عاما 2013 و2020، شهدا فيضانات في إندونيسيا بصورة غير مسبوقة، واجهتها الحكومة بـ “استمطار السحب” أو ما يعرف بـ “البذر السحابي” لإجبار السحب على تفريغ حمولتها من المياه في المحيط، قبل أن تسقط في العاصمة “جاكرتا” وتزيد من معاناتها مع الفيضانات.
وهو الأمر دفع خبراء تحدثوا للجزيرة نت إلى التساؤل بشأن إمكانية استدعاء تلك التجربة في مناطق أخرى من العالم لمواجهة الاضطرابات المناخية، ومنها الفيضانات، كالتي حدثت خلال أغسطس/آب الجاري.
وقد شهدت عدة مدن بالخليج والوطن العربي، ومناطق متفرقة من العالم، خلال أغسطس/آب الجاري، هطولا كثيفا للأمطار، وصل إلى حد الفيضانات، وهو مشهد ليس معتادا خلال شهور الصيف، وهو ما يفسره كثيرون بأنه نتيجة للتغيرات المناخية، وتساءل البعض هل يكون استدعاء تجربة “الاستمطار الصناعي” حلا لتجنيب العالم أخطار الأمطار؟
الفرق بين الأمطار والاستمطار
يقول الدكتور محيي الدين عمر، خبير المياه بالمركز الدولي للبحوث في المناطق الجافة والقاحلة (الإيكاردا) “حتى نفهم ما الذي يمكن أن يضيفه الاستمطار الصناعي في القضاء على إحدى أهم مشاكل التغيرات المناخية، وهي الفيضانات الناتجة عن الهطول الكثيف للأمطار خلال وقت قصير جدا. فكيف يحدث السقوط الطبيعي للأمطار؟”.
ويوضح أنه “عندما تتبخر المياه من المسطحات المائية، أو تنتج عن النتح من المسطحات الخضراء، وتتجمع على شكل بخار في الهواء، تتكون السحب، وعندما تصل كميات المياه إلى حد التشبع بحيث تصبح أكبر من أن تتحملها طاقة الهواء يحدث سقوط الأمطار”.
ورغم أن كميات البخار تزيد خلال الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة، فإن طاقة الهواء الساخن على حمل المياه تكون كبيرة، حيث يرتفع حد التشبع، لذلك عادة لا تسقط الأمطار.
ولكن مع تغير المناخ، والارتفاع الكبير في درجة الحرارة الذي زادت معه كمية التبخر في بعض المناطق، أصبحت كمية المياه أكثر من المعتاد وأعلى من حد التشبع وقدرة الهواء الساخن على حملها، فيحدث هطول الأمطار الذي يكون كثيفا وفي وقت قصير جدا، لأن الهواء يكون محملا بكميات كبيرة من المياه، وهي المشكلة التي يمكن أن يحلها الاستمطار الصناعي، كما يؤكد الدكتور عمر.
والاستمطار الصناعي عملية يتم من خلالها تلقيح السحب، عن طريق إضافة جزيئات صغيرة من “يوديد الفضة” وهو ملح ذو بنية بلورية مشابهة لبنية الجليد، وذلك بالنسبة للسحب الباردة (-5 درجة) وملح “كلوريد الصوديوم” بالنسبة للسحب الدافئة، وعادة ما يتم تنفيذ هذه العملية باستخدام طائرة عادية أو مسيرة.
وتسمح هذه الطريقة بـ “خداع” بخار الماء الموجود داخل السحب ليشكل قطرات حول جزيئات يوديد الفضة أو “كلوريد الصوديوم” وبمجرد أن تصبح القطرات ثقيلة بدرجة كافية، فإنها تتساقط من السحب على شكل أمطار.
ويقول الدكتور عمر إنه يمكن تنفيذ هذا الاستمطار في الأماكن التي تكشف بيانات الأقمار الاصطناعية أنها مرشحة لحدوث الفيضانات، وذلك قبل أن تمتلىء السحب بالمياه للدرجة التي تتسبب في حدوث فيضانات، كما حدث في أغسطس /آب من هذا العام في عدة مناطق من العالم.
