصنيع “أنود البطارية”، فإن باحث ما بعد الدكتوراه بجامعة رايس “يي تشينغ”، أكد في بيان صحفي أصدرته الجامعة أن “هذا تطبيق واحد فقط من بين العديد من التطبيقات التي تدخل فيها هذه المادة الهامة”.
ومادة كربيد السيليكون تتكون من ذرات السيليكون والكربون مرتبة في هيكل بلوري، وهي واحدة من أصلب المواد المعروفة، مع الموصلية الحرارية الممتازة، والقوة العالية، والمقاومة الكيميائية، بما يؤهلها للاستخدام في العديد من التطبيقات، وهي:
- المواد الكاشطة: فكربيد السيليكون يُستخدم على نطاق واسع كمادة كاشطة في تطبيقات مثل عجلات الطحن وورق الصنفرة، حيث إن صلابتها ومقاومتها للتآكل تجعلها مثالية لقطع وطحن وتلميع المواد الصلبة مثل المعادن والسيراميك والمواد المركبة.
- المواد المقاومة للحرارة: يتمتع كربيد السيليكون بموصلية حرارية عالية ومقاومة ممتازة للصدمات الحرارية والهجوم الكيميائي، مما يجعله مادة مثالية للتطبيقات المقاومة للحرارة، ويُستخدم في إنتاج الطوب الحراري وأفران صهر المعادن وتصنيع الزجاج ومعالجة السيراميك.
- الإلكترونيات: يحظى كربيد السيليكون باهتمام متزايد في صناعة الإلكترونيات بسبب خصائصه الكهربائية الفريدة، كما أنه مادة لديها فجوة نطاق واسعة، مما يسمح لها بالعمل في درجات حرارة وفولتية أعلى مقارنة بأشباه الموصلات القائمة على السيليكون، والمقصود بفجوة النطاق هو الطاقة اللازمة لنقل الإلكترون من نطاق التكافؤ (حيث ترتبط الإلكترونات بالذرات) إلى نطاق التوصيل (حيث تكون الإلكترونات حرة في التحرك وتوصيل الكهرباء).
- السيراميك: يتميز سيراميك كربيد السيليكون بخصائص ميكانيكية ممتازة، بما في ذلك القوة العالية والصلابة ومقاومة التآكل، ويُستخدم في تطبيقات السيراميك المختلفة، بما في ذلك أدوات القطع والأختام والمكونات الهيكلية في مجال الطيران والسيارات والمعدات الصناعية.
- مواد التسليح: تُستخدم ألياف كربيد السيليكون كمواد تقوية في المواد المركبة لتعزيز القوة والصلابة والثبات الحراري، وهي تُستخدم عادة في تطبيقات الفضاء والدفاع مثل مكونات الطائرات وفوهات الصواريخ وأنظمة الدروع.
أسئلة ملحة ووعد بالاستمرار
مع ما تحقق من إنجاز نحو إنتاج تلك المادة الصناعية الهامة من مادة كانت توضع في مكبات النفايات أو تحرق، فإن هناك أسئلة ملحة يتعين الإجابة عليها حتى تنتقل طريقة إعادة التدوير الموصوفة في الدراسة من النطاق البحثي إلى التطبيق الصناعي، كما يؤكد أستاذ علوم المواد بجامعة بنها المصرية محمود الصفتي.
ويقول الصفتي في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إنه “يجب دراسة التحديات التقنية المرتبطة بتوسيع نطاق العملية لتخرج من المعمل إلى الإنتاج الصناعي، ويجب تحديد الإستراتيجيات التي يمكن استخدامها لضمان الجدوى التجارية وقبول السوق لمنتجات كربيد السيليكون المعاد تدويرها”.
ويضيف أنه “من الأمور التي تجب دراستها أيضا ما يتعلق بتحسين العملية، فإذا كانت ظروف التشغيل الموصوفة بالدراسة من حيث درجة الحرارة والضغط ووقت المعالجة، أظهرت نتائج إيجابية في النطاق المعملي، فإنه تجب دراسة الظروف المثلى عند الانتقال لمستوى أكبر، كما يجب حسم القضايا البيئية المتعلقة بسؤال مهم وهو: هل هناك أي منتجات ثانوية محتملة يمكن أن تتولد أثناء العملية، وكيف يمكن التقليل منها أو الاستفادة منها؟”.
وتحمل تصريحات جيمس تور في البيان الصحفي الذي أصدرته جامعة رايس، وعداً بالإجابة على هذه الأسئلة، حيث قال: إن “ما أنجزناه هو بمثابة اختبار لإثبات المفهوم على نطاق واسع في المختبر، ونعمل بالفعل حاليا مع شركات خارجية لتوسيع نطاق العملية لاستخدامها على نطاق أوسع”.
وأضاف أن “الأمر سيستغرق وقتا وبعض الهندسة الجيدة لتوسيع نطاق طريقة إعادة التدوير السريعة الموصوفة في الدراسة بشكل مناسب”.