يعدّ البلاستيك من أكثر المواد انتشاراً وشيوعاً على كوكب الأرض. وعلى الرغم من أنه قدّم فوائد عظيمة للحضارة البشرية، فإن المواد البلاستيكية أصبحت مسؤولة الآن عن أضرار كبيرة على صحة الإنسان والنظم البيئية المختلفة.
والبلاستيك مواد كيميائية اصطناعية معقدة وغير متجانسة، ويتكون البلاستيك من بوليمرات أساسية تعتمد على الكربون، بالإضافة إلى آلاف المواد الكيميائية التي تُدمجفي البوليمرات للحصول على خصائص محددة مثل اللون والمرونة والثبات وتحمل درجات الحرارة العالية ومقاومة الأشعة فوق البنفسجية.
إلا أن العديد من هذه المواد الكيميائية المضافة هي مواد شديدة السمية، وتشمل المواد المسرطنة، والمواد السمية العصبية، ومسببات اختلال الغدد الصماء التي تؤثر في صحة الإنسان وفي النظام البيئي بشكل عام.
مشكلة البلاستيك
تكمن المشكلة الأساسية للبلاستيك في أنه يستغرق وقتاً طويلاً كي يتحلل في الطبيعة، وقد تصل مدة تحلله إلى مئات السنين، لذلك، وبالنظر إلى قلة برامج التدوير، تتراكم أطنان من النفايات البلاستيكية في المحيطات واليابسة.
وتقدر الأمم المتحدة أن نحو 13 مليون طن من النفايات البلاستيكية تُرمى سنويا في المحيطات، فيما يعاد تدوير نحو 9% فقط منها.
كما يؤكد تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن 85% من القمامة البحرية هي من البلاستيك، ويحذر التقرير من أنه بحلول عام 2040 ستتضاعف كمية النفايات البلاستيكية التي تتدفق إلى المحيط ثلاث مرات تقريبا، وأن 23 إلى 37 مليون طن من النفايات البلاستيكية ستُضاف إلى المحيط كل عام.
المايكروبلاستيك مشكلة إضافية
المايكروبلاستيك أو المواد البلاستيكية الدقيقة، جزيئات بلاستيكية صغيرة يقل قطرها عن 5 مليمترات، وهو ما يعادل حجم حبة السمسم تقريباً.
ويوجد المايكروبلاستيك في الطبيعة نتيجة تفكك وتكسر القطع البلاستيكية الأكبر حجماً مثل زجاجات المياه، أو العلب البلاستيكية أو إطارات السيارات، ويحدث هذا إما عن طريق التحلل الكيميائي، أو التآكل إلى قطع أصغر بسبب التعرض للعوامل البيئية، وخاصة أشعة الشمس وأمواج المحيط، والإجهاد الميكانيكي.
كما يدخل المايكروبلاستيك في بعض الصناعات مثل مستحضرات التجميل ومعجون الأسنان، ويمكن أن ينتج من الألياف الدقيقة المتساقطة من الملابس والمنسوجات الأخرى مثل شباك الصيد.
ويقدر العلماء وجود ما لا يقل عن 170 تريليون جزيء بلاستيكي في المحيطات، ويبلغ وزنها الإجمالي نحو مليوني طن.
غسالتك المصدر الأول للمايكروبلاستيك
تتخلص المنسوجات من جزء من أليافها الدقيقة سواء أثناء تصنيعها أو ارتدائها أو عند التخلص منها، لكنْ يُعد غسيل الملابس المصدر الأساسي لها.
وتشير التقديرات إلى أن الملابس المصنوعة من ألياف اصطناعية والتي تمثل ما يقرب من 60% من الاستهلاك العالمي السنوي للمنسوجات، هي المصدر الرئيسي للمايكروبلاستيك، إذ تساهم بنحو 35% من حجم هذه الجزيئات الدقيقة التي تُطلق إلى محيطات العالم.
وتتخلص الملابس المصنوعة من البوليستر من عدد كبير من الألياف، ويمكن لحمولة غسيل نموذجية بوزن 6 كغم من الأقمشة الصناعية إطلاق حتى 7 ملايين من الألياف البلاستيكية في كل غسلة، وذلك اعتمادا على عدد من العوامل مثل نوع القماش ونوع المنظفات ودرجة حرارة الماء.
تدخل هذه الألياف الدقيقة إلى مجاري مياه الصرف الصحي، والتي تصل عموماً إلى محطات معالجة خاصة، إلا أنها يمكن أن تصل مباشرة إلى المسطحات والمجاري المائية والأنهار لينتهي بها المطاف إلى البحار والمحيطات.
يمكن لمحطات المعالجة المتقدمة إزالة ما يصل إلى 99 بالمائة من الألياف الدقيقة من الماء، ولكن بما أن حمولة غسيل واحدة يمكن أن تنتج ملايين الألياف، فإن المياه المعالجة التي يتم تصريفها من المصنع لا تزال تحتوي على عدد كبير منها.
تنتهي الألياف الدقيقة التي تُزال أثناء المعالجة في حمأة الصرف الصحي وتتحول غالباً إلى سماد للتربة، وهو ما يسمح للجزيئات البلاستيكية الدقيقة بدخول الهواء والتربة، والانتقال إلى الشبكة الغذائية الأرضية وامتصاصها بواسطة المحاصيل الزراعية.
المايكروبلاستيك في جسم الإنسان
عثر باحثون من كلية “هال يورك الطبية” البريطانية في أبريل/ نيسان 2022 على جسيمات بلاستيكية دقيقة لأول مرة في رئات بشرية حيّة، وكان يُعتقد سابقاً أن هذا مستحيل نظراً لضيق الشعب الهوائية في الرئتين.
ووجد العلماء 39 مادة بلاستيكية دقيقة في 11 من أصل 13 عينة من أنسجة الرئة التي اختُبرت، وتعود الجزيئات البلاستيكية الدقيقة إلى 12 نوعاً من أنواع البلاستيك المستخدم في العبوات والقوارير والملابس والحبال.
وتأتي الدراسة بعد وقت قصير من اكتشاف الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في دم الإنسان لأول مرة، حيث بيّن فحص عينات الدم لـ22 متطوعاً وجود جزيئات البلاستيك فيما نحو 80% منهم، مما يسلط الضوء على مدى انتشار مثل هذه الجزيئات في جسم الإنسان.
وتنتقل الجزيئات البلاستيكية الدقيقة إلى جسم الإنسان عبر السلسلة الغذائية، وبشكل خاص من خلال الأسماك وغيرها من المأكولات البحرية، فغالباً ما تلتهم الأسماك جزيئات البلاستيك إما بشكل مباشر أو عندما تتغذى على أسماك أصغر تحمل هذه الجزيئات، كما يمكن أن تصل هذه الجزيئات إلى موائدنا عن طريق ملح البحر، وقد تحمل الجرعة اليومية القصوى المقدرة بخمسة غرامات من الملح ثلاث قطع من اللدائن الصغيرة.
وتعد المياه المعبأة أيضاً أحد أكبر المصادر للدائن الدقيقة التي نستهلكها، فتحتوي زجاجات الماء التي تُستخدم مرة واحدة على ما بين 2 و44 قطعة من اللدائن الدقيقة لكل لتر، في حين تحتوي الزجاجات المرتجعة على ما بين 28 و241 قطعة من اللدائن الدقيقة لكل لتر.
وعلى الرغم من أن وصول المايكروبلاستيك إلى أجسامنا بات أمراً محسوماً، فإن معظم العلماء ما زالوا يعتقدون أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحديد التأثير الكامل للجزيئات البلاستيكية الدقيقة على صحة الإنسان.
وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن المستويات الراهنة للمايكروبلاستيك الموجود في مياه الشرب لا تشكّل فيما يبدو خطراً على الصحة، وأن هناك حاجة إلى تحرّي الأمر بدرجة أكبر، إضافة إلى إيلاء الأولوية لإزالة الكائنات الميكروبية المُمرِضة والمواد الكيميائية التي تشكّل مخاطر معروفة على الصحة البشرية.
المايكروبلاستيك في السحب.. فهل يؤثر على المناخ؟
لا تزال الجزيئات البلاستيكية الدقيقة تظهر بشكل متزايد في أماكن غير متوقعة، حيث إنها تتسرب إلى كل جانب من جوانب الحياة على الأرض تقريباً، حتى إنها وصلت إلى السُّحب، وقد تكون قادرة على التأثير في الطقس.
ففي دراسة نشرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في نشرة “رسائل العلوم والتكنولوجيا البيئية” التابعة للجمعية الكيميائية الأميركية، اكتشف باحثون جزيئات بلاستيكية دقيقة في غالبية عينات السحب المأخوذة من قمة جبل تاي في الصين، وأشار الباحثون إلى أن هذه الجزيئات الصغيرة يمكن أن تلعب دوراً في تكوين السحب، وبالتالي التأثير في الطقس.
وتتشكل السحب من تحوّل بخار الماء من شكله الغازي إلى قطرات ماء سائل، ويجب أن تتجمع العديد من قطرات الماء معا لتشكل سحابة، وتساعد الجزيئات الصلبة الصغيرة الموجودة في الغلاف الجوي -مثل الغبار أو الرماد- على تكثيف البخار وتجميع قطرات الماء، ووفقاً للدراسة، ويمكن إضافة جزيئات المايكروبلاستيك إلى هذه العوامل.
وحيث ينتج عن السحب هطول الأمطار والثلوج وحجب أشعة الشمس، وبالتالي خفض درجات الحرارة على الأرض، يرى باحثون أن لهذه الجزيئات البلاستيكية الدقيقة تأثيراً محتملاً قوياً على تغير أنماط الطقس مستقبلا.
المايكروبلاستيك في القطبين
عثر فريق من العلماء على جزيئات بلاستيكية دقيقة في مناطق نائية من الجليد القطبي الشمالي، وهو ما يمكن اعتباره مؤشراً خطيراً على مدى انتشار التلوث البلاستيكي في جميع أنحاء الكوكب.
ووجد الباحثون أن قطعاً من البلاستيك كانت أكثر وفرة في الجليد الطافي منه في المياه المحيطة، مما يشير إلى أن الجليد يعمل كمرشح للجزيئات التي تصل من الكتل الهوائية أو التيارات البحرية.
وعثر الفريق البحثي على الجليد في منطقة لانكستر ساوند، وهي منطقة معزولة في الجليد القطبي بكندا يُفترض أن تكون محمية نسبيا من التلوث البلاستيكي.
وفي القطب المقابل من الكوكب، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخراً رحلة بحثية للتحقق من وجود مواد بلاستيكية دقيقة في القارة القطبية الجنوبية، وذلك بهدف مكافحة هذه المشكلة التي وصلت إلى أبعد مناطق الأرض في إطار مبادرة “نيوتك” للبلاستيك التابعة للوكالة (والتي تعني التكنولوجيا النووية لمكافحة التلوث البلاستيكي)، وسيعمل الفريق على دراسة تأثير المواد البلاستيكية الدقيقة والتحقق من وجودها وأماكن توزيعها في مياه البحر والبحيرات والرواسب والرمال ومياه التصريف وحيوانات النظام البيئي في القطب الجنوبي قرب محطة كارليني الأرجنتينية للأبحاث العلمية.
ويدرس الباحثون إمكانية مساهمة المايكروبلاستيك في تسريع ذوبان الجليد في القارة القطبية الجنوبية، إذ من المفترض أن تقلل الحبيبات البلاستيكية انعكاس الجليد وتغيّر خواصه، وتعزز النشاط الميكروبي وتعمل كعوازل حرارية.
كما يخشى الباحثون من تأثير ذلك على السلسلة الغذائية للكائنات الحية في المنطقة القطبية الجنوبية والتي قد تؤثر على قدرة هذه الكائنات على التكيف مع تغير المناخ.