قبل نحو 20 عاما، خرجت دراسة علمية ممولة من الاتحاد الأوروبي بمشاركة باحثين من فلسطين وإسرائيل وإيطاليا وفرنسا، بنتيجة مؤداها أن طبقة المياه الجوفية في قطاع غزة، لن تصبح صالحة للاستخدام بعد 25 عاما بسبب ارتفاع نسبة الملوحة، وحددوا الأسباب التي تؤدي لذلك، وفي مقدمتها التدفق الطبيعي للمياه المالحة التي تأتي من طبقة المياه الجوفية شرق القطاع من داخل إسرائيل، وتختلط مع طبقة المياه الجوفية بالقطاع.
وحدد حينها الفريق البحثي بقيادة عالم الكيمياء الجيولوجية أفنير فينغوش من جامعة بن غوريون في بئر السبع؛ حلا لتلك المشكلة يمكن أن يأتي من داخل إسرائيل، في إطار ما يعرف بـ”دبلوماسية العلوم”. غير أن “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جاء ليضيف سببا جديدا يُخرج مياه قطاع غزة من الخدمة قبل خمسة أعوام من الموعد الذي حددته الدراسة، وذلك عبر تسميمها بالفوسفور الأبيض، والذي استخدمته إسرائيل في هذه الحرب بكثافة فاقت الحروب السابقة.
وتشير “دبلوماسية العلوم” التي انطلقت منها تلك الدراسة إلى الانخراط في التعاون العلمي كوسيلة لبناء الثقة وتعزيز حسن النية ودعم التفاهم بين الأمم وتجاوز الخلافات. وفي إطار هذا المفهوم اقترحت الدراسة مشروعا لعلاج المياه الجوفية بقطاع غزة كوسيلة للتفاهم والتقارب بين القطاع وإسرائيل، وقال الباحثون المشاركون بالدراسة حينها إن السياق السياسي لا يسمح بذلك، لكن ربما يسمح مستقبلا، ولكن مع الحرب الدائرة الآن فإن عالم الهيدرولوجيا بجامعة القدس عامر مرعي -وهو الباحث الفلسطيني المشارك بالدراسة- قال في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: “كنا نحلم، ومن حقنا كباحثين أن نحلم، ولكن يبدو أنها كانت مجرد أوهام”.
تشخيص المشكلة.. حل خارج السياق
يعتمد نحو 1.2 مليون شخص في قطاع غزة على المياه من طبقة المياه الجوفية الساحلية بجنوب البحر الأبيض المتوسط، والتي تقع تحت الأرض وتمتد إلى داخل إسرائيل.
ووجد الباحثون -بقيادة عالم الكيمياء الجيولوجية أفنير فينغوش من جامعة بن غوريون في بئر السبع- أن مياه الشرب في قطاع غزة عادة ما تحتوي على أكثر من غرام من ملح “كلوريد الصوديوم” لكل لتر، وهو ما يزيد بكثير عن الحد القانوني في أوروبا الذي يجعله في مستوى 250 إلى 600 ملغم في إسرائيل.
وتوصلوا إلى أن معظم الملح يأتي من طبقة المياه الجوفية من إسرائيل، والتي تتدفق بشكل طبيعي نحو قطاع غزة، ومن ثم اقترحوا ما يقولون إنه حل بسيط نسبيا للمشكلة، حيث قالوا إنه يمكن خفض مستويات الملح في المياه بقطاع غزة وتحسين جودتها عبر الإجراءات التالية:
- ضخ المياه المالحة من إسرائيل قبل وصولها إلى قطاع غزة واستخدام محطات تحلية المياه لتحويلها إلى مياه نظيفة وصالحة للشرب، واقترحت الدراسة إضافة عشرة آبار مياه جوفية فقط قرب الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة، ومنشأتين صغيرتين للتحلية من أجل هذا الغرض.
- تقليل كمية المياه المسحوبة من طبقة المياه الجوفية في غزة.
وقال قائد الدراسة أفنير فينغوش إن “تنفيذ إسرائيل لهذه الإجراءات سيمكّن الفلسطينيين من الاستفادة من المياه المحسّنة، وستكسب إسرائيل حسن النية، في حين ستخسر فقط المياه المالحة التي لم تكن تستخدمها على أي حال”.
كيف تأتي المشكلة من داخل إسرائيل؟
مسؤولية التدفق القادم من إسرائيل على ملوحة المياه الجوفية في قطاع غزة، ليس بالأمر الجديد الذي يكشفه فينغوش وفريقه البحثي، ففي فبراير/شباط الماضي نشرت دورية “جورنال أوف أفريكان إيرث ساينس”، دراسة للباحث أشرف مشتهى من مصلحة المياه ببلديات الساحل بقطاع غزة، أجراها بالتعاون مع الباحثة بمختبر الجيولوجيا التطبيقية والهيدروجيولوجيا بجامعة غنت البلجيكية كرستين والريفينز، كشف فيها عن ثلاثة مصادر رئيسية لملوحة المياه الجوفية في قطاع غزة، كان من بينها طبقة المياه الجوفية في إسرائيل.
وتظهر نتائج دراسة أشرف مشتهى ثلاثة مصادر رئيسية لملوحة المياه الجوفية، هي:
- تسرب مياه البحر.
- التدفق الجانبي من صخور الأيوسين في الشرق أو من التدفق الزراعي العائد نتيجة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة للري في إسرائيل بالقرب من الحدود الشرقية.
- المياه المالحة البحرية الأحفورية المحاصرة في قاع طبقة المياه الجوفية.
ولم يطرح مشتهي حلولا للمشكلة، ولكن الدراسة الجديدة المثيرة للجدل التي قادها عالم الكيمياء الجيولوجية أفنير فينغوش من جامعة بن غوريون والتي عُرضت في وقت الحرب بمؤتمر الجمعية الجيولوجية الأميركية، تفردت بالقيام بذلك، ولكن الحل الذي طرحته يبدو أشبه بـ”اليوتوبيا”، كما يصفها نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية بكلية الزراعة جامعة القاهرة.
ويقول نور الدين في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إنه “علميا لا يوجد أدنى مشكلة في هذا الحل، بل إنه يمكن بالفعل أن يساعد في حل المشكلة، ولكن يبدو أنه غير منطقي في الإطار السياسي السابق والحالي، لأن إسرائيل إذا أرادت إبداء حسن نية، وهذا غير وارد في تاريخها، كان يمكن أن تسمح للقطاع بإنشاء محطات تحلية للمياه بإمكانيات تكنولوجية جيدة وبدعم دولي كبير من البنك الدولي والمؤسسات التمويلية عوضا عن المحطات الأهلية محدودة الإمكانيات والتي تسحب من طبقة المياه الجوفية دون دراسة أو رقابة”.
ويضيف أنه “مع زيادة عدد هذه المحطات وزحفها بالقرب من البحر، أدى ذلك إلى تسرب مياه البحر، وهذا في رأيي هو السبب الرئيسي للمشكلة، حيث يؤدي الضخ المفرط للمياه العذبة من طبقات المياه الجوفية الساحلية إلى انخفاض منسوب المياه بشكل فعال، وأدى هذا الانخفاض في مستوى المياه إلى تسرب مياه البحر من المحيط القريب إلى طبقة المياه الجوفية. ولأن مياه البحر تحتوي على تركيز ملوحة أعلى من المياه العذبة، فإنه عندما تغزو طبقات المياه الجوفية الساحلية ترفع مستويات ملوحة المياه الجوفية بما يجعل المياه غير صالحة للشرب والاستخدام الزراعي”.
وقبل عام 2000، كانت آبار المياه العامة توضع بعيدا عن البحر، ولم يلاحَظ أي تسرب لمياه البحر خاصة في جنوب قطاع غزة (محافظتي خان يونس ورفح). ولكن فيما بعد ذلك ظهرت آبار المياه العامة على بعد 2 كلم من البحر الأبيض المتوسط، ومنذ ذلك الحين، بدأ تسرب مياه البحر بسبب السَّحب الكثيف للمياه الجوفية، كما يوضح نور الدين.
العدالة المائية.. غائبة
وإذا كان نور الدين حاول التقاط الأبعاد العلمية للدراسة وإبداء الرأي حولها في إطار الوضع السياسي الراهن، فإن الباحث بالمركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة لمنطقة البحر المتوسط في إيطاليا أحمد أيوب، لا يري أي ملمح علمي “معتبَر” في الدراسة، مشيرا في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”، إلى أن الهدف منها سياسي بالدرجة الأولى، ويبدو طرحه خارج سياق الواقع.
ويتساءل مستنكرا: “هل نتوقع من إسرائيل التي تحرص منذ احتلال الأراضي الفلسطينية على تغييب العدالة المائية، أن توفر مصادر طاقة تسمح بتشغيل محطات تحلية المياه لتقوم بتزويد قطاع غزة بها؟! فأي منطق يمكن أن نناقش به هذه الحلول لاسيما في الوقت الراهن الذي تحرص فيه إسرائيل، ليس فقط على تغييب العدالة المائية، ولكن على تغييب كل مقومات الحياة؟!”.
ويوضح أيوب أن الأساسيات العامة للعدالة المائية التي تتعامل مع الفلسطينيين كبشر يحتاجون للمياه مثل الإسرائيليين، غائبة تماما، وتتجلى في الآتي:
- عدم المساواة في الوصول، حيث يوجد تناقض صارخ في الوصول إلى موارد المياه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويظهر ذلك في أن الفلسطينيين يواجهون في كثير من الأحيان قدرة محدودة على الحصول على المياه النظيفة للاستخدام المنزلي والزراعي والصناعي مقارنة بالإسرائيليين، إذ يبلغ نصيب المواطنين في الضفة الغربية من المياه -على سبيل المثال- ربع ما يحصل عليه المواطن الإسرائيلي.
- ندرة المياه، حيث تعاني المجتمعات الفلسطينية في كثير من الأحيان من القيود المفروضة على الوصول إلى مصادر المياه الكافية، فلا يسمح لهم -على سبيل المثال- بأي حال من الأحوال، بحفر آبار مياه جوفية أو إعادة استخدام المياه عبر محطات معالجة لتوظيفها في أغراض أخرى، وتؤثر هذه الندرة على الحياة اليومية والزراعة والأنشطة الاقتصادية.
- الاعتماد على المصادر الخارجية، حيث يعتمد الفلسطينيون في كثير من الأحيان على المساعدات الخارجية أو شراء المياه من السلطات الإسرائيلية بسبب محدودية إمكانية الوصول إلى موارد المياه الخاصة بهم، ويؤثر هذا الاعتماد على الاكتفاء الذاتي والسيادة في إدارة احتياجاتها المائية.
ويقول أحمد أيوب بنبرة ساخرة: “عندما نحقق أساسيات العدالة المائية يمكن حينها أن نناقش حلول تحسين الأوضاع التي طرحتها تلك الدراسة التي تبدو خارج سياق الواقع”.
أسئلة بيئية.. لا إجابات
ولم تتعرض الباحثة بالمركز الدولي للدراسات الزراعية المتقدمة لمنطقة البحر المتوسط في إيطاليا رولا خضْرا للأبعاد السياسية، وحرصت على التقييم العلمي فقط، مشيرة في هذا الإطار إلى أن هناك أسئلة كثيرة لم يتم الإجابة عليها، أبرزها ما يتعلق بالاستدامة، فالمعروف أن استمرار السحب من طبقة المياه الجوفية سيؤدي إلى مزيد من ملوحة المياه، كما سيؤدي إلى أضرار كبيرة بالتربة، وهذا هو الأهم.
تقول خضرا -وهي أيضا عضو في المجلس العربي للمياه- في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: إن “السحب المفرط للمياه الجوفية سيؤدي إلى انخفاض سطح الأرض تدريجياً، ويحدث هذا عندما تتسبب الفراغات التي خلّفتها المياه المستخرَجة من طبقة المياه الجوفية في ضغط التربة المغطاة واستقرارها، ويمكن أن يؤدي الهبوط إلى أضرار هيكلية للمباني والبنية التحتية والأراضي الزراعية، كما أن خفض منسوب المياه الجوفية عن طريق الضخ المفرط يمكن أن يجعل المياه المالحة أقرب إلى السطح، ويمكن أن تتسرب هذه المياه المالحة إلى التربة، مما يؤدي إلى تملحها، ويمكن أن تؤدي مستويات الملح المرتفعة في التربة إلى إعاقة نمو النباتات وتقليل الإنتاجية الزراعية وتدهور جودة التربة بمرور الوقت”.
وتتساءل بعد طرح هذه التحديات: “هل تمت دراسة هذه التحديات وكيفية مواجهتها والمدى الزمني لاستمرار هذا المشروع المقترح على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل بحيث لا يتسبب السحب المفرط للمياه الجوفية في هذه المشاكل؟”.
في زمن الفوسفور الأبيض.. حل إنساني
ومع تحدي الطاقة الذي أشار إليه أحمد أيوب والتحديات البيئية التي طرحتها رولا خضرا، فإن رئيس وحدة الري والصرف بمركز بحوث الصحراء المصري محمد الحجري، أعاد استخدام كلمة “اليوتوبيا” عند الحديث لوصف هذه الدراسة.
ويقول الحجري في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”: “ما نشاهده الآن يؤكد هذا الوصف، حيث تقضي إسرائيل حاليا على مستقبل الزراعة والمياه الجوفية على أرض غزة باستخدام الفوسفور الأبيض بكثافة غير مسبوقة”.
ويضيف: “في زمن الفوسفور الأبيض، لا يبدو أن هناك حسن نوايا لا اليوم ولا غدا، لأن هذا العنصر الضار والمميت، لا يؤثر فقط على الحاضر، ولكن يدمر المستقبل أيضا”.
وتتمثل التأثيرات الفورية لاستخدام الفوسفور الأبيض في أنه يشتعل عند ملامسته للهواء، مما يسبب حروقا وإصابات شديدة عند تعرضه للجلد، كما أن استنشاق دخانه أو أبخرته يمكن أن يسبب مشاكل في الجهاز التنفسي، وتلف الرئة، والالتهاب الرئوي الكيميائي، أما التأثيرات المستقبلية فتتمثل في أنه يستمر في البيئة لفترات طويلة، ويستمر في التسرب إلى المياه الجوفية لفترة طويلة بعد توقف استخدامه في الحرب.
وبينما تواصل إسرائيل استخدامه بكثافة في الحرب الحالية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تُذكّرنا دراسة فلسطينية لعدنان محمد عيش من قسم الجيولوجيا بجامعة الأزهر، أن الأضرار البيئة لاستخدامه في عملية الرصاص المصبوب الإسرائيلية على غزة في الفترة ما بين ديسمبر/ كانون الأول 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009، تركت تأثيرات بيئية رُصدت بعد عامين من تلك العملية.
وعثر الباحث على وجود للفوسفور الأبيض في المناطق الزراعية بمعدل نحو 110.9 ملغم/كغم، وفي المناطق غير الزراعية المجاورة للحدود بنحو 63.3 ملغم/كغم، وفي المناطق الحضرية بنحو 85.2 ملغم/كغم، وهي معدلات أعلى من القيم المسموح بها.
ولا يبدو مع هذا الحرص الإسرائيلي على تنفيذ سياسة “الأرض المحروقة” في غزة بالقضاء على فرص الحياة فيها، أن هناك أملا في حدوث تحسن بالمناخ السياسي يسمح بتنفيذ مشروع المياه الجوفية الذي اقترحته الدراسة المشتركة لباحثين من فلسطين وإسرائيل.
وكان عالم الهيدرولوجيا عامر مرعي من جامعة القدس وأحد المشاركين بالدراسة، قال في تصريحات نقلها موقع “نيتشر”: إن “نقل الاقتراح من الساحة العلمية إلى الساحة السياسية سيحتاج إلى جهة راعية مثل البنك الدولي، وتحسّن في المناخ السياسي بالمنطقة، وهذا لا يتناسب مع الأجندة السياسية الحالية”.
لكنه بدا متفائلا وقال: إن “هذه الأجندة ستتغير بما يسمح بالتنفيذ”، لكنه وبعد أن شاهد ما يحدث الآن قال لـ”الجزيرة نت”: “يبدو أن خيالنا كان واسعا”.