تقنيات احتجاز الكربون.. هدف مناخي أم ترخيص للتلوث؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 10 دقيقة للقراءة

يُعدّ تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض التحدي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه البشرية اليوم، وذلك نتيجة تزايد موجات الحرّ الشديد والجفاف وزيادة وتيرة وشدّة الأعاصير والسيول والفيضانات، وذوبان الجليد وارتفاع منسوب مياه البحر، وغيرها من الآثار المهددة للحياة على كوكب الأرض.

ومنذ عصر الثورة الصناعية منتصف القرن الثامن عشر، أضاف الإنسان إلى الغلاف الجوي للأرض كميات كبيرة من الغازات الناتجة عن عوادم المصانع ووسائل النقل ومحطات الطاقة التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز المعروفة باسم غازات الدفيئة، والتي تسببت لاحقاً بحبس جزء من حرارة الشمس المنعكسة عن سطح القارات والمحيطات، وأدت إلى زيادة تسخين جو الأرض وهو ما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري.

ومع إدراك الخطر المحدق بالأرض جراء هذه الظاهرة، بدأت جهود دولية منذ سبعينيات القرن الماضي للحد من انبعاثات غازات الدفيئة وتخفيضها إلى الحدود الآمنة التي يمكن أن تتعامل معها الطبيعة وتتكيف مع آثارها.

ومن هذه الممارسات برزت فكرة احتجاز الكربون الناتج عن المصانع ومحطات الطاقة، أو التقاطه من الهواء، كإحدى الخطط الواعدة في التعامل مع الكميات الكبيرة من الانبعاثات الضارة.

والغرض من احتجاز الكربون هو إنتاج تيار مركّز من غاز ثاني أكسيد الكربون، ليصبح متاحا نقله بسهولة إلى مواقع تخزين دائمة عوضا عن إطلاقه في الغلاف الجوي والتسبب بزيادة ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ.

احتجاز الكربون وتخزينه

يشير مصطلح “احتجاز الكربون وتخزينه” (CCS) إلى مجموعة من التقنيات التي يمكنها مكافحة تغيّر المناخ عن طريق تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسبب الرئيسي لظاهرة الاحتباس الحراري، وذلك من خلال التقاط كميات الغاز الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري قبل إطلاقه في الغلاف الجوي.

وتتجه معظم إستراتيجيات احتجاز الكربون وتخزينه الحالية إلى حقن ثاني أكسيد الكربون في أعماق الأرض، وهذا ما يشكل حلقة مغلقة يعاد فيها الكربون المستخرج من الأرض كوقود أحفوري إلى الأرض كثاني أكسيد الكربون.

وتتضمن عملية احتجاز الكربون التقاط ثاني أكسيد الكربون من مصادر الانبعاثات الكبيرة في القطاعات الحيوية، وأيضاً بشكل مباشر من الهواء، ومن ثم نقله وتخزينه بعيداً عن الغلاف الجوي والمحيطات. وتمر هذه العملية بثلاث مراحل أساسية هي الالتقاط والنقل والتخزين.

  • أولاً: مرحلة الالتقاط

في مرحلة الالتقاط يُفصل ثاني أكسيد الكربون عن الغازات الأخرى الناتجة عن المنشآت الصناعية الكبيرة، مثل مصانع الصلب والإسمنت والبتروكيماويات ومحطات توليد الطاقة العاملة بالفحم أو الغاز، أو من الغلاف الجوي.

ويمكن استخلاص ثاني أكسيد الكربون من الوقود الأحفوري المستخدم في المصانع ومحطات الطاقة بعدة تقنيات، فمن الممكن إزالة الكربون بعد حرق الوقود الأحفوري عن طريق تصفيته من غازات العادم، أو حرق الوقود الأحفوري جزئياً في جهاز تغويز لاستخلاص غاز ثاني أكسيد الكربون منه، وينتج عن هذه العملية أيضاً الهيدروجين الذي يمكن فصله واستخدامه وقودا نظيفا.

