تعتمد الصناعات الكيميائية -بما فيها صناعة الأدوية- على عملية تسمى “التحفيز الكيميائي”، وتقوم على استخدام مادة تعرف بـ”المحفز” لتسهيل عملية التفاعل الكيميائي عن طريق خفض طاقة التنشيط اللازمة لحدوثه، مما يجعله يتقدم بسرعة أكبر.
والمواد الرئيسية المستخدمة في هذه المهمة معادن نادرة، أبرزها “البلاديوم” باهظ الثمن الذي تُعد روسيا المنتج الرئيسي له عالميا، تليها جنوب أفريقيا، حيث أنتجت الأولى نحو 88 طنا متريا منه عام 2022 (الطن المتري يعادل 1000 كغم)، بينما وصل إنتاج الثانية إلى 80 طنا متريا، وبلغ متوسط سعره حينها إلى 2178 دولارا أميركيا للأوقية.
وبسبب الخوف من أن تتسبب أي اضطرابات جيوسياسية بتعطل سلسلة توريده عالميا، تعمل الفرق البحثية حول العالم على توفير بديل محلي يكون أكثر وفرة وأرخص ثمنا.
وتزعم دراسة يابانية نشرت في دورية “كمستري يوروبيان جورنال” أنها عثرت على بديل مناسب، وهو “جسيمات نانوية غير متجانسة من كربيد النيكل”، وجُرب هذا البديل في إنتاج النايلون والبلاستيك.
الخطوة الحاسمة في إنتاج النايلون
ويتضمن إنتاج النايلون وبعض أنواع البلاستيك خطوات متعددة هي:
- أولا: اختيار المواد الخام المناسبة، وتشمل المكونات الرئيسية ثنائي الأمين (مركبات عضوية تحتوي على مجموعتي أمين)، والأحماض ثنائية الكربوكسيل أو مشتقاتها.
- ثانيا: بلمرة هذه المواد الخام لتكوين سلسلة بوليمر (بوليمر بولي أميد).
- ثالثا: “تكوين سلائف النتريل”، عن طريق دمج مركبات النتريل (إحدى المركبات العضوية) في بنية البوليمر.
- رابعا: هدرجة النتريل إلى الأمينات الأولية (إحدى المركبات العضوية) بواسطة محفز البلاديوم.
- خامسا: خضوع الأمينات الأولية التي تم الحصول عليها من خطوة الهدرجة إلى تفاعلات ومعالجة إضافية للحصول على المنتج النهائي من النايلون أو البلاستيك.
- سادسا: تشكيل البوليمر الناتج في المنتج النهائي من خلال تقنيات التصنيع المختلفة، مثل البثق أو الغزل أو القولبة.
وتعد الخطوة الرابعة التي يتم تحفيزها بواسطة “معدن البلاديوم” المستورد حاسمة في الإنتاج، وما فعله فريق بحثي ياباني من جامعة أوساكا هو تجهيز محفز كيميائي محلي بديل للبلاديوم، باستخدام معدن شائع وهو كربيد النيكل.
كيف تجاوز اليابانيون مشاكل المحفزات الرخيصة؟
لم يكن الفريق البحثي الياباني هو أول من فكر في استخدام “كربيد النيكل”، ولكنهم قاموا بتشكيله بطريقة نانوية غير متجانسة، تجاوزوا بها المشكلات التي عادة ما تظهر عند استخدام مثل هذه المحفزات الرخيصة.
وتتطلب العديد من محفزات المعادن الرخيصة ظروفا تجريبية صعبة، مثل الضغوط العالية ودرجات الحرارة لتنفيذ التحول الكيميائي المذكور في الخطوة الرابعة (تحويل النتريل إلى أمينات أولية)، ولم تفلح دراسات سابقة أنتجت محفزات كربيد النيكل في شكل جسيمات نانوية بسيطة في تجاوز تلك المشكلات، غير أن الطريقة “غير المتجانسة” في تجهيز جسيمات كربيد النيكل النانوية نجحت في ذلك.
ويقول الأستاذ في قسم علوم هندسة المواد بكلية الدراسات العليا للعلوم الهندسية بجامعة أوساكا شو ياماغوتشي في بيان صحفي أصدرته الجامعة، إن “المحفز غير المتجانس عند مقارنته مع محفزات جسيمات النيكل النانوية البسيطة، أظهر نشاطا أكبر بأربعة أضعاف، وذلك، على الرغم من أنه يعمل في ظل ظروف تفاعل خفيفة (1 بار ضغط جوي من الهيدروجين ودرجة حرارة منخفضة نسبيا تبلغ حوالي 150 درجة مئوية)، وكان المحفز قابلا لإعادة الاستخدام ( ثلاث مرات على الأقل)، وكانت عوائد التفاعل عالية ( تصل إلى 99٪) “.
