يمثّل نمو وتطوّر المواد والمعادن جزءا تاريخيا كبيرا من الحضارة البشرية، مارّا بالعديد من المنعرجات والتقنيات بما يلائم منفعة الإنسان، فظهر صهر المعادن وتشكيلها ثمّ دمجها معا، مثل دمج الحديد مع الكربون لتشكيل الفولاذ الصلب. ومع ازدهار الصناعات والدخول إلى العوالم الدقيقة، ازداد اهتمام العلماء بما يُعرف بالمواد المركّبة التي تجمع صفات وخصائص مختلفة مثل المرونة والصلابة والمقاومة وغيرها.
ويعود جوهر فهم المواد المختلفة إلى التعامل مع طبيعة ذرات العناصر وفهم العلاقة التي تربط بين بعضها البعض، وكان للفضاء فضل كبير في إثراء هذا العلم بحكم الظروف التي تنعدم فيها الجاذبية، ومدى تأثيرها في حدوث ارتباط بين العناصر الكيميائية، وعليه يحدث إنتاج مواد ذات خصائص متفرّدة مختلفة الاستخدام.
وسعى فريق علمي يضمّ عدّة جهات عالمية، إلى استحداث نمط جديد من صناعة المواد، بحسب دراسة جديدة في دورية “إن بي جي غرافيتي”، فعوضا عن إنتاجها على الأرض يُنتجونها في الفضاء الخارجي. وكان لهذا الاكتشاف البارز أفقا لإنتاج العديد من أنواع الزجاج وتطويرها بما يلائم الجيل الجديد من الأجهزة البصرية.
ويقول الباحث المشارك في الدراسة “يورغ نيوفيند” في بيان صحفي رسمي صادر من مؤسسة “أواك ريدج” البحثية المشاركة في الدراسة: “الفكرة وراء البحث في عمليات التصنيع الفضائي تكمن في التعرّف على مواد غير متوفرة بالضرورة على سطح الأرض ولا يمكن إنتاجها بسبب اختلاف الظروف البيئية”.
ويُعد “نيوفيند” أحد المطورين لـ”مقياس حيود المواد على نطاق النانو” في منشأة “مصدر التشظي النيتروني”، وهي أداة تساعد العلماء على حساب ترتيب وتوزيع الذرّات عن طريق مراقبة ارتداد النيترونات عنها. وتُمكّن مثل هذه الأدوات من الإجابة على أسئلة مهمة، وتساهم في ابتكار نماذج وأنماط لأعداد ضخمة من المواد، سواء أكان ذلك في مجال الأدوية أم صناعة الصواريخ والمحركات، وحتى على مستوى إنتاج البطاريات الآمنة.
وفي وقتٍ سابق، تمكن علماء من وكالة استكشاف الفضاء اليابانية، من صهر وتصنيع زجاج في محطة الفضاء الدولية عن طريق التحكم عن بعد. وعندما جلبوا الزجاج الفضائي إلى الأرض، أخذوا يقيسون تلك العينات ويقارنونها بالزجاج الطبيعي باستخدام عدّة وسائل وتقنيات بما فيها النيترونات والأشعة السينية والمجاهر القوية.
وباستخدام مقياس حيود المواد على نطاق النانو، أجرى العلماء فحوصا عليها لمقارنتها بعينات زجاجية صغيرة يبلغ قطرها نحو 3.18 مليمترات فقط، وهو ما مثل تحديثا لتحليل التركيب الذرّي على حد وصف أحد العاملين في المنشأة.
وأظهرت النتائج أنّ ثمّة تطابقا كبيرا بين كلا النوعين؛ الزجاج المصنّع في الفضاء والزجاج المصنّع على الأرض، على مستوى التركيب والترتيب الذرّي، وخلص العلماء إلى أنّ مثل هذا الاكتشاف كفيل بأن يفتح آفاقا للمستقبل في إنتاج المواد المطلوبة في الأنشطة الفضائية دون الحاجة إلى جلبها من الأرض، وهو ما سيخفف التكاليف بشكل كبير.
ويمتلك الزجاج تركيبا ذريا معقدا وغير منتظم، ويختلف عن المواد الصلبة البلورية مثل الملح، ويمكن وصفه بأنه شبكة عشوائية من الجزيئات التي تتقاسم الذرات، مما يجعلها ليست صلبة بالكامل ولا سائلة بالكامل. ويوجد الزجاج في أشكال مختلفة، بما في ذلك البوليمر والأكسيد والمعادن، ويُستخدم في تطبيقات كثيرة مثل عدسات النظارات والألياف الضوئية وأجهزة المهام الفضائية.