يصعب تقييم فعالية استخدام الطائرات المسيّرة في العمل العسكري، فبحسب بعض كبار القادة العسكريين الأميركيين السابقين فإن انتشار هذا النوع من الأسلحة قد يتسبب في القضاء على فعالية القوات الجوية الأميركية مستقبلا.
ولكن لا يصعب فهم السبب وراء تلك التصريحات، فالحرب الدائرة في أوكرانيا قد شهدت تحول الطائرات المسيّرة من أداة مخصصة لمكافحة الإرهاب، تتحكم فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها بدرجة كبيرة، إلى عنصر أساسي وواسع الانتشار في كل أرجاء ساحات القتال الحديثة.
حتى في الشرق الأوسط، ومنذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان للطائرات المسيّرة أدوار محورية في تحديد مسار العمليات العسكرية، كما أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تستخدم طائرات مسيّرة محلية الصنع ورخيصة ضد جيش الاحتلال برغم امتلاكه مجموعة مختلفة من التقنيات الحديثة القوية، إلا أن الطائرات المسيرة صنعت الفارق في هزيمة القوات الإسرائيلية يوم بدأ هجوم طوفان الأقصى.
لذا، لا يبدو مفاجئا أن تتطلع وزارة الدفاع الأميركية إلى الاستفادة من الدروس المستخلصة من ميادين المعارك الحالية، خاصة وأنها تترقب صراعا محتملا في المستقبل مع عدوها اللدود الصين.
تغير في موازين القوى
بينما يؤدى التقدم التقني دائما إلى تغيير طبيعة الحروب، تماما كما دفعت الحروب ظهور الابتكارات التقنية الحديثة، فإن ما يميز هذا العصر الجديد لحرب الطائرات المسيّرة مقارنة بالابتكارات العسكرية السابقة هو أنها قد تغير موازين القوى. ففي حالة وجود تلك المسيرات لن يكون الجيش الذي يتمتع بالأفضلية بالضرورة هو الجيش الذي يمتلك أكثر الأسلحة تطورا أو أقواها، بل سيكون الجيش الذي يمتلك تلك الأسلحة الجديدة بكميات كبيرة ويمكنه تصنيعها واستبدالها بسرعة.
فالطائرات المسيّرة الانتحارية الإيرانية الصنع من طراز “شاهد”، التي تستفيد منها روسيا في حربها ضد أوكرانيا، قد تكلف الواحدة منها نحو 20 ألف دولار، أو ما يعادل 1/4من تكلفة طائرة مقاتلة واحدة من طراز “إف-35”. بل إن القوات الأوكرانية تقوم بتعديل طائرات السباق التجارية المسيّرة، التي تبلغ تكلفتها 400 دولار فقط، لتوجيه ضربات للقوات الروسية.
تلك الطائرات المسيّرة لا تضاهي في دقتها أو قوتها الطائرات المقاتلة أو حتى المسيّرات العسكرية المتطورة مثل المسيّرة الأميركية الأشهر “إم كيو-9 ريبر” (MQ-9 Reaper)التي تبلغ تكلفتها نحو 32 مليون دولار، وهنا تكمن الفكرة، أنها لا تحتاج إلى أن تضاهي تلك الطائرات. فمثلا إذا فُقدت إحداها، فلن يمثل ذلك مشكلة حقيقية، والنتيجة هي أن بإمكان تلك الطائرات المسيّرة أن تشكّل نوعا من أنواع توازن القوى بالنسبة للجهات الأضعف التي تعاني نقصا في الإمدادات العسكرية.
مشروع ريبليكيتور
هذا التوجه بطبيعة الحال يمثل خبرا بالغ الخطورة بالنسبة للجيش الأميركي الذي طالما اعتمد على تفوقه التقني المطلق. وردا على هذا الوضع، يتخذ البنتاغون نهج “إذا لم تستطع هزيمتهم، انضم إليهم”، مُطلقا خطة إستراتيجية تسمى “ريبليكيتور” (Replicator) لتصنيع آلاف الطائرات المسيّرة الرخيصة والقابلة للاستبدال، أو “القابلة للاستنزاف” وفقا لمصطلحات البنتاغون، وكل ذلك تحسبا لأي نزاع محتمل مع الصين.
ينظر المؤيدون لهذه المبادرة على أنها ليست مجرد جهود جديدة للتسلح، بل باعتبارها تحولا جوهريا في كيفية تفكير الجيش الأميركي واستعداده لحروب المستقبل.
لكن حتى أشد المؤيدين للمبادرة يعترفون بأن تحقيق هذا الهدف سيتطلب تغييرا شاملا في عقلية واحدة من أكثر البيروقراطيات رسوخا داخل الحكومة الأميركية، وما يزيد الأمر تعقيدا أن هذا التحول يُفترض أن يحدث بسرعة بالغة.
أعلنت نائبة وزير الدفاع الأميركي كاثلين هيكس في أغسطس/آب العام الماضي 2023، عن بدء العمل على مشروع “ريبليكيتور”، أو “المستنسخ”، بهدف إطلاق “أنظمة ذاتية التحكم يمكن استنزافها على نطاق عدة آلاف في الميدان، وفي عدة مجالات، خلال 18 إلى 24 شهرا التالية”.
كما ذكرت هيكس حينها: “الهدف من هذا المشروع هو مساعدتنا على مواجهة أكبر ميزة لدى الصين، وهي ضخامة الأعداد وكثافتها”.
“نحن لا نعرف بالضبط كيف ستعمل تلك الطائرات المسيّرة، ولكن يحتمل أن تشكل أسرابا منظمة لمواجهة تفوق الصين في الكثافة العددية ومدى قربها من ساحة المعركة المستقبلية”. وأشارت هيكس أن تكلفة المشروع ستبلغ مليار دولار مقسمة بالتساوي بين السنة المالية 2024 و2025.
تحديات قادمة
يشير اسم “المستنسخ” إلى أن البنتاغون تأمل في إمكانية “استنساخ” الإجراءات المتبعة في البرنامج بسرعة في مختلف أقسام الوزارة.
بجانب أن أحد الدروس التي استفادت منها وحدة الاستخبارات العسكرية الأميركية من خلال المحادثات مع مشغلي الطائرات المسيّرة الأوكرانيين هو أن قتال الدرونز الحديثة لا يتطلب أعدادا كبيرة من الوحدات فحسب، بل يجب أن تتكيف تلك الوحدات مع البيئة المتغيرة حولها سريعا.
من المتوقع أيضا أن يؤدي إطلاق أسراب الدرونز بهذا الحجم إلى التعجيل بتبني الجيش الأميركي للذكاء الاصطناعي.
إذ يؤكد بول شاري، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية: “السبيل الوحيد لنجاح تشغيل آلاف الطائرات المسيّرة هو أن يتوفر قدر من الاستقلالية في تلك الطائرات. لأن أنظمة التحكم فيها بالآلاف، حينها ستحتاج إلى آلاف العاملين على تشغيلها، وهي تكلفة بشرية ضخمة بالنسبة للجيش”.
وما يزيد من المصاعب هو تخلف قطاع الطائرات المسيّرة التجارية في الولايات المتحدة عن نظيره الصيني، فالشركات الصينية، وأشهرها شركة “دي جي آي” (DJI)، تهيمن على سوق تلك التقنيات التي يمكن تطويعها للاستخدام المزدوج.
وتشتهر القوات الأوكرانية باستخدام تلك الطائرات الجاهزة لأغراض عسكرية، إذ تشتري كييف الآن نحو 60% من إمدادات العالم من طائرات “مافيك” الرباعية المروحية الشهيرة التي تنتجها الشركة الصينية. لكن ذلك بالطبع ليس خيارا مطروحا بالنسبة للولايات المتحدة عندما تكون الصين نفسها هي العدو المرتقب.