تخيل أن لديك أداة يمكنها انتقاء اليوريا من بين خليط المياه، وليس ذلك فحسب، بل تقوم في الوقت نفسه بتحويلها إلى أحد مصادر الطاقة النظيفة، وهي غاز الهيدروجين.
قد يبدو ذلك بعيدا عن التصور، ولكن فريقا بحثيا من معهد ورسستر للعلوم التطبيقية بأميركا نجح في تحقيق ذلك، فقد أعلن في دراسة نشرتها دورية “جورنال أوف فيزيكال كمستري ليترز”، عن تصميم تلك “المادة الخارقة” التي لا تكتفي بانتقاء اليوريا وحدها من بين خليط المواد الموجودة بالمياه، ولكن جعلت منها قيمة اقتصادية أيضا.
مِن “التخثث” تبدأ المشكلة
وتُستخدم اليوريا عادة كأسمدة زراعية نيتروجينية منخفضة الكلفة، وتُشكل تحديات بيئية عند وجودها في الجريان السطحي الزراعي ومياه الصرف الصحي البلدية، حيث يساهم تصريفها في حدوث ما يعرف بـ”التخثث” الذي تكون له عواقب سلبية على النظام البيئي.
والتخثث عملية يحدث من خلالها إثراء مجرى مائي بالمواد المغذية مثل النيتروجين، فعندما تدخل هذه المواد إلى الماء، تُحفز نمو الطحالب والنباتات المائية الأخرى التي تتسبب بحدوث “المناطق الميتة” ناقصة الأكسجين، وتؤثر سلبا على النظم البيئية المائية وصحة الإنسان.
ويحدث هذا التأثير السلبي عندما تموت الطحالب والنباتات وتتحلل، فتقوم البكتيريا باستهلاك المادة المتحللة، مما يؤدي إلى زيادة استهلاك الأكسجين في الماء، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى انخفاض نسبة هذا العنصر، وفي الحالات القصوى يمكن أن تتشكل “مناطق ميتة” تفتقر إلى وجوده، وهو ما يؤدي إلى الإضرار بالأسماك والكائنات المائية الأخرى التي تعتمد على المياه الغنية بالأكسجين، ويؤدي ذلك إلى تعطيل توازن النظام البيئي المائي، مما يؤثر على وفرة الأنواع المختلفة وتوزيعها، ويمكن أن يؤدي أيضا إلى هيمنة أنواع معينة غالبا ما تكون الطحالب الضارة على حساب أنواع أخرى.
5 محاولات.. 5 عقبات
وقبل المحاولة الأخيرة التي قدمها باحثو معهد ورسستر للعلوم التطبيقية بأميركا، استكشفت دراسات سابقة طرقا مختلفة لتقليل أو إزالة اليوريا من المياه، وهي:
- المعالجة البيولوجية: وتعتمد على استخدام بعض الكائنات الحية الدقيقة والبكتيريا لتحليل اليوريا بشكل طبيعي عبر العمليات البيولوجية.
- عمليات الأكسدة المتقدمة: عبر استخدام عمليات كيميائية متقدمة لتحلل أو تأكسد الملوثات في الماء، واستكشاف تقنيات مثل التحفيز الضوئي والأوزون لتحطيم جزيئات اليوريا إلى مكونات أقل ضررا.
- الامتزاز والترشيح: عبر استخدام مواد يمكنها التقاط وإزالة اليوريا من الماء، مثل الكربون المنشط وأنواع معينة من الأغشية.
- الطرق الكهروكيميائية: وتتضمن هذه الطرق استخدام الطاقة الكهربائية لتسهيل التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى تحلل اليوريا.
- الترسيب الكيميائي: ويتضمن إضافة مواد كيميائية محددة إلى الماء للحث على تكوين جزيئات صلبة يمكن فصلها بسهولة.
وأظهرت الطرق الخمس السابقة نتائج إيجابية على النطاق المعملي، غير أن هناك عقبات حالت دون تطورها إلى حل تطبيقي، ومنها:
- عدم الانتقائية:
فلم تحقق تلك الطرق انتقائية عالية في استهداف اليوريا على وجه التحديد، مما يؤدي إلى الأكسدة غير المرغوب فيها أو إزالة المواد الأخرى الموجودة في الماء، وهذا النقص في الانتقائية يمكن أن يقلل من الكفاءة الشاملة لعملية المعالجة.
فبعض الطرق كثيفة الاستهلاك للطاقة، مما يتطلب مدخلات طاقة كبيرة لعملية المعالجة، وهذا يمكن أن يساهم في ارتفاع تكاليف التشغيل، ويحد من جدوى التنفيذ على نطاق واسع.
- قابلية التوسع:
فقد تواجه بعض التقنيات التي تعمل بشكل جيد في المختبرات تحديات عند توسيع نطاقها لتطبيقات العالم الحقيقي، وذلك بسبب افتقادها للقدرة على التعامل مع كميات كبيرة من المياه.
- الكفاءة المحدودة:
فبعض الأساليب لا تحقق معدلات إزالة عالية، أو قد تكون أقل فعالية في وجود ملوثات أخرى شائعة في الماء.
- المخلفات الكيميائية:
فقد تؤدي بعض الطرق القائمة على المواد الكيميائية إلى إدخال بقايا إضافية أو منتجات ثانوية في الماء، مما قد يثير مخاوف بيئية ثانوية.
مادة خارقة.. آفاق واعدة للتطبيق
وانطلاقا من دراسة التجارب السابقة، والتحديات التي حالت دون تطبيقها على نطاق واسع، عمل الباحثون من معهد ورسستر للعلوم التطبيقية بأميركا على حل يقوم على “الأكسدة الكهربائية الانتقائية لليوريا” باستخدام مادة خارقة غير ملوثة للمياه تستطيع التعامل مع كميات كبيرة منها، وتخلق قيمة مضافة لعملية المعالجة وهي إنتاج غاز الهيدروجين من اليوريا، ومن ثم فإن هذا النهج يبشر بإمكانية التنفيذ على نطاق واسع.
ووفق بيان صحفي نشره موقع معهد ورسستر للعلوم التطبيقية، فإن التفكير في تلك المادة انطلق مما هو معروف عن الخصائص الفريدة لليوريا، وأهمها احتواؤها على نسبة كبيرة من الهيدروجين (6.7٪ بالوزن)، ومن ثم فإن التحليل الكهربائي لإنتاج الهيدروجين منها، قد يكون أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وفعالية من حيث التكلفة مقارنة بالتحليل الكهربائي التقليدي للمياه.
ولا يزعم الباحثون في الدراسة أنهم أول من فكر في التحليل الكهربائي لليوريا لاستخراج الهيدروجين، لكنهم أشاروا إلى أن العقبة التي واجهت المحاولات السابقة هي عدم وجود محفزات كهربائية ميسورة التكلفة وعالية الكفاءة قادرة على أكسدة اليوريا بشكل انتقائي من الماء.
وقال الباحثون بقيادة البروفيسور شياووي تنغ، إنهم عالجوا هذا التحدي عبر تطوير محفزات كهربائية تشتمل على ذرات النيكل والكوبالت المتفاعلة بشكل تآزري مع هياكل إلكترونية فريدة، مما يسهل الأكسدة الكهربائية الانتقائية لليوريا.
ويمكن تلخيص هذا الإنجاز فيما يلي:
- أولا- تطوير المواد:
فقد قام الباحثون ببناء مواد باستخدام ذرات النيكل والكوبالت بتكوينات إلكترونية محددة، وكانت هذه المواد عبارة عن أكاسيد وهيدروكسيدات فلزات انتقالية، وتحديدا أكاسيد وهيدروكسيدات النيكل والكوبالت.
- ثانيا- أكسدة اليوريا الانتقائية:
كان الإنجاز الرئيسي هو جعل هذه المواد تعمل على أكسدة اليوريا بشكل انتقائي في تفاعل كهروكيميائي، وهذا يعني أن المادة يمكنها استهداف جزيئات اليوريا على وجه التحديد وتحويلها إلى مواد أخرى مثل غاز الهيدروجين، دون التأثير على جزيئات الماء المحيطة.
- ثالثا- حياكة الهيكل الإلكتروني:
وجد الباحثون أن نجاح هذه الأكسدة الانتقائية يكمن في تصميم الهياكل الإلكترونية لذرات النيكل والكوبالت، واستهدفوا الأنواع السائدة -“أيون النيكل” و”أيون الكوبالت”- في التكوين الإلكتروني.
ويمكن تشبيه هذا “الهيكل الإلكتروني” باعتباره “اللغة” أو أسلوب الاتصال لذرات النيكل والكوبالت، ومن خلال تعديل هذه اللغة لتحتوي على المزيد من “الكلمات”، أي المزيد من أيونات النيكل والكوبالت، جعل الباحثون المادة أفضل في التفاعل مع اليوريا وتحويلها.
حقبة جديدة للعلاقة بين المياه والطاقة
ويثني أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة إلمنيا (جنوب مصر) خالد أبو العز، في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، على هذا الإنجاز البحثي، لأنه يستفيد من وجود سماد اليوريا في المياه لتدشين حقبة جديدة من العلاقة بين الماء والطاقة. فمن خلال إزالة اليوريا من الماء بكفاءة عبر عملية كهروكيميائية، يهدف الباحثون ليس فقط إلى معالجة مشكلة التلوث، ولكن أيضا لإنتاج غاز الهيدروجين كمصدر محتمل للطاقة.
ويمثل اختيار سماد اليوريا لهذا العمل لفتة ذكية من الباحثين، كما يوضح أبو العز، لأن كمياته المتسربه إلى المجاري المائية تسمح ببناء مشروع اقتصادي لاستخراج الهيدروجين. فهو أحد الأسمدة النيتروجينية الرئيسية والمواد المضافة للأعلاف منذ عشرينيات القرن الماضي، وأُنتج منه ما يقرب من 180 مليون طن متري (الطن المتري يعادل 1000كغم) في عام 2021.
ولكن هذه الإشادة لم تمنع أبو العز من الإشارة إلى أن ما تحقق في هذا البحث، خطوة ينتظرها خطوات إضافية للإجابة على سؤالين فارقين في التطبيق العملي، وهما:
أولا: ما هو مدى استقرار المحفزات الكهربية المستخدمة على المدى الطويل، وهل هناك احتمالية للتحلل مع مرور الوقت، وكيف يمكن تحسين استقرار المواد للاستخدام الممتد؟
ثانيا: كيف يمكن دمج هذه التكنولوجيا مع أنظمة معالجة المياه وإنتاج الطاقة الحالية، وهل هناك أوجه محتملة للتكامل مع التقنيات الناشئة الأخرى، وكيف يمكن أن تتناسب مع البنية التحتية للمياه والطاقة؟
ويقول أبو العز: “من المؤكد أن الباحثين بحاجة إلى دراسات إضافية للإجابة على هذين السؤالين، وقد تقود هذه الدراسات مثلا إلى تحسين المحفزات الكهربائية بشكل أكبر لزيادة الكفاءة والانتقائية أو إجراء تعديلات إضافية على الهياكل أو التركيبة الإلكترونية لتحسين أدائها”.