تمكّن فريق بحثي بقيادة الأستاذ المساعد في المعهد الجيوفيزيائي بجامعة ألاسكا فيربانكس الأميركية تارسيلو جيرونا من تطوير نظام يعتمد على التعلم الآلي يمكنه تنبيه الناس بأيام أو شهور قبل وقوع زلازل كبرى.
توصل جيرونا إلى هذا الاكتشاف بعد دراسة الزلازل في ألاسكا وكاليفورنيا، وتحليل النشاط الزلزالي المنخفض الذي يسبق تلك الأحداث، بحسب دراسة حديثة نشرها الفريق في دورية “نيتشر كوميونيكيشنز”.
ويعد تعلم الآلة أحد فروع الذكاء الاصطناعي التي تُعنى بتحسين جودة النتائج بناء على دراسة كم كبير جدا من البيانات، ثم استنتاج أنماط محددة من تلك البيانات، وتحويل تلك الأنماط إلى قوانين احتمالية تستخدم مرجعا لتحليل البيانات الجديدة.
تسخير قوة تعلم الآلة
استخدم جيرونا، مع زميلته الجيولوجية كرياكيس دريموني من جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونخ، خوارزمية حاسوبية لتحليل كميات هائلة من البيانات الزلزالية. استهدفت الدراسة زلزال “أنكوريج” الذي حدث في عام 2018 وقد بلغت قوته 7.1 درجات، بالإضافة إلى زلزال “ريدجكريست” في كاليفورنيا الذي وقع بعده بعام بقوة تتراوح بين 6.4 و7.1 درجات. وأظهرت الدراسة نمطا من النشاط الزلزالي منخفض القوة قد سبق وقوع كلا الزلزالين بفترة تقارب 3 أشهر.
يقول جيرونا، في تصريحات خاصة للجزيرة نت، “لاختبار الخوارزمية مع زلازل ريدجكريست وأنكوريج، استخدمنا بيانات استرجاعية لمحاكاة كيفية أداء النظام لو تم تطبيقه في الوقت الفعلي. وقمنا بإدخال بيانات زلزالية لكلا الحدثين في الخوارزمية لتقييم ظهور النشاط الزلزالي الشاذ أو الإشارات الأولية، ووجدنا زلازل شاذة منخفضة القوة تسبق الزلزالين الكبيرين”.
تنبأت الخوارزمية بأن احتمال حدوث زلزال كبير في غضون 30 يوما أو أقل عالية، إذ ارتفعت الاحتمالات بشكل حاد لتصل حوالي 80% قبل 3 أشهر من زلزال أنكوريج، وزاد الاحتمال إلى 85% قبل أيام قليلة من وقوعه. كما كانت هناك نتائج مشابهة لزلزال ريدجكريست، حيث ارتفع الاحتمال قبل 40 يوما من وقوعه الفعلي.
يفسر العلماء هذه الأنماط بأن النشاط الزلزالي المنخفض القوة الذي يحدث قبل الزلازل الكبرى يرتبط بزيادة كبيرة في ضغط السوائل المسامية داخل الصدوع الأرضية التي قد تغيّر من الخصائص الميكانيكية لهذه الصدوع، مما أدى إلى ظهور أنماط غير منتظمة.
نحو نظام عالمي للتنبؤ بالزلازل
يقول جيرونا للجزيرة نت “من حيث الإجراءات أو التدخلات العامة، فإن استنتاجنا هو أنه إذا أشارت الخوارزمية إلى ارتفاع احتمال وقوع زلزال كبير القوة، فيمكن للسلطات استخدام هذه المعلومات لتحديث مستويات التنبيه الزلزالي وتعديل تقييماتها وفقا لذلك. إن قرار إصدار تحذيرات بناء على هذه التحديثات يتطلب المزيد من المناقشات بين السلطات المحلية. وبصفتنا علماء، فإن دورنا هو توفير الأدوات التي تساعد السلطات المحلية على اتخاذ قرارات مستنيرة أثناء مثل هذه التقييمات”.
ويؤكد الباحثون أن الخوارزمية يجب أن تخضع لعملية تدريب جديدة مع كل زلزال كبير يحدث لتعزيز دقتها. كما ينبغي تدريبها ببيانات محلية في كل منطقة ودولة قبل تطبيقها لمراعاة الفروقات الإقليمية والحد من الإنذارات الكاذبة. يوضح جيرونا “من المهم ملاحظة أن هذا المشروع مستمر، وإحدى خطواتنا التالية هي اختبار الخوارزمية في مناطق إضافية لتحديد ومعالجة أي قيود محتملة بشكل أكبر، والتحدي الرئيسي هو الحاجة إلى عدة عقود من سجلات البيانات الزلزالية القوية”.
ورغم الإمكانيات الواعدة لهذا النظام، فإنه يحمل تحديات كبيرة. فالأخطاء في التنبؤات، سواء كانت تحذيرات زائفة أو تنبؤات فاشلة، يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة، إذ قد تؤدي الإنذارات الكاذبة إلى ذعر غير ضروري واضطراب اقتصادي وفقدان الثقة.
ثورة التعلم الآلي في علوم الزلازل
لكن الفائدة الكبرى لهذا النظام الجديد تكمن في استخدام التعلم الآلي لاستكشاف البيانات الزلزالية الضخمة. إذ تنتج مراكز رصد الزلازل الحديثة مجموعات ضخمة من البيانات يمكنها، عند تحليلها بشكل صحيح، أن توفر رؤى قيمة حول مسببات الأحداث الزلزالية، وهو ما يمكن أن يلعب فيها التعلم الآلي والحوسبة العالية الأداء دورا محوريا من خلال تمكين الباحثين من التعرف على الأنماط الهامة التي قد تشير إلى زلزال وشيك.
يسمح هذا النهج باكتشاف الأنماط الدقيقة التي قد تفوتها الملاحظة البشرية، كما يكشف عن علاقات معقدة وغير خطية بين الأحداث الزلزالية التي تتجاهلها الطرق التقليدية عادة. بالإضافة إلى ذلك، سيسرع استخدام التعلم الآلي من التعرف على العوامل المحتملة ومقارنتها بالطرق الجيوفيزيائية والجيوكيميائية الأخرى، وذلك بفضل التسجيل الروتيني لفهارس الزلازل.
وبتحديث النماذج وتحسينها باستمرار مع توفر بيانات جديدة، قد تتعزز قدرتها على التكيف ويقل احتمال الإنذارات الكاذبة بمرور الوقت. يضيف جيرونا “نعتقد أن هذا النهج يمثل تقدما واعدا في قدرات التنبؤ بالزلازل من خلال استخدام تقنيات تحليلية متطورة وبيانات شاملة. وأتوقع أن تدمج طرق التنبؤ بالزلازل في الوقت الفعلي مناهج وخوارزميات متعددة في المستقبل”.
وبينما يستمر الباحثون في اختبار الخوارزمية، تتطلع وكالات مراقبة الزلازل إلى كيفية تبني هذه الطريقة. يقول جيرونا “يعتمد الجدول الزمني لوكالات مراقبة الزلازل لتبني هذه الطريقة على عدة عوامل، بما في ذلك نتائج التحقق والاختبار الجاريين، فضلا عن ردود الفعل من التطبيقات التجريبية. بالإضافة إلى ذلك، سيعتمد التكامل الناجح لهذه الطريقة على تطوير البنية الأساسية اللازمة والتعاون مع الباحثين الآخرين وأصحاب المصلحة المعنيين لضمان تحذيرات فعالة وفورية من الزلازل عبر مناطق مختلفة”.
ويختتم جيرونا “سنعمل بشكل وثيق مع علماء الزلازل والجيولوجيين من مناطق مختلفة لتكييف النموذج مع الخصائص التكتونية المحددة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين قدراته على التنبؤ”.
تفتح هذه الدراسة نافذة جديدة على إمكانية التنبؤ بالزلازل قبل وقوعها بفترات طويلة، وهو إنجاز قد ينقذ حياة آلاف بل ملايين البشر، ويقلل من حجم الخسائر الاقتصادية التي تعقبها، ولكن لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام تطبيق التقنية على نطاق واسع. ومع استمرار الباحثين في تحسين النظام واختباره، قد يكون عالمنا على أعتاب ثورة جديدة في كيفية التنبؤ بالكوارث الطبيعية والاستعداد لها بالعلم الحقيقي وليس الزائف.