تمر مناطق متفرقة من العالم العربي حاليا بموجة شديدة الحرارة تكسرت معها بعض الأرقام القياسية، وخرجت الهيئات المختصة بالطقس لتحذير الناس من التعرض المباشر لشمس الظهيرة وترطيب أجسامهم قدر الإمكان، خاصة وأن هذه الموجات المتتالية -كما يبدو- لن تهدأ في وقت قريب.
ما هي الموجة الحارة؟
تُعرِّف الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ الموجة الحارة بأنها ارتفاع في درجات الحرارة عن معدلاتها في مكان ما لمدة تبدأ من يومين وتمتد إلى شهر، وقد يكون ذلك مصحوبا بارتفاع نسبة الرطوبة.
ويعني ذلك أن الأمر لا يتعلق بدرجة الحرارة، بل بالفارق بينها وبين المعدلات، فعلى سبيل المثال حينما تسجل بعض المدن البريطانية 33 درجة مئوية، فإن تلك تعد موجة حارة لأن المعتاد هناك في الصيف هو ما بين 20 و24 درجة، بينما لو كانت نفس الدرجة في السعودية أو الجزائر أو المغرب، فإنها طبيعية.
وتحدث الموجات الحارة بسبب تأثر منطقة ما بمرتفع جوي يعلوها على مسافة تصل إلى ما بين 3000 و7500 متر.
ولفهم الفكرة تخيل أن الضغط في المرتفع الجوي يشبه حملا ثقيلا جدا من الحديد يضغط على شخص يحمله، هذا الشخص هو الهواء الساخن بالأسفل قرب الأرض، وبسبب طبقات الهواء المتراكمة أعلاه ينضغط هذا الهواء الساخن فوق منطقة ما.
ومن عادة الهواء عندما يسخن قرب الأرض فإن كثافته تنخفض، وبالتالي يرتفع للأعلى ويحل مكانه هواء بارد، وهكذا دواليك. لكن في حالة الموجة الحارة، فإن الضغط الشديد من الأعلى يمنع الهواء الواقع قرب سطح الأرض من الارتفاع للأعلى، فتزيد درجة حرارته.
أضف إلى ذلك أن منطقة الضغط المرتفع تمثل ما يشبه العازل الذي يمنع الهواء البارد خارجها من الدخول إليها، بل يدور حولها، مما يمنع من تهدئة درجة الحرارة في منطقة الموجة الحارة، فترتفع درجة الحرارة لهذا السبب أيضا بمعدلات أكبر.
وما سبب خطورتها؟
تكمن خطورة الموجات الحارة في أثرها المباشر في صحة الإنسان، وبشكل خاص بسبب اندماجها مع الرطوبة، فمع ارتفاع الرطوبة تكون درجات الحرارة أكثر تأثيرا.
ويشرح ما يُسمى مؤشر الحرارة ذلك الأثر بالجمع بين درجة حرارة الهواء والرطوبة النسبية في محاولة لتحديد درجة الحرارة التي يشعر بها الإنسان حقاً.
كمثال على ذلك، فإن الهيئات المختصة بالطقس في بلادك قد تعلن أن درجة الحرارة اليوم هي 38 مئوية على سبيل المثال، وتضيف أنك ستشعر بها وكأنها 42 مئوية، وتُسمى الأخيرة بـ”درجة الحرارة المُدرَكة”، ويمثل هذا الفارق تأثير الرطوبة في رفع الشعور بالحرارة.
وبحسب هذا المؤشر، فإن وصول درجة الحرارة إلى ما بين 27 و32 درجة مئوية تعني وجوب الحذر المتوسط، فمن الممكن أن يتضرر الإنسان مع التعرض للشمس فترات طويلة، أما لو ارتفعت الحرارة إلى ما بين 32 و41 درجة مئوية فإن ذلك يعني ضرورة الحذر الشديد، لأن ذلك يفتح الباب للإصابة بالإجهاد الحراري.
ويُعرّف الإجهاد الحراري بأنه عدم قدرة الجسم على التكيّف مع ارتفاع الحرارة وبالتبعية لا يتمكن من تبريد نفسه، ويتسبب ذلك بأعراض تبدأ بالعطش والجفاف وقد تصل إلى صدمة حرارية يصاب خلالها الشخص بصداع شديد وفقدان للتركيز والتهاب في الجلد.
إلى أي مدى يمكن أن تكون خطيرة؟
وتبدأ مستويات “الخطير” و”الخطير للغاية” إذا ارتفعت درجات الحرارة أعلى من 41 درجة مئوية وصولا إلى 54 درجة، وفي هذه الحالة من الخطير جدا التعرض للشمس بشكل مستمر، حيث يمكن أن يتطور الإجهاد الحراري إلى مستويات تدخل في مرحلة فقدان كامل للوعي مع اختلاجات قد تؤدي للوفاة في النهاية.
وأظهرت دراسة صدرت في دورية “نيتشر ميدسن” العام الماضي أن درجات الحرارة المرتفعة في عام 2022 قد تكون مسؤولة عن 70 ألف حالة وفاة إضافية في أوروبا، حيث قام الباحثون في معهد برشلونة للصحة العالمية بمراجعة التقديرات الأولية للوفيات المرتبطة بالحرارة لصيف 2022، وكان ثاني أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق في تاريخ القياس.
هذا ليس جديدا أو مفاجئا، ففي 2010 تسببت موجة حارة غير مسبوقة بقتل 11 ألف شخص في روسيا، وخلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار سنة 2015 اجتاحت موجة شديدة الحرارة الهند وقتلت في البداية 1118 شخصا، ثم ارتفع عدد القتلى ليصل إلى 1700 في نهاية شهر مايو/أيار، ولم تمر أسابيع قليلة حتى ضربت موجة شديدة الحرارة باكستان في يونيو/حزيران التالي وقتلت 1300 في كراتشي بشكل رئيسي.
ما هو دور التغيّر المناخي؟
وقد أشارت الدراسات في هذا النطاق إلى أن تغير المناخ يؤدي إلى زيادة كبيرة في تواتر وشدة ومدة موجات الحرارة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض بشكل عام بسبب الأنشطة البشرية مثل حرق الوقود الأحفوري.
ويؤدي تراكم الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون إلى احتجاز المزيد من الحرارة في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى ارتفاع عام في متوسط درجات الحرارة العالمية، ومع ارتفاع متوسط درجات الحرارة ترتفع احتمالية حدوث الموجات الحارة بدرجات أكبر.
أضف إلى ذلك أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى زيادة معدل التبخر من الماء واليابس، مما يؤدي إلى زيادة بخار الماء في الغلاف الجوي، وهو الأمر الذي يرفع من قيمة مؤشر الحرارة سالف الذكر، ويؤدي إلى زيادة حدة الموجات الحارة بالتبعية.
وتُظهر بيانات الرصد أن موجات الحر أصبحت أكثر تواتراً وشدة خلال العقود القليلة الماضية، فعلى سبيل المثال تفاقمت موجات الحر الأوروبية بين عامي 2003 و2019 مقارنة بأي تاريخ سابق لتلك الفترة، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة الأساسية بفعل تغير المناخ.
ماذا عن المستقبل؟
تتنبأ النماذج المناخية بأنه مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة العالمية، ستصبح موجات الحرارة أكثر شيوعا وشدة. فعلى سبيل المثال توصل فريق بحثي دولي في مارس/آذار الماضي إلى أن تغير المناخ يدفع موجات الحر لتصبح أطول في المدة وأقوى في التأثير، وبنى الباحثون عمليات محاكاة حاسوبية أدخلت فيها بيانات متوسط درجات الحرارة العالمية ومعدلات الموجات الحارة وحالات الضرر الصحي الناتجة عنها، وأظهرت نتائج المحاكاة ارتباطا قويا بين شدة وطول ومعدلات الموجات الحارة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري المسببة لتغير المناخ.
وتتفق نتائج تلك الدراسة مع أخرى توصل إليها فريق من جامعة كاليفورنيا إيرفين في 2017 تربط بين الارتفاع السريع في متوسط درجات الحرارة بسبب التغير المناخي في الهند كنموذج بحثي خلال الفترة بين 1960 و2009 وارتفاع تردد الموجات الحارة بها.
وفي دراسة نشرت قبل عدة أعوام بدورية “كومينيكيشنز إيرث آند إنفيرونمنت”، فحص العلماء البيانات التاريخية لتطور درجات الحرارة وكمية الكربون المنبعثة إلى الغلاف الجوي، ووجدوا أنه حتى إذا تمكنت دول العالم من إيقاف ارتفاع درجة الحرارة عند درجتين مئويتين بحسب اتفاقية باريس، فإن تجاوز الحد “الخطير” لحالات الإجهاد الحراري التي قد تكون قاتلة سيكون أكثر شيوعا بمقدار 3 إلى 10 أضعاف بحلول عام 2100 في الكثير من المناطق حول العالم.
ويخشى العلماء من أن الأمر لن يتوقف عند حدود المشكلات الصحية، فالموجات الحارة بهذا التردد وهذه الشدة باتت تؤثر بالفعل على الأمن الغذائي في العديد من الدول، حيث ترفع معدلات تلف المحاصيل الهامة أو إصابتها بالأمراض.
وإلى جانب ذلك، بات من السهل أن تصاب الماشية بالأمراض، ومع تغيرات درجة حرارة المياه تأثرت الثروة السمكية بوضوح، الأمر الذي يمكن أن يؤثر في اقتصادات كاملة، وبشكل خاص تلك التي تعمل في الرعي والزراعة وصيد الأسماك. ويرى فريق من الباحثين أن ذلك قد يؤدي بدوره إلى توترات سياسية ربما تتطور لتصبح صراعات عسكرية، وهو ما يضع على عاتق كوكبنا حملا إضافيا يعلم الله وحده إلى أي مدى سيصل تأثيره.