سلطت دراسة حديثة الضوء على تأثير انعدام الجاذبية (الجاذبية الصغرى) على دماغ الإنسان، وتناول العلماء تفصيلا مهما للظاهرة الشائعة “صداع الفضاء” في ورقة بحثية نُشرت في مجلة علم الأعصاب.
وتوصّلوا إلى أنّ رواد الفضاء الذين ليس لديهم تجربة سابقة مع صداع الفضاء، من المرجح أن يعانوا من صداع الشقيقة أو الصداع النصفي عند صعودهم للفضاء أول مرة، ويحدث ذلك بالخصوص إذا ما كانت المدة الزمنية 10 أيام أو أكثر.
وأجرى الباحثون دراستهم على مجموعة مكونة من 24 رائد فضاء ينتمون إلى وكالات فضاء بارزة مثل وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية، ووقع اختيارهم بسبب خبرتهم الواسعة في السفر إلى الفضاء وتعرضهم لظروف غير طبيعية على متن محطة الفضاء الدولية. ويشير إدراج رواد الفضاء من وكالات متعددة إلى التعاون الحاصل بين الدول لتسيير صعود الإنسان إلى الفضاء.
وأقيمت التجربة بين عامي 2011 و2018، حيث انطلق روّاد الفضاء في مهام مختلفة على متن محطة الفضاء الدولية، ويتيح التباين في المدّة الزمنية إجراء فحص دقيق لكيفية تأثير فترات التعرّض المختلفة لانعدام الجاذبية وغيرها من الظروف الفضائية القاهرة التي تتعلّق بصحة الرائد الذهنية وأدائه. وخلصت الدراسة إلى أن مجموع عدد الأيام التي قضاها روّاد الفضاء المعنيين خارج الغلاف الجوّي للأرض هي 3596 يوما.
ويشير الباحث الرئيسي في الدراسة رون فان أوسترهاوت من المركز الطبي بجامعة ليدن في هولندا، في بيان صحفي، إلى أنّ التغيرات في الجاذبية الناجمة عن رحلات الفضاء تؤثر في وظيفة أجزاء كثيرة من الجسم، بما في ذلك الدماغ.
ويضيف قائلا: يستوجب على الجهاز الدهليزي الذي يساهم في عمليتي التوازن والتموضع، أن يتكيف مع التعارض بين الإشارات التي يتوقع تلقيها -تلك التي اعتاد عليها الجسم- والإشارات الفعلية التي تصله في ظل غياب تأثير الجاذبية الطبيعي. وهذا من المرجّح أن يؤدي إلى ما يُعرف بداء الحركة في الأسبوع الأول، ولاحقا تبدأ علامات الصداع بالظهور واترتبط شدّته بزيادة الضغط داخل الجمجمة.
وتقتضي الدراسة إجراء فحصٍ صحي قبل إطلاق رواد الفضاء، وبمجرد وصولهم إلى المحطة الفضائية يُتابعون بملء استبيان يومي لسبعة أيام، واستبيان أسبوعي لكلّ أسبوع تال، وكانت خلاصة تلك الاستبيانات أنّ هناك 378 حالة صداع قد حدثت.
معضلة تهدد سياحة الفضاء
قبل إجراء الدراسة، أفاد 9 من رواد الفضاء أنهم لم يعانوا أبدا من الصداع أو الصداع النصفي قبل رحلاتهم الفضائية، في حين أبلغ 22 من أصل 24 مشاركا عن تعرضهم لواحدة أو أكثر من نوبات صداع حادة أثناء وجودهم في الفضاء.
ووجد الباحثون أن 92% من رواد الفضاء عانوا من الصداع أثناء وجودهم في الفضاء، في حين عانى 38% فقط منهم من الصداع قبل رحلاتهم إلى الفضاء.
وأظهر التحليل الإضافي أن 90% من حالات الصداع المبلغ عنها كانت عبارة عن “صداع التوتر”، والذي يتميّز بألم ثابت في الجزء الأسفل من الرأس والرقبة والعينين، وهو أكثر أنواع الصداع شيوعا في العالم. وأما الحالات من النسبة المتبقية فكانت صداع الشقيقة، وهو أشد وقعا وألما ويصاحبه حساسية للضوء وعثيان.
ولحسن الحظ، كشفت الدراسة أيضا أن الصداع الذي يعاني منه رواد الفضاء خلال رحلات الفضاء توقف بعد عودتهم إلى الأرض، وبعد ثلاثة أشهر لم يُبلغ أي من رواد الفضاء عن أي صداع، وهوما يعني أن آثار البيئة الفضائية على صحة الدماغ ليست مزمنة أو طويلة الأمد.
لكن ذلك قد يهدد سوق سياحة الفضاء الذي تستهدفه عدّة شركات رائدة اليوم مثل “فيرجين غاليكتيك” و”بلو أوريجين” و”أكسيوم سبيس”، وهو ما يدفعها إلى البحث عن حلول لعلاج مشكلة صداع الفضاء حتى لا تكون تجربة سائحي الفضاء مؤلمة.
ويؤمن العلماء بأن دراسة تكيّف الدماغ وتعامله مع بيئة الفضاء من شأنه العثور على حلول لعلاج نوبات صداع الشقيقة الحادة لمن يعانيها على الأرض، وهذا يعني أنّ تلك التجارب والأبحاث لا تقف فائدتها على رواد الفضاء فحسب، بل حتى على المجال الصحي والطبي على سطح الكوكب.