3 أسباب للتميز.. و3 أسئلة تنتظر الإجابة
وعلى ذلك، يبدو أن تصنيع جسيمات كربيد النيكل النانوية بشكل غير متجانس لاستخدامها في التحفيز الكيميائي، هو الاختراق المهم الذي أحدثه الفريق الياباني.
ويعزو أستاذ هندسة المواد بجامعة أسيوط (جنوب مصر) خالد عبد الحي في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، فاعلية هذه الشكل غير المتجانس لعدة أسباب، هي:
- أولا: التفاعلية السطحية:
فالجسيمات النانوية غير المتجانسة تحتوي عادة على مساحة سطحية أعلى ومواقع سطحية أكثر نشاطا بسبب بنيتها المعقدة، وهذا يمكن أن يعزز نشاطها التحفيزي في التفاعلات الكيميائية المختلفة.
- ثانيا: الانتقائية الحفزية:
فالمحفزات غير المتجانسة يمكن أن تظهر انتقائية محسنة في التفاعلات الحفزية، حيث إن الترتيب المحدد للمواقع النشطة على أسطحها يمكن أن يسهل مسارات تفاعل محددة.
- ثالثا: قابلية إعادة الاستخدام:
غالبا ما تُصمم المحفزات غير المتجانسة لسهولة فصلها عن خليط التفاعل، مما يجعلها أكثر سهولة في الاسترداد وإعادة الاستخدام في دورات متعددة.
غير أن عبد الحي يشير -رغم ثناءه على ما تحقق في الدراسة- إلى أن نتائجها لا تزال في النطاق المعملي، موضحا أن هناك ثلاثة أسئلة في حاجة إلى معالجة في دراسات لاحقة حتى يمكن الإقرار بأن جسيمات كربيد النيكل النانوية بشكل غير متجانس أصبحت بديلا مناسبا لمعدن البلاديوم على النطاق التطبيقي، وهذه الأسئلة هي:
- أولا: هل يمكن توسيع نطاق الطريقة المُبلّغ عنها في الدراسة لتصنيع الجسيمات النانوية غير المتجانسة من كربيد النيكل للتطبيقات الصناعية، وما هي التحديات التي قد تنشأ في الإنتاج على نطاق واسع؟
- ثانيا: إلى جانب الهدرجة الانتقائية لـ”النتريل”، ما هي التحولات والتفاعلات الكيميائية الأخرى التي يمكن للمحفز تسهيلها؟
- ثالثا: كيف يتماشى استخدام الجسيمات النانوية من كربيد النيكل مع أهداف الاستدامة في الصناعة الكيميائية، وما هي التأثيرات والفوائد البيئية المرتبطة بهذا المحفز مقارنة بالأنظمة الحفزية الأخرى؟
خطوة إلى الأمام
ومن جانبهم، لم يبالغ اليابانيون في تقييم الاختراق الذي تحقق في الدراسة، وأكدوا أن هناك خطوات أخرى مطلوبة.
ويقول الأستاذ بقسم علوم هندسة المواد بكلية الدراسات العليا للعلوم الهندسية بجامعة أوساكا تومو ميزوغاكي والباحث المشارك بالدراسة، في البيان الصحفي: “يعد هذا العمل خطوة مهمة إلى الأمام في زيادة استدامة فئة من التفاعلات الكيميائية المطلوبة لتصنيع الأدوية والعديد من المنتجات اليومية الأخرى، وبالنظر إلى أن محفز النيكل أرخص بكثير من المعدن النبيل، ولأن الإجراءات التجريبية المطلوبة بسيطة، فإن التطبيقات الممكنة لمزيد من التحولات الكيميائية يجب أن تكون واضحة ومباشرة، وهذا ما سنعمل عليه”.
ويضيف: “نحن متحمسون لأن بحثنا سيساعد في تقليل استخدام المعادن باهظة الثمن، وعلاوة على ذلك توفر حساباتنا النظرية رؤى من شأنها أن تساعدنا على تحسين المحفز لتطبيقات إضافية”.