البحر المتوسط جف قبل 6 ملايين سنة.. فهل يعود؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

تمكّن فريق دولي من العلماء من حل لغز يتعلق بأن البحر الأبيض المتوسط عانى من الجفاف وفقدان معظم مياهه قبل ملايين السنين، مما أسفر عن تراكم طبقة من الملح يبلغ سمكها نحو 3 كيلومترات في قاع البحر.

وبحسب الدراسة المنشورة مؤخرا على موقع “نيتشر كومونيكيشن” وقادها علماء من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، فإن هذا الجفاف حدث على مرحلتين إثر انغلاق جزئي ثم كلي لمضيق جبل طارق الذي يفصل المتوسط عن المحيط الأطلسي، مما أدى إلى تبخر 70% من مياه المتوسط وانخفاض مستواه بحوالي الكيلومتر.

أزمة الملوحة المسينية

في سبعينيات القرن الماضي، اكتشف الجيولوجيون طبقة عملاقة من الملح في قاع البحر الأبيض المتوسط، وأظهرت الأبحاث لاحقا أن هذه الطبقة تشكلت في العصر المسيني بين 5.97 و5.33 ملايين سنة، عندما أدت حركة الصفائح التكتونية إلى رفع القشرة الأرضية في منطقة مضيق جبل طارق. وانجر عن هذا الحدث الجيولوجي غلق المنفذ المائي الوحيد الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي.

وأدى هذا الحدث الاستثنائي، الذي عرف باسم “أزمة الملوحة المسينية”، إلى ترسيب ما يقرب من مليون كيلومتر مكعب من الأملاح المتبخرة، وهي كمية كافية لتغطية الأعماق السحيقة للبحر الأبيض المتوسط ​​بطبقة من الملح يصل سمكها إلى ثلاثة كيلومترات. لكن كيفية تراكم هذه الكمية الهائلة من الملح في قاع المحيط الأبيض المتوسط ​​خلال فترة زمنية قصيرة، ظلت مجهولة حتى الآن.

يقول المؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة جيوفاني ألوازي، في حوار خاص مع الجزيرة نت، إنه “على الرغم من أن وجود رواسب ملحية عملاقة في حوض البحر الأبيض المتوسط كان معروفًا منذ عقود، فإن ما بقي لفهمه هو ما إذا كان تكوين هذا العملاق الملحي قد أدى أيضًا إلى انخفاض كبير في مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط”.

وأضاف الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي أن العلماء وضعوا سيناريوهين لتشكل هذه الترسبات، يتمثل الأول في “أن تكون رواسب الملح العملاقة قد تراكمت بسبب الإغلاق الجزئي لمضيق جبل طارق، نتيجة ارتفاع الغلاف الصخري للأرض في منطقة جبل طارق، مما منع الملح المذاب في البحر الأبيض المتوسط من التدفق إلى المحيط الأطلسي، وأدى إلى زيادة الملوحة في البحر الأبيض المتوسط، وفي النهاية إلى ترسب بلورات الملح وتراكمها على قاع البحر، لبناء طبقة ملحية يبلغ سمكها من 2 إلى 3 كيلومترات”.

أما السيناريو الثاني، فيتمثل -وفق ألوازي- في “انغلاق مضيق جبل طارق بالكامل بسبب ارتفاع الغلاف الصخري، مما أدى إلى فصل كامل بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السيناريو، يكون الملح قد ترسب مع انخفاض مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط بمقدار كيلومتر واحد”.

ترسب على مرحلتين

في الدراسة الجديدة، أظهرت نتائج تحليل نظائر الكلور الموجودة في الأملاح المستخرجة من قاع البحر الأبيض المتوسط أن ترسب الكمية الهائلة من الملح في قاع المتوسط أثناء التبخر الشديد حدث على مرحلتين، وفق بيان نشر على موقع المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي.

في المرحلة الأولى، التي دامت حوالي 35 ألف سنة، ترسبت الأملاح في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط ​​بسبب تقييد جزئي لتدفقها نحو المحيط الأطلسي. وفي مرحلة ثانية دامت أقل من 10 آلاف سنة، أغلق الممر المائي كليا بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، مما أدى إلى تراكم الملح في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، مدفوعًا بانخفاض سريع في مستوى سطح البحر يتراوح بين 1.7 كيلومتر و2.1 كيلومتر في الحوض الشرقي للمتوسط، وحوالي 0.85 كيلومتر في حوضه الغربي.

وبما أن كمية الماء التي يفقدها المتوسط نتيجة التبخر أكبر بكثير من تلك التي تتدفق إليه من الأنهار، فقد خسر حوض البحر الأبيض المتوسط ما يصل 70% من حجم مياهه في تلك الفترة، وفقا للدراسة، مما أدى إلى انخفاض مستوى سطح البحر بمقدار كيلومتر واحد في المتوسط عن مستوى المحيط الأطلسي.

كشفت الدراسة أيضا أن أزمة الملوحة المسينية انتهت بحدث معروف باسم الطوفان “الزانكلي”، الذي نتج عن تدفق كميات هائلة من المياه بعنف من المحيط الأطلسي أعاد ربط البحر الأبيض المتوسط. ويعتقد العلماء أن هذا الفيضان ربما كان الأكبر في تاريخ الكوكب، حيث كان أكبر بنحو ألف مرة من تدفق نهر الأمازون، وفقًا لبعض التقديرات. ويشير أحد النماذج إلى أن 90% من فيضانات البحر الأبيض المتوسط حدثت على مدى فترة لا تتجاوز العامين.

نهاية فترة جفاف المتوسط وتداعياتها

بحسب ألوازي، فإن انخفاض مستوى سطح البحر في غرب البحر الأبيض المتوسط خلال أزمة الملوحة المسينية “أدى إلى إنشاء جسر بري بين جزر البليار والبر الرئيسي الأوروبي، مما مكن للثدييات الأوروبية مثل القوارض والماعز أن تسير على طوله وتستعمر جزر البليار”.

وأضاف، في حديثه للجزيرة نت، أن ارتفاع الملوحة في المتوسط أحدثت “أزمة تنوع بيولوجي واسعة النطاق، حيث لم ينجُ سوى 86 من الأنواع المتوسطية المتوطنة البالغ عددها 779 قبل أزمة الملوحة”.

ويعتقد العلماء أن ذلك ساهم في إثارة الانفجارات البركانية القريبة بسبب تفريغ قشرة الأرض، فضلاً عن توليد تأثيرات مناخية عالمية بسبب الضغط الشديد الناجم عن انخفاض مستوى سطح البحر.

وأوضح المؤلف الرئيسي للدراسة أنه عندما “فقدان البحر الأبيض المتوسط نسبة كبيرة من كتلته المائية من خلال التبخر، مارس الغلاف الصخري لمنطقة البحر الأبيض المتوسط (الغلاف الصخري هو الطبقة الخارجية الصلبة للأرض) ضغطا كبيرا أدى إلى تشكل الصهارة (الصخور المنصهرة) في الوشاح الأساسي. وبالإضافة إلى تسهيل تشكل الصهارة في الوشاح، فإن الضغط جعل من السهل على الصهارة أن ترتفع عبر الصخور الصلبة للغلاف الصخري، وتثور على السطح”.

ويعتقد العلماء أن مثل هذه الأحداث الاستثنائية يمكن أن تحدث مجددا حينما تتكرر العوامل نفسها، إلا أن تلك الاحتمالات -بافتراض صحتها- لن تحدث في الوقت القريب أبدا، لكن عبر ملايين السنوات.

والأرض في النهاية كوكب مرن جيولوجيا، وخلال ملايين السنوات تحركت قاراتها فتبعادت أو تصادمت، لتصنع أكبر الجبال والهضاب وأوسع الوديان والبحار والمحيطات.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *