شهد العقد الأول من القرن الـ21 ارتفاع الأرباح وبروز شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة. وبينما أصبحت شركات مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت وفيسبوك وتويتر جزءا من حياتنا اليومية، كانت هذه الشركات نفسها توفر الأدوات للجيش والحكومة الأميركيين للمساعدة في تأجيج حربهما على ما يسمى الإرهاب.
11 سبتمبر والبداية
وكما هو الحال مع الحروب التي سبقتها، خلّفت الحرب على الإرهاب طلبا هائلا وغير مسبوق على التكنولوجيا لدعم بناء أنظمة مراقبة وطائرات مسيرة مميتة وجدرانا حدودية افتراضية.
وساعد هذا الأمر على إنشاء اقتصاد البيانات وصناعة التكنولوجيا كما نعرفها. وخلال الفترة الزمنية نفسها للحرب على الإرهاب، تحوّلت شركات التكنولوجيا الناشئة إلى شركات تكنولوجيا كبرى تبلغ قيمتها تريليون دولار.
وخلال الحرب على الإرهاب، حققت شركات التكنولوجيا الكبرى مليارات الدولارات من خلال عقودها مع الجيش الأمريكي والوكالات الحكومية الأخرى، فقد كانت هذه العقود في الأساس مع وكالات مركزية في الحرب على الإرهاب، وأصبحت من بين أكثر الشركات ربحية في العالم.
ومنذ عام 2001، ارتفع الطلب من الوكالات العسكرية والاستخباراتية الأميركية على برامج الحوسبة السحابية ونظام تحديد المواقع العالمي، حيث نمت صناعة الدفاع على نحو متزايد لتصبح رقمية.
ونتيجة لذلك، حققت أمازون وغوغل ومايكروسوفت وغيرها من شركات التكنولوجيا الكبرى مليارات الدولات عبر تقديم خدمات، مثل برامج الحوسبة السحابية الهامة لتخزين البيانات وتحليلها، ونظام تحديد المواقع العالمي لتتبع الحركة عبر الحدود، والخوارزميات لتحسين تقنية التعرف على الوجه من أجل استهداف الأشخاص في جميع أنحاء العالم.
ومن بيع غوغل نموذجها في الذكاء الاصطناعي إلى وزارة الدفاع لجعل ضربات الطائرات المسيرة أكثر فتكا، إلى بيع أمازون للخدمات السحابية لتشغيل برنامج المراقبة التابع لوكالة الأمن القومي، فإن القائمة تطول وتطول، حيث كانت شركات التكنولوجيا الكبرى متواطئة في هذه الحرب التي لا تنتهي.
واستفادت هذه الشركات بشكل كبير من الحرب على الإرهاب على مدار 20 عاما، حيث سعت بشكل متزايد إلى إبرام عقود فدرالية وعقود من الباطن مع الجيش الأميركي والاستخبارات ووكالات تطبيق القانون بعد الـ11 من سبتمبر.
ومع تقدم الحرب على الإرهاب ونمو شركات التكنولوجيا الكبيرة من حيث الاستخدام والنطاق، تحولت الحكومة الفدرالية بشكل متزايد إلى تلك الشركات للمساعدة في تنفيذ سياساتها وإستراتيجياتها.
تضاعف مخيف للأرباح
وتضاعف عدد العقود المبرمة بين الحكومة الفدرالية وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت وأمازون وغوغل وفيسبوك وتويتر منذ عام 2004 وحتى اليوم.
ومن عام 2007 وحتى عام 2019، زادت عقود وزارة الأمن الوطني مع عمالقة وادي السيليكون بمقدار 50 ضعفا.
فعلى سبيل المثال، استفادت أمازون ومايكروسوفت من هذه الزيادة بشكل كبير بين عامي 2015 و2019، حيث شهدت أمازون زيادة بنسبة 400% في جميع العقود الفدرالية، بينما تمتعت مايكروسوفت بزيادة بنسبة 800%.
وحصلت مايكروسوفت على 42 مليار دولار من العقود مع البنتاغون، و267 مليون دولار من وزارة الأمن الوطني، ونحو 108 ملايين دولار من وزارة العدل (معظمها مع مكتب التحقيقات الفدرالي).
في حين استفادت أمازون بنحو مليار دولار من العقود مع البنتاغون، و77 مليون دولار من عقود وزارة الأمن الوطني، ونحو 28 مليون دولار من وزارة العدل.