وخلال يناير/كانون الثاني من عامي 3013 و2020، نفذت إندونيسيا هذه الطريقة لمنع الهطول الكثيف للأمطار على العاصمة، حيث نفذت طائرات عسكرية تحمل أطنانا من ملح “كلوريد الصوديوم” عملية تلقيح السحب، وعلى مدار شهرين نثرت الملح على السحب الممطرة عبر المحيط، وقالت الحكومة إن هذه العملية كانت فعالة في خفض معدل هطول الأمطار في جاكرتا.
الاستمطار بين الترفيه والضرورة
هذا الاستخدام للاستمطار الصناعي، الذي أشار إليه الدكتور عمر، مستشهدا بالتجربة الإندونيسية، هو الأكثر شيوعا في روسيا، ولكن في سياق مختلف، حيث يتم استخدام تلك التقنية قبل الأعياد الكبيرة حتى لا تفسد الأمطار الكثيفة الاحتفالات العامة.
وأفادت التقارير أنه عام 2016 دفعت روسيا 86 مليون روبل (1.44 مليون يورو أو 1.43 مليون دولار) لإجراءات الاستمطار السحابي لضمان عطلة جافة في عيد العمال.
وعلى العكس من روسيا، سعت الصين إلى تلطيف الأجواء قبل دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية في بكين عام 2008، فكان الحل هو الاستمطار الصناعي.
واليوم، فإن التطبيق الأشهر هو استخدام هذه الطريقة لجعل المطر يهطل في المناطق التي تعاني من الجفاف، والتي تحتاج إلى هطول منتظم للأمطار، وليس هطولا كثيفا يصبح أكبر من طاقة التربة على استيعابه.
ويشبه الدكتور عمر الهطول الكثيف للأمطار كالذي حدث خلال أغسطس/آب في بعض المناطق، بأنه جرعة واحدة مكثفة من دواء، ليست كافية لعلاج مرض الجفاف، مشيرا إلى أن “العلاج يحتاج إلى برنامج مستدام تهطل خلاله الأمطار على فترات منتظمة، وهو ما يمكن أن يساهم فيه الاستمطار الصناعي”.
وكشفت مراجعة بحثية نشرتها دورية “أنكونفينشنال ووتر ريسورسز” -في مايو/أيار من العام الماضي- عن فعالية “تلقيح السحب” في زيادة هطول الأمطار بنسبة تصل إلى 15% من المعدل السنوي، اعتماداً على الموارد السحابية المتاحة والأنظمة التقنية المستخدمة، وهو ما دفع الكثير من الدول إلى التوسع في استخداماته لتسكين آلام الجفاف.
وتوسعت الولايات المتحدة -خلال العامين الماضيين- في تقنيات الاستمطار، حيث تنفق ولاية “يوتا” وحدها ما يزيد على 700 ألف دولار سنويا على تلك التقنيات.
كما توسعت عمليات تلقيح السحب خارج الولايات المتحدة، حيث تدعم هذا التوجه بشكل كبير الإمارات التي تحصل حاليا على أكثر من 40% من مياهها من خلال محطات تحلية المياه.
وبدأت الإمارات عام 2010 مشروع تلقيح السحب رسميا، مما سجل نجاحا في تطوير العواصف المطيرة بصحارى دبي وأبوظبي. وبحلول 2016، عززت الدولة مهمتها في مجال تلقيح السحب بحوالي 100 رحلة جوية سنويا تبذر “كلوريد الصوديوم” في السحب.
وعام 2018 كشف المركز الوطني للأرصاد الجوية في الإمارات أنها نفذت 184 عملية تلقيح للسحب، ونتيجة لذلك حدثت زيادة قدرها 55 ملليمترا في هطول الأمطار السنوي العام التالي.
كما تتمتع الصين منذ فترة طويلة ببنية تحتية في هذا المجال، حيث تنفق ملايين الدولارات كل عام على الاستمطار في الشمال والغرب شبه القاحلين.
وكشفت السعودية عن خطط لتعزيز جهودها في مجال الاستمطار من خلال شراء 5 طائرات جديدة، تستخدم في “البذر السحابي”. كما أطلق المغرب مؤخرا برنامجا للاستمطار أسماه ” الغيث” للتعامل مع مشكلة الجفاف.
3 أسئلة×3 مشاكل
ورغم ما يبدو من مزايا لهذه التقنية في “تسكين آلام الجفاف” أو مواجهة الهطول الغزير للأمطار، فإن هناك أسئلة تنتظر إجابات كافية، حتى تحصل على مزيد من الثقة والانتشار عالميا.
وأولها ما يشير إليه عبد الله شرف، الباحث بمركز الأحياء بالتشيك، يتعلق بـ “التكلفة”، فبينما يقول المعارضون إنها تكلف أموالا ضخمة، يقول المؤيدون “التكلفة منخفضة نسبيا، مقارنة بقيمة المياه”.
ويقول شرف “لا توجد دراسات جدوى واضحة تجيب عن سؤال التكلفة، مقارنة بتقنيات أخرى لتوفير المياه مثل التحلية”.
ويتعلق ثانيها بمدى سلامة تقنية الاستمطار الصناعي، حيث تتحدث تقارير عن أن تلك التقنية يمكن أن تتسبب في زيادات “غير محسوبة” بمعدلات هطول الأمطار، ولا توجد دراسات واضحة تجيب.
وقد أشار لتلك المشكلة باحثون من فرعي جامعة “هيريوت وات ” في دبي وأدنبره بالمملكة المتحدة، حيث كشفت دراسة منشورة في نوفمبر/ تشرين الثاني بدورية “ووتر” أن الاستمطار، وإن كان قد ساعد على زيادة كمية هطول الأمطار، فإن الزيادة كانت أكبر من قدرة البنية التحتية على استيعاب الزيادة في السريان السطحي للمياه، مما يقتضي إحداث تعديلات بالتخطيط العمراني، بما يتلاءم مع التوسع في هذا النشاط.
والسؤال الآخر، الذي يشير إليه الباحث بمركز الأحياء بالتشيك، هو ذلك الذي يتعلق باحتمالات التلوث الناتج عن استخدام مادة “يوديد الفضة” في البذر السحابي.
وإلى جانب الأسئلة، فإن هناك مشكلات يمكن أن تثيرها تلك التقنية، وأولها ما يتعلق بأنك “إذا قمت بالبذر السحابي فوق منطقتك لمكافحة الجفاف، فلن تحمل تلك السحب المطر إلى المنطقة التالية، وهذا يمكن أن يثير مشاكل وأزمات دولية”.
وتناولت هذه المشكلة دراسة نشرتها دورية “أتموسفيريك ريسيرش” في يناير/كانون الثاني 2014، وخلصت من خلال تجربة شملت 5 تجارب تشغيلية وبحثية، إلى التقليل من تأثيرها، لكن باحثيها اتفقوا مع ما خلص إليه شرف من أهمية إجراء دراسات على مساحات أكبر وتتعامل مع مجموعة أكبر من البيانات، للوصول إلى قرار حاسم بشأن هذه المشكلة.
والمشكلة الثانية أن “تلقيح السحب على نطاق واسع، يمكن أن يؤدي إلى خلل في النظام البيئي، وهذا الأمر يجب حسمه أيضا بدراسات مستفيضة”.
ويختم شرف بالإشارة إلى المشكلة الثالثة، وهي أن تلك التكنولوجيا التي تم تطويرها من أجل الصالح العام يمكن إساءة استخدامها، ويعود للوراء قليلا عندما استخدمت الولايات المتحدة تلك التقنية سلاحا في حرب فيتنام لتصبح الأرض موحلة، مما يعوق وصول أي إمدادات للجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفيتكونغ).
ويخلص شرف إلى أن تلك التقنية، وإن كانت قد حققت نجاحا في نطاق استخدامها المحدود، فإن تعميم استخدامها على نطاق واسع عالميا يحتاج إلى توفير إجابات واضحة وشافية عن الأسئلة المطروحة، ووضع حلول للمشاكل التي يمكن أن تثيرها.