كما يمكن إزالة ثاني أكسيد الكربون بتقنية الاحتراق الأكسيجيني التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري في الأكسجين عوضا عن الهواء، ويتكون غاز المداخن الناتج عن ذلك بشكل أساسي من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء. وبتكثيف الماء عبر التبريد ينتج فقط ثاني أكسيد الكربون النقي تقريباً والذي يمكن نقله وتخزينه.

  • ثانياً: مرحلة النقل

بمجرد فصله يُضغط ثاني أكسيد الكربون لتحويله إلى الحالة السائلة قبل إرساله إلى نظام النقل، وتعتبر الأنابيب وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في مناطق كثيرة من العالم، كما أنها الأقل كلفة، ويمكن نقل الغاز الملتقَط أيضا باستخدام السفن الكبيرة أو الشاحنات.

ورغم موثوقية النقل بالأنابيب، فإن العدد المتزايد من المشاريع والقدرة الاستيعابية لخطوط الأنابيب اللازمة لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه على نطاق واسع، يتطلب المزيد من الدراسات عن سلامة خطوط النقل، خصوصاً في المناطق المكتظة بالسكان أو المناطق ذات النشاط الزلزالي العالي.

  • ثالثاً: مرحلة التخزين

بعد نقل غاز ثاني أكسيد الكربون خارج محطات الالتقاط، يُحقن في التكوينات الصخرية العميقة تحت الأرض، حيث يُخزن بأمان وبشكل دائم على عمق كيلومتر واحد أو أكثر.

وتُعتبر التكوينات الجيولوجية حالياً من أكثر مواقع التخزين الواعدة. وفي هذه التقنية يُحوّل ثاني أكسيد الكربون إلى شكل سائل عالي الضغط يُعرف باسم “ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج”، ثم يحقن مباشرة في الصخور الرسوبية.

وتحتوي بعض التكوينات الصخرية العميقة أيضاً على محلول ملحي عالي التركيز، وتُعرف هذه التكوينات باسم “طبقات المياه الجوفية المالحة” التي تمتاز بوفرتها وقدرتها الكبيرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون.

وتقول الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ إنه بالنسبة لمواقع التخزين الجيولوجي المختارة بعناية والمصممة والمدارة بشكل جيد، يمكن احتجاز ثاني أكسيد الكربون فترات طويلة، ومن المرجح الاحتفاظ بنسبة 99٪ أو أكثر من ثاني أكسيد الكربون المحقون لمدة 1000 عام.

كما يمكن استثمار أطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون الملتقط في عمليات الاستخلاص المعزز للنفط، وفي هذه العملية يُحقن ثاني أكسيد الكربون في آبار النفط المستنفدة جزئياً، ويَدفع ضغطُ الغاز النفطَ المتبقي إلى السطح.

ويمكن أيضاً استخدام الفحم غير القابل للتعدين -وهو الفحم العميق للغاية أو الذي يصعب استخراجه- لتخزين ثاني أكسيد الكربون، إذ يمتص الفحم عالي النفاذية ثاني أكسيد الكربون، وخلال هذه العملية يُطلِق الفحم غاز الميثان الذي يمكن بعد ذلك استعادته واستخدامه.

احتجاز الكربون وسيناريو 1.5 درجة مئوية

ولتجنب الآثار المدمرة لتغيّر المناخ، توصلت دول العالم أواخر عام 2015 خلال مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ “كوب 21” إلى اتفاق تاريخي أطلق عليه اسم “اتفاق باريس” تعهدت بموجبه بخفض انبعاثاتها الغازية الناتجة بشكل أساسي من حرق الوقود الأحفوري، للحد من زيادة درجة الحرارة العالمية إلى درجتين مئويتين، مع السعي إلى الحدّ من زيادة الحرارة إلى معدل 1.5 درجة في نهاية القرن قياساً على عصر ما قبل الصناعة.