وحصلت غوغل على 16 مليون دولار من البنتاغون، ومليوني دولار من وزارة الأمن الوطني، ونحو 4 ملايين من وزارة العدل.
أما فيسبوك فحصلت على نحو 167 ألف دولار من البنتاغون، و363 ألف دولار من وزارة الأمن الوطني.
وبالرغم من أن العقود تبدو صغيرة، فإن تأثيرها كبير. فبعد شهر واحد فقط من إصدار ترامب للنسخة الثالثة من حظر المسلمين في شهر سبتمبر/أيلول 2017، باعت فيسبوك ما قيمته 350 ألف دولار من الإعلانات للترويج للمنفذ الإخباري المتطرف المسمى “إكستريم ووتش” (Extremism Watch) الممول فدراليا.
وبالنظر إلى أن موقع فيسبوك هو ثالث أكثر المواقع زيارة في العالم، ويمتلك أكثر من 2.99 مليار مستخدم نشط شهريا و2.04 مليار مستخدم نشط يوميا، فإن مبلغ 350 ألف دولار من الإعلانات لديها القدرة على التأثير بمليارات الأشخاص.
ومنذ عام 2004، أنفقت خمس وكالات حكومية ما لا يقل عن 44.7 مليار دولار على خدمات من شركات التكنولوجيا الخمس السالف ذكرها.
وكانت وزارة الدفاع صاحبة الحصة الأكبر في الإنفاق (43.8 مليار دولار)، تليها وزارة الأمن الوطني (348 مليونا)، ووزارة الخارجية (258 مليونا)، وإدارة الخدمات العامة (244 مليونا)، ووزارة العدل.
وكانت أربع من الوكالات الخمس الأعلى إنفاقا على عقود التكنولوجيا الكبيرة مركزية للسياسة الخارجية أو تم تأسيسها كنتيجة مباشرة للحرب على الإرهاب.
وبالنظر إلى وجود قدر هائل من الأرباح التي يمكن جنيها من العقود الحكومية الأميركية، فإن الشركات التقنية تلك تعمل على مواءمة أولوياتها مع أولويات الولايات المتحدة، سواء أكان ذلك يتعلق بالأمن القومي أو الحرب على الإرهاب، فقد أصبحت شركات التكنولوجيا الكبيرة تمثل سمة رئيسية لتلك الحرب.
ويَدين وادي السيليكون بوجوده إلى الجهود التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، فقد استفاد من الإنفاق العسكري والحماية من المنافسة في شكل منح وعقود مبكرة واحتكارات مدعومة من الحكومة.
ونتيجة لذلك، فإن التقنيات التي تهيمن على الحياة اليوم -من الأجهزة المتصلة بالشبكة إلى أشباه الموصلات التي تشغل العمليات الحسابية- هي نتيجة مباشرة لسياسة الولايات المتحدة.
الحياد لم يعد أولوية
وينظر اليوم إلى انتشار تقنيات المراقبة مثل مراقبة التعرف على الوجه أو شركات مثل “بلانتير” (Palantir) بصفتها أمثلة على هذا التأثير في حقبة ما بعد الـ11 من سبتمبر.
فهذه الشركات تقدم مثالًا على عدم حيادية التكنولوجيا، حيث إنها عنصر أساسي في بناء نظام ما بعد الـ11 من سبتمبر.
وبالرغم من أن شركات التقنية الكبرى تتمسك دائما بالحياد، فإن الوقائع توضح أن هذا الأمر ليس صحيحا، حيث تبني تلك الشركات أدوات ذات تطبيقات محددة للغاية. ومنذ عام 2004 وحتى اليوم، شهدت شركات التكنولوجيا الكبيرة ارتفاعا كبيرا في الطلب الفدرالي على خدماتها، لا سيما من طرف البنتاغون ووزارة الأمن الوطني.
وإلى جانب زيادة شركات التكنولوجيا الكبرى لعقودها مع الحكومة الفدرالية، تمكنت أيضا من استبعاد المتعاقدين العسكريين التقليديين -مثل “ريثيون” (Raytheon) و”نورثوب غرومان” (Northop Grumman)- الذين شهدوا استقرار عقودهم أو انخفاض عددها منذ عام 2010.
ومن بين شركات التكنولوجيا الخمس الكبرى، تتمتع مايكروسوفت بأوثق علاقة مع الحكومة الفدرالية، فقد شهدت الشركة قفزة في عقود الدفاع خلال إدارة ترامب، وزادت العقود ما يقرب من 6 أضعاف في عامين فقط من 2016 وحتى 2018، وكانت أكثر من 81% من جميع العقود الحكومية للشركة منذ عام 2011 مع وكالات مركزية في الحرب على الإرهاب.
أما غوغل فوقعت المزيد من العقود مع وزارة الدفاع أكثر من أمازون ومايكروسوفت منذ 2004 وحتى 2015، ومعظمها لخدمات الحوسبة السحابية، فـ77% من جميع العقود الحكومية للشركة منذ عام 2005 كانت مع وكالات مركزية في الحرب على الإرهاب.
وخلال إدارة ترامب منذ عام 2017 وحتى 2019، ضاعف البنتاغون تقريبا عقوده مع هذه الشركات التكنولوجية، مما أدى إلى تقزيم النمو في عقود وزارة الأمن الوطني ووزارة العدل ووزارة الخارجية.
وشهدت العلاقات بين مايكروسوفت ووزارة الأمن الوطني خلال العامين الأولين من إدارة ترامب ارتفاعا هائلا مع تزايد الطلب على المزيد من البنية التحتية للحوسبة السحابية لدعم المزيد من عمليات الترحيل والفصل الأسري.
وفي عام 2020، تمكنت مايكروسوفت من الفوز بعقد قيمته 230 مليون دولار من وزارة الأمن الوطني، وسعت للحصول على عقد آخر للحوسبة السحابية بقيمة 3.4 مليارات دولار أعلنت عنه الوزارة كجزء من عقد البنتاغون للحوسبة السحابية بقيمة 10 مليارات دولار.
وعلاوة على ذلك، فإن العلاقة بين شركات التكنولوجيا الكبرى والوكالات الحكومية مستمرة، وهناك مئات الأشخاص الذين تنقلوا بين الوظائف في وزارات الدفاع والأمن الوطني والعدل، بالإضافة إلى مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الأمن القومي.
ولعبت كل من هذه الوكالات الحكومية دورا رئيسيا في تنفيذ الحرب على الإرهاب، أو تعاملت مع قضايا الخصوصية والأمن القومي والاستخبارات والجيش والتطوير التكنولوجي للحكومة.
يضاف إلى ما سبق، أن الشخصيات الرئيسية في وكالات الحرب على الإرهاب أصبح لديها الآن مناصب رئيسية في شركات التكنولوجيا. من ذلك “كيلي أندروز”، إحدى كبار أعضاء جماعات الضغط في مايكروسوفت التي عملت في وزارة الأمن الوطني لسنوات، و”جانا كاي” إستراتيجية أمان السحابة في أمازون منذ 2018 والتي خدمت في وزارة الدفاع لأكثر من عقد، و”ستيف بانديليدس” الذي عمل في مكتب التحقيقات الفدرالي” ويدير الآن الأمن في “خدمات أمازون ويب”، و”جوزيف روزيك” الذي لعب دورا أساسيا في إنشاء وزارة الأمن الوطني وهو الآن المدير التنفيذي للأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب في مايكروسوفت.
ومع مثل هذه العلاقة الوثيقة المتنامية بين هذه الوكالات وهذه الشركات، التي تحصد عددا متزايدا من العقود، فلن يكون من المفاجئ أن تصبح أولويات مكافحة الإرهاب بعد ذلك من أولويات شركات التكنولوجيا الكبرى، حيث تسعى تلك الشركات إلى إعطاء الأولوية لاحتياجات هذه الوكالات على احتياجات مستخدميها.
يشار إلى أن البيانات السابقة مأخوذة من منصة “تيك إنكويري” (Tech Inquiry) التي تتيح للمستخدمين استكشاف عقود الحكومة الأميركية، لكنها تشمل العقود التي تكون معلوماتها متاحة للجمهور، وبالتالي فإن الأرقام الواردة من المحتمل جدا أن تكون أكبر بكثير.
وفي الختام يمكن القول إنه بينما حظي مصنعو الأسلحة باهتمام كبير باعتبارهم مستغِلين للحرب على الإرهاب، فإن شركات التكنولوجيا أيضا لها دور كبير، لأن أدوات خوض الحرب أصبحت مختلفة الآن، وتركز على ساحة المعركة الرقمية القائمة على البيانات الوصفية والطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي.