علي البقلوطي.. الجزيرة نت تحاور عالما تونسيا جمع بين الرياضيات والعلوم الأخرى

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

مثل كثير من المتميزين في تخصصاتهم، اشتعل شغف الأستاذ بجامعة صفاقس التونسية علي البقلوطي بالرياضيات منذ مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، لتكون دراسة هذا المجال هي اختياره الأول في التعليم الجامعي، وواصل مسيرة التفوق والإبداع، التي تكللت مؤخرا بجائزة “فايزر” المرموقة للبحث العلمي لسنة 2024، التي تمنحها الأكاديمية الملكية البريطانية.

ورغم حصوله على هذه الجائزة الدولية الرفيعة، كأول عربي ينالها، فإن داء الغرور لم يتسلل إلى نفسه، ولم يعتبر هذه الجائزة تكريما ذاتيا له، بقدر ما هي تكريم لمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس.

وتحدث البقلوطي عن علاقته بالرياضيات، التي تتعدى نطاق البحث العلمي إلى التدخل في كافة تفاصيل حياته، إذ إن كل تفصيلة تدار بمنهج المعطيات والنتائج، وكشف أنه في بعض الأحيان تخطف النظريات الرياضية التي يفكر فيها النوم من عينيه، فيستيقظ لتدوين بعض الأفكار التي جالت في ذهنه.

ويرى أن علم الرياضيات، الذي يوصف دوما بأنه نمطي وجاف، يتدخل في كثير من العلوم، بل إن كثيرا من أبحاثه تقوم على هذا النهج، الذي يحاول من خلاله أن يصاهر بين الرياضيات والعلوم الأخرى.

ولم ينس البقلوطي الإشارة إلى أن أحد الأسباب التي تخلق جفاء بين الطلاب وعلم الرياضيات هي طريقة تدريسه، موضحا “روشتة” الإصلاح من وجهة نظره، التي يجب أن تركز على البعد التطبيقي لعلم الرياضيات.. وإلى نص الحوار.

دعنا نبدأ من جائزة “فايزر” التي حصلت عليها، ماذا تعني بالنسبة لك؟

تعني الكثير على المستوى الوطني قبل الشخصي، فهي شهادة نجاح للمنظومة الوطنية للبحث والتكوين، وعلى المستوى الشخصي تعد اعترافا بتميز أعمالي البحثية وارتقائها لمستوى هذه الجائزة العلمية المرموقة.

هل بإمكانك وصف لحظة استقبالك لخبر الفوز؟

كانت لحظات سعيدة للغاية وفرحة عارمة عشتها مع زوجتي فور استقبالي البريد الإلكتروني الذي يخبرني بالفوز، فجائزة فايزر سبق وحصل عليها علماء كبار من أمثال “نيوتن” و”كاستيلي” و”مونج” و”أومبير”، وشرف كبير أن ينضم اسمي لقائمة الحاصلين عليها، كأول عربي ينال هذا الشرف، وأنا متحمس لاستلام الجائزة في 2025، حيث سيكون هذا الحدث لحظة فارقة في تاريخ البحث العلمي الأفريقي والعربي.

الشغف المبكر بالرياضيات

تميزك في مجال صعب مثل علم الرياضيات، من المؤكد أنه نتاج شغف شديد بهذا العلم تشكل في مراحل مبكرة من حياتك الدراسية، فما الشرارة التي أشعلت هذا الشغف؟

(بنبرة متحمسة) مثل كثير من الذين حققوا نجاحات ملموسة في تخصصهم، تشكل شغفي بهذا العلم منذ مرحلة التعليم الإعدادي، وفي مرحلة البكالوريا كنت شغوفا ليس فقط بحل التمارين الرياضية، ولكن بالبحث أيضا عن طرق مختلفة للحل، غير تلك المتعارف عليها، لذلك وبعد أن حصلت على البكالوريا، سرت خلف شغفي هذا والتحقت بكلية العلوم بصفاقس، لأدرس الرياضيات، وذلك بالرغم من أنه كان بإمكاني الالتحاق بكليات أخرى مثل الطب والهندسة، ولأني أدرس ما أحب، تفوقت في الكلية، واستكملت دراساتي العليا في فرنسا، وعدت للتدريس في جامعة صفاقس.

حماسك وأنت تتحدث عن الشغف بهذا العلم، قد لا يكون مستساغا عند البعض ممن يرون في الرياضيات علما نمطيا وجافا، فما ردك على هؤلاء؟

صحيح أن علم الرياضيات جاف، لأنه يعتمد على الذهن والتفكير والمعقولية والتحليل الذاتي، لكن يمكن جعله مثيرا للاهتمام بإبراز تطبيقاته، التي بدونها لم تكن البشرية لتحقق أي تقدم في البحث العلمي والتكنولوجيا، فهو قاطرة العلوم، فلا يوجد علم لا يعتمد عليه، حتى العلوم الإنسانية، التي تحتاج إلى إحصاءات خاصة بتحليل النتائج.