ومن أجل الحد من الاحترار إلى 1.5 درجة مئوية، ترى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ التابعة للأمم المتحدة ضرورة تسريع جهود التخلص من الوقود الأحفوري في وقت قريب، مع خفض إنتاج النفط والغاز بنسبة 15% و30% على التوالي بحلول عام 2030، وبنسبة 65% بحلول عام 2050، مقارنة بمستويات عام 2020، وذلك كي يتمكن العالم من الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بما يتماشى مع هدف 1.5 درجة مئوية، كما يحتاج إنتاج الفحم إلى الانخفاض بنسبة 80٪ تقريباً هذا العقد ليتماشى مع الهدف ذاته.

وحددت الهيئة الأممية دوراً واضحاً ومهماً لاحتجاز الكربون وتخزينه في الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050.

ويتفق الخبراء على أن احتجاز الكربون وتخزينه قد يكون حلاً مثالياً بشكل خاص للقطاعات التي يصعب تخفيف انبعاثاتها مثل إنتاج الإسمنت والصلب، وأصبح من الواضح بشكل متزايد أن أي مسار واقعي للمضي قدما في العمل المناخي لا بد أن يشمل احتجاز الكربون وتخزينه.

وتقوم مشاريع احتجاز الكربون وتخزينه حالياً بتخزين أكثر من 50 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، وهو ما يقرب من كمية الانبعاثات الناتجة عن 10 ملايين سيارة ركاب. ومع ذلك، فإن المشاريع الحالية قيد التنفيذ لا تمثل سوى نحو 40٪ فقط من متطلبات سيناريو صافي الصفر في عام 2030.

التحديات والعوائق

تُشكل الجدوى التكنولوجية والاقتصادية لاحتجاز الكربون وتخزينه أمراً أساسياً في الحوار بشأن خفض الانبعاثات. ونظراً للتحديات التي تواجهها هذه التكنولوجيا والتي تحد من استخدامها وفعاليتها حتى الآن، فمن الواضح أن احتجاز الكربون وتخزينه غير قادر على خفض الانبعاثات من الوقود الأحفوري بالقدر الكافي.

ومن أبرز التحديات أن هذه التكنولوجيا باهظة الثمن، وتلتقط كميات ضئيلة نسبياً من ثاني أكسيد الكربون، ومما يثير القلق أن بعض شركات الوقود الأحفوري تحاول استخدام تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه مبررا لمزيد من التوسع في الإنتاج، وهو ما لا يتوافق مع أهداف المناخ العالمية.

وتختلف تكاليف احتجاز الكربون وتخزينه اعتمادا على عوامل مختلفة، مثل العملية الصناعية التي تُطبق عليها، ومدى تركيز ثاني أكسيد الكربون الناتج، وطول مسافة النقل، مكان التخزين.

ورغم عقودٍ من تطوير التكنولوجيا، لا تزال تكاليف احتجاز الكربون وتخزينه في قطاع النفط والغاز تنخفض بشكل بطيء، وذلك لأن تصميم هذه التكنولوجيا معقد ويتضمن العديد من المكونات المختلفة والمخصصة لتطبيقات محددة، فاحتجاز الكربون وتخزينه في مصفاة نفط -على سبيل المثال- يختلف كثيراً عن احتجاز الكربون وتخزينه في إنتاج الإسمنت، مما يحد من الابتكار ويزيد من الكلفة.

ويواجه احتجاز الكربون وتخزينه أيضاً اعتراضات من قبل الهيئات والمنظمات المدافعة عن البيئة، والتي تنظر إليه على أنه ترخيص لزيادة الانبعاثات والاستمرار في إنتاج النفط والغاز وليس تقليل الانبعاثات. وبالنظر إلى الكلفة الكبيرة لهذه التقنيات، فإن توجيه هذه الميزانيات الضخمة إلى عمليات الإنتاج النظيف للطاقة قد يكون أكثر فائدة، ويختصر الكثير من الزمن في سباق الوصول إلى صافي الانبعاثات الصفرية.

وبينما شهدت تقنيات مثل الطاقة الشمسية الكهروضوئية وبطاريات السيارات الكهربائية؛ تخفيضات كبيرة في التكاليف، فمن غير المرجح أن يحدث الشيء نفسه بالنسبة لاحتجاز الكربون وتخزينه.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *