بينما تعاني أصناف النباتات المستأنسة من العجز في مواجهة الأمراض وتغيرات المناخ، لا تزال أصولها البرية صامدة في البيئة تحت ظروف ندرة المياه أو الحرارة الشديدة، إضافة لمقاومة الأمراض، مما جعل الباحثين يدركون أن هذه الأصول البرية -التي نشاهدها في الصحاري ولا نعيرها اهتماما- قد تكون مفتاحا لتأمين غذاء المستقبل، لا سيما “قمح الخبز”.
أول خريطة جينومية
تطور قمح الخبز على مدى آلاف السنين من التهجين بين 3 أصول برية، ليصل إلى الشكل الذي نعرفه الآن، ويعتبر قمح “مونوكوكم” أحد الأصول الثلاثة المكونة لجينوم قمح الخبز، ويعتقد أيضا أن قمح “إينكورن” أو ما يعرف بـ”القمح الوحيد الحبة” قد تطور عنه.
وقبل نحو عام، أعلن فريق بحثي من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) يقوده براندي فولف، أستاذ علوم النباتات المشارك بقسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية بالجامعة، عن نجاحه في نقل جين يحمي من أحد أخطر أمراض القمح، ويعرف بـ”صدأ الساق الأسود”، إلى قمح الخبز، بعد تحديده في أحد أصول القمح البرية “عشب إيجيلوبس شارونينسيس”، ومؤخرا قطع فريق بحثي آخر من الجامعة نفسها شوطا كبيرا في عمل جينوم مرجعي للقمح الوحيد الحبة.
وخلال دراسة نشرت في دورية “نيتشر” في أغسطس/آب الماضي، أعلن الفريق البحثي، الذي يقوده 3 باحثين من برنامج علوم النبات بالجامعة، هم جيسي بولاند ومايكل أبروك وسيمون كراتينغر، عن نجاحهم في تجميع أول خريطة جينومية كاملة لحبوب “إينكرون”، يعود تاريخها إلى أكثر من 10 آلاف عام في المناطق الخصبة في الشرق الأوسط، حيث بدأت زراعتها.
يقول عالم وراثة ومربي نبات بالفريق البحثي لـ”جيسي بولاند” الدكتور إبراهيم البسيوني، في تصريحات عبر الهاتف للجزيرة نت، إن “النجاح في فهم التنوع الجيني والتاريخ التطوري للقمح الوحيد الحبة سيساعد الباحثين في الاستفادة من إمكاناته الجينية في جهود التحسين الوراثي المستقبلية لتطوير أصناف قمح خارقة تكون أكثر مرونة في مواجهة الأمراض وتغيرات المناخ”.
تجريف وراثي
وتعرض قمح الخبز الحديث لما أسماه البسيوني بـ”التجريف الوراثي” بسبب تركيز المزارعين القدماء ومربي النبات في العصر الحديث على أصناف محددة تحمل جينات تحقق مزايا معينة، سواء في الإنتاجية أو مقاومة الأمراض، وكان ذلك على حساب أصناف أخرى، ومع الوقت انخفض التنوع الوراثي لقمح الخبز، مما عرضه لتغيرات المناخ وتهديدات الأمراض الجديدة، فكان الحل هو اللجوء لأنواع القمح البرية مثل القمح الوحيد الحبة للحصول على مصادر جديدة للمقاومة للأمراض والتغيرات المناخية.
ويشبه البسيوني هذه الحالة بـ”أرض مجهدة” تعرضت للتجريف نتيجة زراعتها لعشرات السنين، فبدأت تفقد عناصرها الغذائية، وأرض بكر لم تزرع من قبل ولا تزال تحتفظ بعناصرها الغذائية، ويقول إن “إينكرون مثل الأرض البكر، فهو لا يزال يحافظ على تنوعه الوراثي، في حين أن قمح الخبز فقد تنوعه الوراثي مع التركيز من عام لآخر على أصناف محددة دون غيرها”.
وأحد الأسباب التي منحت إينكرون ميزة التنوع الوراثي هو أنه على الرغم من نكهته الفريدة وفوائده الغذائية العالية، فإنه فقد تدريجيا على مدى آلاف السنين دوره في إنتاج الغذاء العالمي، مع ارتفاع شعبية قمح الخبز، فكان التركيز على قمح الخبز سببا في فقدانه تنوعه الوراثي، وبقاء أحد الأصول البرية له متمتعا إلى الآن بالتنوعي الوراثي.
ثنائي الكروموسوم
وبينما يحمل قمح الخبز 6 نسخ من “الكروموسومات” تصعب كثيرا من مهمة إنتاج “خريطة جينومية كاملة له”، فإن إينكرون ثنائي “الكرومسوم” سهّل كثيرا من مهمة إنتاج “أول خريطة جينومية كاملة له”، كما يقول للجزيرة نت الدكتور السيد محمد مشاحيت مدرس أمراض النبات بكلية الزراعة في جامعة دمنهور بمصر والاستشاري بمؤسسة كابي الدولية.
ويرى مشاحيت أن الفهم الواضح للنبات الذي أظهره الباحثون في الدراسة يبشر بنجاحهم لاحقا في توظيف قدراته الجينية لخدمة قمح الخبز في معركته مع تغيرات المناخ ومسببات الأمراض المختلفة.
وكان من بين ما أظهره الباحثون في دراستهم، ويكشف عن فهمهم للتنوع الجيني بهذا النبات، هو أنهم نجحوا في تحديد طفرة بأحد الجينات مسؤول عن نقص التفريع في القمح الوحيد الحبة، كما كشفوا عن أن 1% من جينوم قمح الخبز الحديث مصدره القمح الوحيد الحبة.
وشبه بيان صحفي أصدرته جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا هذا الانتقال الجيني بما يحدث في الجينوم البشري، وقال البيان “كما يحتوي الجينوم البشري على تسلسلات من أبناء عمومتنا من إنسان النياندرتال، فإن جينوم قمح الخبز الحديث مليء أيضا ببقايا الحمض النووي من القمح الوحيد الحبة”.
ونقل البيان عن سيمون كراتينغر، أحد قادة الفريق البحثي، قوله إن “جينات القمح الوحيد الحبة ربما تكون قد ساعدت في الماضي قمح الخبز على التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة، وإذا كان للتاريخ أي مؤشر، فإن الشيء نفسه يمكن أن ينطبق على المستقبل، خاصة بمساعدة تقنيات التربية الحديثة الموجهة جزئيا”.
ثلاث تقنيات
وعموما فإن التقنيات المتاحة للاستفادة من جينات نبات في نبات آخر هي التربية التقليدية “التهجين”، ونقل الجينات، والتقنية الأحدث “التحرير الجيني” المعروفة باسم “كريسبر – كاس 9”.
ويقول ممثل المركز الدولي للزراعة بالمناطقة الجافة والقاحلة (إيكاردا) في مصر علاء حموية للجزيرة نت إن الطريقة الأولى تعتمد على تهجين المحاصيل الزراعية التقليدية مثل قمح الخبز مع تلك البرية من فصيلته مثل “إينكورن” أو “إيجيلوبس شارونينسيس”، لكي نحصل على قمح مقاوم للحشرات والأمراض وتغيرات المناخ.
أما طريقة “نقل الجينات” فتتم عبر وسيلتين، أولاهما تتم باستخدام مسببات أمراض نباتية مثل البكتيريا، حيث يتم تحميل الجين المطلوب عليها بعد إضعافها، حتى لا تتسبب في إصابة النبات بالمرض، والأخرى تعتمد على “المدفع الجيني” حيث يتم إطلاق جزيئات الذهب التي تحمل الجين المطلوب إلى داخل الخلايا النباتية.
والطريقة الثالثة هي “كريسبر – كاس 9 أو 12″، وهي تقنية تمنح العلماء القدرة على تغيير الحمض النووي للكائن الحي، بإضافة صفات مرغوبة أو إزالة صفات معينة في مواقع محددة في الجينوم.
ويقول حموية إن نجاح باحثي “كاوست” في تحديد جينات معينة في النبات البري قد يمكنهم من استخدام الطريقة الأخيرة، وهي الأحدث، والتي تتغلب على المخاوف التي تثار بشأن أضرار الهندسة الوراثية.
ويضيف “تسمح هذه الطريقة بإدخال الجينات بشكل متحكم فيه بمواضع محددة في الجينوم وليس عشوائيا، كما في طرق الهندسة الوراثية التقليدية، مما يقلل من خطر الأضرار غير المستهدفة وغير المعلومة”.