والثورة الآن التي تحدث في مجال الذكاء الاصطناعي هي قائمة على هذا العلم أيضا، الذي كان له دور أيضا في إنتاج الهواتف الجوالة وشاشات البلازما، لذلك فإن الإحصاءات في فرنسا على سبيل المثال، تشير إلى أن علم الرياضيات مسؤول وحده عن توفير 10 آلاف فرصة عمل سنوية.

وأحد أسباب منحي الجائزة الأخيرة، هو أن أبحاثي تركز على علاقة المصاهرة بين علم الرياضات والعلوم الأخرى، فركزت على تأثير الرياضيات في العلوم الأخرى مثل الفيزياء النظرية وميكانيكا الكم وعلم النسيج والخلايا البيولوجية.

البعد التطبيقي في التدريس

لكن للأسف، يفتقد تعليم الرياضيات في العالم العربي لهذا المنهج الذي يظهر العلاقة بين الرياضيات والعلوم الأخرى، لهذا يظل في أنظار بعض الطلاب، علما مملا، فهل نحن بحاجة إلى ثورة في أسلوب تدريسه؟

(يومئ بالموافقة) أتفق معك تماما، فنحن بحاجة إلى ثورة في تدريس الرياضيات، فهذا العلم متطور، والنظريات التي كانت سائدة في السبعينيات، لم تعد صالحة الآن، ويجب أن يتطور التدريس مع تطور العلم.

وكيف يتطور التدريس؟

هذه القضية تشغلنا في المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب (بيت الحكمة) الذي أعمل عضوا فيه، وما خلصنا إليه هو أن طريقة التدريس يلزمها الاهتمام بالبعد التطبيقي، حتى يعرف الطالب ما وراء النظرية من تطبيقات على مستوى العلوم المختلفة من ميكانيكا وهندسة وطب وغيرها، أما التركيز فقط على الجانب النظري عند التدريس، فهذا من شأنه أن يصيب الطلاب بالملل.

وكيف اهتمت أبحاثك بهذا الجانب التطبيقي؟

هناك فرق بين البحث والتدريس، فأبحاثي نظرية، وأحد أبرز مجالاتها “نظرية مجموعات لي”، وهي فرع من فروع الرياضيات، وسميت على اسم عالم الرياضيات النرويجي سوفوس لي، وتلعب دورا حاسما في مجالات مختلفة من الرياضيات والفيزياء والهندسة وميكانيكا الكم.

ولكن عندما أقوم بالتدريس، يكون البعد التطبيقي حاضرا بإبراز تطبيقات العلم في الطبيعة والفيزياء والذكاء الاصطناعي والتشفير وخلافه من العلوم لخلق الشغف بهذا العلم لدى الطالب.

عالم الرياضيات التونسي الدكتور علي البقلوطي، الحاصل مؤخرا على جائزة فايزر من الأكاديمية الملكية البريطانية (علي البقلوطي)

علماء رفعوا سقف الطموح

كيف تشعر أن خلفيتك الثقافية شكلت نهجك الخاص في الرياضيات؟

(يصمت برهة) الشغف بعلم من العلوم ذاتي جدا، وكان بإمكاني الالتحاق بكليات أخرى، لكني فضلت دراسة الرياضيات، وهذا الشغف هو السبب الأساسي للنجاح والحصول على جائزة فايزر، كأول عالم عربي يحصل عليها.

رغم أن الشغف ذاتيا كما تقول، لكن المؤكد هناك علماء في المجال أشعلوه أكثر وأكثر، فمن هؤلاء، وهل تمنيت العمل معهم؟

(مبتسما) شغفت في مسيرتي بالعديد من العلماء، وعملت بالفعل مع بعضهم، وأتيح لي الالتقاء كثيرا مع بعضهم الآخر، فأحد فلذات العلم هو العالم الياباني (هيدينوري فوجيوارا) الذي جمعتني به أبحاث مشتركة، ومن فرنسا حيث حصلت على الدكتوراه، كانت لدي فرصة الالتقاء بنوابغ الرياضيات مثل ميشيل ديفلو.

وعلى المستوى العربي، شغفت بالكثير من علماء تونس مثل عباس البحري ونادر المصمدي، فهؤلاء كان لهم دور كبير في الارتفاع بمستوى الطموح الذاتي لإنجاز أعمال ترقى للاعتراف الدولي.

الرياضيات والذكاء الاصطناعي

في تصورك ما المجال الأكثر أهمية في حياتنا الذي تعلب فيه الرياضيات الدور الأكبر؟

(بدون تردد) علوم الإحصاءات، فأي دولة، بل حتى منشأة صغيرة، لا يكون لديها إحصاءات واضحة للتقييم، تكون فاشلة من وجهة نظري، ومحكوم عليها بالإفلاس، والمجال الآخر الذي أصبح يتدخل في كثير من أمور حياتنا هو (الذكاء الاصطناعي)، الذي ولد أيضا من رحم الرياضيات، ولكن كل الخوف من أن يطغى الذكاء الاصطناعي على البشر، ويؤدي إلى هلاكه.

كيف يمكن أن يؤدي لهلاك البشر؟

(مبتسما) مثلما يمكن أن تؤدي السيارة وهي من صنع الإنسان إلى قتله، إذا أسيء استخدامها، فإن الذكاء الاصطناعي يمكنه فعل الشيء ذاته، فالطائرات على سبيل المثال تسير في الطرق الهوائي وفق برمجة، إذا تم إفسادها بالذكاء الاصطناعي، يمكن أن تؤدي لكوارث، وكذلك حسابات البنوك محمية ببرامج ذكية، إذا تم اختراقها بالذكاء الاصطناعي، يمكن أن تحدث أزمة مالية كبيرة في العالم.

هل تكون وظيفة الباحث العلمي من الوظائف التي قد يلغيها الذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي عاجز عن إنتاج أفكار جديدة، فهو فقط يستطيع تجميع المتاح وبلورته في سياق جديد.

حتى في مجال الرياضيات؟

(بنبرة متحمسة) الذكاء الاصطناعي عاجز حتى الآن على حل تمرين بسيط، وإذا تمكن من ذلك مستقبلا سيكون خارقا للعادة، ولا أدري إن كان سيتمكن أم لا، ولكنه على الأقل عاجز حتى الآن، فالجائزة الأخيرة التي حصلت عليها كانت بسبب العمل على نظريات قائمة على تخمينات عمرها 40 عاما ظلت بدون حلول، وتمكنا من ذلك، فهل كان بإمكان الذكاء الاصطناعي تحقيق ذلك؟

وصف عبقري الرياضيات

وبسبب نجاحك في ذلك، وصفك البعض بـ”عبقري الرياضيات في العالم العربي” و “عالم الرياضيات الأول في العالم العربي”، هل تسعدك تلك الأوصاف؟

لا أظن أن هذه الأوصاف دقيقة، لأني أهتم بـ3 مجالات من علوم الرياضيات هي: “علوم التشوه في الهندسة” و “نظرية مجموعات لي” و “التحليل التوافقي اللا تبادلي”، وحاولت حل مشاكل كبيرة في هذه الفروع، لكن من المؤكد أن هناك آخرين أفضل مني.

ألاحظ أن أفكارك مرتبة وكأنك تحل معادلة رياضية، فهل تتأثر حياتك الشخصية بتخصصك في علم الرياضيات؟

(لم ينتظر استكمال السؤال) نعم، فأنا استعمل المعطيات والنتائج في كل شيء، وأي مشكلة حياتية تواجهني أسعى لحلها بالمنهجية نفسها التي أتعامل بها في علم الرياضيات.

أخشى أن يطاردك علم الرياضيات أيضا في نومك، مثل كثير من العاملين بهذا العلم، ممن قالوا لي في حوارات سابقة أنهم يحلون معادلات رياضية أثناء النوم؟

(مبتسما) في كثير من الأحيان، لا أستطيع بالفعل النوم إذا كانت هناك مشكلة أفكر في حل لها، وكثيرا ما أستيقظ من نومي في عمق الليل لتسجيل معادلات جالت في ذهني، وفي كثير من الأحيان أصيح وجدتها.. وجدتها عندما يحل ما دونته المشكلة التي كنت أفكر فيها، وأحيانا يحتاج ما دونته إلى عمل إضافي لاستكماله.

تمويل البحث العلمي

وهل تشعر مثل كثير من الباحثين في مجال الرياضيات بالغبن، لعدم الحصول على تمويل كاف للأبحاث، مقارنة بالعلوم الأخرى؟

(يومئ بالرفض) دعنا نكن موضوعيين، فعلم الرياضيات لا يستحق تمويلا كبيرا مثل علوم الكيمياء والهندسة والطب مثلا، لأن تلك العلوم تحتاج إلى توفير أدوات ومواد خام، في حين لا يحتاج علم الرياضيات سوى ورقة وقلم.

ومع ذلك، فأنا أدير في جامعة صفاقس في تونس مختبرا للرياضيات يحصل على تمويل معقول من وزارة البحث العلمي للإنفاق على الأبحاث والسفريات وعقد المؤتمرات الدولية.

ولكن يظل التمويل سواء للرياضيات والعلوم الأخرى ضئيلا في الجامعات العربية، مقارنة بجامعات أخرى في العالم الغربي، بسبب الأوضاع الاقتصادية للبلدان العربية، مقارنة بتلك الدول.

ختاما، ما نصيحتك لشباب الباحثين الراغبين في الحصول على جوائز دولية مرموقة مثلك؟

(بعد تنهيدة عميقة) التريث ثم التريث ثم التريث في نشر الأوراق البحثية، حيث ألاحظ تعجلا في نشر أبحاث غير ذات أهمية كبيرة في دوريات متوسطة وأقل من متوسطة، وهذا من شأنه أن يباعد بين الباحث وبين فرصة الظهور الدولي.

أما نصيحتي الثانية، فهي اختيار المجال البحثي الذي يشبع الشغف، لأنه عندما تتدخل عوامل أخرى في الاختيارات مثل اختيار المجال الذي يحقق  المكسب المادي، لا يستطيع الباحث حينها تحقيق أي نجاح.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *