ارتبط مصطلح “المقاومة السلبية” سياسيا بطريقة الزعيم الهندي ألمهاتما غاندي، في استخدام الأساليب غير العنيفة لتحقيق الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وهو معنى قريب للغاية من استخدامه في مجال وقاية النبات، حيث يشير إلى مواجهة “الاستعمار الفطري للنبات” باستخدام مواد غير ضارة بالبيئة.
وغالبا ما يستخدم المزارعون مبيدات الفطريات لحماية المحاصيل من الفطريات، لكن رغم أهمية هذه المركبات، فإن لها بعض السلبيات، مثل إيذاء الكائنات الحية المفيدة في الأرض، كما أن لبعضها صلات بتلوث المياه والسرطان والعقم وأمراض أخرى، وهو ما دفع بعض الدول إلى إصدار قائمة بمواد يحظر استخدامها.
وأثير بالمملكة المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي جدلا، بعد أن كشف تحقيق أجرته شبكة عمل مبيدات الآفات (شبكة دولية تعمل على إنشاء نظام غذائي عادل وصحي ومنصف)، أن المملكة المتحدة لا تزال تستخدم 36 مبيدا ضارا محظورة في بلدان أوروبية أخرى، مع تصنيف 13 منها بأنها “شديدة الخطورة”، وهو ما يعزز من أهمية حل “المقاومة السلبية” الذي طرحه باحثون من جامعة نوتنغهام في دراسة نشرتها دورية “غرين كمستري”.
وخلال الدراسة أعلن الباحثون عن طريقة بديلة لحماية المحاصيل من الفطريات دون استخدام المبيدات التقليدية، وركزوا على اختبار مواد بوليمرية متجانسة تمنع ما يسمى بـ”الاستعمار الفطري”، مما يقدم نهجا جديدا غير سام وصديق للبيئة.
ما هو الاستعمار الفطري؟
يشير الاستعمار الفطري إلى العملية التي تتيح للفطريات التكاثر والوجود بقوة على سطح النبات، وتتضمن الخطوة الأولى لتلك العملية الالتصاق الضعيف لعدد قليل من الخلايا أو الجراثيم الفطرية بالسطح، وتسهيل هذا الارتباط يحصل بواسطة جزيئات تعرف باسم المواد اللاصقة مثل “الهيدروفوبينات”، وهي بروتينات تجعل الأسطح كارهة للماء، مما يعزز الارتباط الفطري.
وبمجرد التصاقها، تخضع الخلايا أو الجراثيم الفطرية لالتصاق لا رجعة فيه، ويمكن أن يحدث ذلك من خلال إنبات الجراثيم وإنتاج المواد اللاصقة المتخصصة، ويؤدي ذلك إلى اتصال مستقر بين الفطر وسطح النبات.
وبعد ذلك تنتشر الفطريات ويزداد عددها، وهذه المرحلة هي التي يحدث فيها معظم الضرر أو العدوى، حيث يبدأ الفطر في استخلاص العناصر الغذائية من النبات.
والميزة التي تقدمها تركيبة بوليمرات (ميث أكريلات) التي اختبرها باحثو جامعة نوتنغهام، أنها تمنع مرحلة الارتباط الأولية قبل اكتمال خطوات الاستعمار الفطري. ويشير اسم هذه البوليمرات إلى أن جزيئات الأكريليت (مركبات مشتقة من حمض الأكريليك) والميثاكريلات (مركبات مشتقة من حمض الميثاكريليك)، تمثل جزءا كبيرا من بنية البوليمر، والذي يختلف تركيبه من تطبيق لآخر اعتمادا على الوظيفة التي يريد الباحثون لهذا البوليمر أن يؤديها.
مقاومة بدون أضرار
والوظيفة التي أرادها الباحثون لتركيبة البوليمرات التي ابتكروها، هي أن تؤدي ما يعرف بـ”المقاومة السلبية”، حيث تعمل كحاجز وقائي يمنع الاستعمار الفطري منذ بدايته عن طريق تعديل خصائص سطح النبات، بما يجعل هناك صعوبة على الجراثيم الفطرية أن تلتصق وتقيم اتصالا مستقرا به، وبالتالي تمنع المراحل الأولية للاستعمار الفطري.
ولا تطلق تركيبة البوليمرات المستخدمة أي مواد كيميائية سامة، ولذلك فإن هذا النهج للمقاومة السلبية يتوافق مع مبادئ الكيمياء الخضراء التي تهدف إلى تحقيق حماية فعالة للمحاصيل دون الاعتماد على المواد السامة، وبالتالي الحفاظ على فعالية الوظيفة في حماية المحاصيل، مع تقليل المخاطر البيئية والإيكولوجية.
يقول أستاذ علم الأحياء الدقيقة والباحث الرئيسي بالدراسة سيمون أفيري، في بيان صحفي نشره الموقع الرسمي لجامعة نوتنغهام: إن تركيبتهم الجديدة اختُبرت معمليا، ثم نُقلت إلى برنامج لتحسين وتوسيع نطاق استخدامها في تركيبة رش يمكن استخدامها على المحاصيل.
وأوضح أن النتائج التي أجريت على نبات القمح أظهرت أن المادة قللت بشكل كبير من العدوى الفطرية بالفطر “سبتوريا تريتشي” بنسبة تصل إلى 26%، وذلك دون أن تؤثر على معدلات نمو المحصول عند مقارنته مع محصول آخر لم تتم معاملته بتلك التركيبة، وهو ما يعني أنها توفر بديلا يبدو أكثر أمانا للبيئة والحياة البرية والناس.
والفطر “سبتوريا تريتشي” يسبب مرضا كبيرا في القمح، وتشمل أعراضه آفاتا نخرية داكنة ذات أجسام صغيرة سوداء مميزة تسمى “بيكنيديا” على أوراق القمح المصابة، ويؤدي إلى أضرار واسعة النطاق في النبات.
أمل في مواجهة أهم التحديات
وتبدي الباحثة المشاركة بالدراسة فالنتينا كوزوكولي كروسيتي، سعادة بالنتائج التي ستساعد في مواجهة واحد من أهم التحديات التي تواجه محصول القمح.
تقول: “يُعد القمح أحد أهم محاصيل الحبوب من الناحية الاقتصادية والغذائية، ولكن يبقى هناك تحديا حقيقيا ينتظر الحل، حيث يُفقد ما بين 5 و10% من المحصول بسبب الفطريات، حتى مع استخدام أصناف المحاصيل المقاومة ومبيدات الفطريات، لذلك فإن التركيبة الجديدة تمنح أملا كبيرا بالتخلص من تلك المشكلة بالمقاومة السلبية”.
ووصفت الباحثة في علم أمراض المحاصيل بشركة الاستشارات الزراعية والبيئية “إيه دي إيه إس” كلوي مورغان، التجربة الحقلية للتركيبة بأنها “كانت واعدة للغاية”.
وقالت مورغان التي شاركت شركتها في التجربة: إن “البوليمرات أظهرت أن لديها مستوى من الفعالية ضد الفطر سبتوريا تريتشي، ومع مزيد من التحسين يمكن أن تلعب دورا حيويا في مواجهة الأمراض المستقبلية”.
ومن جانبه، أعرب أستاذ المحاصيل بمركز البحوث الزراعية المصري خالد خورشيد، عن إعجابه باختيار فطر “سبتوريا تريتشي” كبداية لتجربة التركيبة، لأنه يمثل مصدر قلق كبير لمزارعي القمح حول العالم، ويمكن أن يسبب خسائر كبيرة في المحصول بسبب تأثيره على قدرة النبات على التمثيل الضوئي عن طريق إتلاف الأوراق، مما يؤدي إلى انخفاض جودة الحبوب وكميتها.
وليس ذلك فحسب، بل إن هذا الفطر -كما يوضح خورشيد في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”- أصبح يشكل تحديا كبيرا في المواجهة، لأنه طوّر مقاومة لبعض مبيدات الفطريات، مما يؤدي إلى صعوبة في إدارة المرض.
خمسة تساؤلات.. التهيؤ لتجربة أخرى
لكن رغم الإشادة والإعجاب، لا تزال هناك تساؤلات لم يجد خورشيد إجابة عليها في الدراسة التي وصف فيها الباحثون تركيبتهم الجديدة ونتائج تجاربها الحقلية، وهي:
- أولا: هل يختلف أداء المواد البوليمرية في ظل ظروف بيئية مختلفة، مثل اختلاف الرطوبة أو درجة الحرارة أو المواقع الجغرافية؟
- ثانيا: هل يمكن لمسببات الأمراض الفطرية في نهاية المطاف تطوير مقاومة للمواد البوليمرية، مثلما فعلت مع المبيدات التقليدية؟
- ثالثا: ما هي تكلفة تنفيذ هذا النهج الجديد، مقارنة بالمعالجات التقليدية بمبيدات الفطريات، وكيف يمكن أن يؤثر على اقتصاديات الزراعة بشكل عام؟
- رابعا: ما مدى قابلية إنتاج هذه المواد البوليمرية على نطاق واسع، وما هي التحديات التي يمكن مواجهتها عند النظر في التطبيقات التجارية الواسعة النطاق؟
- خامسا: ما مدى احتمالية اعتماد المزارعين لهذا النهج الجديد، وما هي العوامل التي قد تؤثر على قرارهم، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل سهولة التطبيق والفعالية الملموسة؟
وحمل البيان الصحفي وعدا بالإجابة على هذه الأسئلة، حيث قالت فالنتينا كوزوكولي كروسيتي: “يتحول اهتمامنا الآن إلى تجربة ميدانية ثانية مدرجة في مذكراتنا لهذا العام لزيادة صقل البوليمر وتحسينه حتى نتمكن من مواصلة تحويل أبحاثنا إلى واقع”.
وتضيف أن “جمال تركيبتنا هو افتقارها إلى السمّية، والبساطة النسبية لإنتاجها، وحقيقة أنه يمكن توسيع نطاقها بسهولة، مما يجعلها فرصة جذابة بشكل لا يصدق للعديد من الصناعات الأخرى، وليس فقط الزراعة”.