يبدو أن “الغرافين” لن يصبح متربعا على عرش المواد بلقب “المادة المعجزة”، وذلك لوجود مادة جديدة نجح باحثون من جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية في تحضيرها تجاوزت خصائص الغرافين الرائعة التي كانت تعتبر فتحا كبيرا في عالم المواد.
واكتُشفت مادة الغرافين في 2004، وكانت سببا قبل نحو 14 عاما في حصول العالِمين بجامعة مانشستر، أندريه جيم وكونستانتين نوفوسيلوف، على جائزة نوبل. وتتكون الغرافين من طبقة واحدة من ذرات الكربون مرتبة في شبكة ثنائية الأبعاد على شكل قرص العسل، وتعد واحدة من أنحف المواد، ورغم ذلك فهي تفوق الفولاذ قوة بنحو 100 مرة.
وفوق كل ذلك، فهي من أكثر المواد التي عرفتها البشرية في التوصيل الكهربائي، كما أنها مرنة للغاية إذ يمكن ثنيها أو تمديدها دون أن تفقد خصائصها، كما أنها شفافة مما يسمح للضوء بالمرور من خلالها، وأهلتها هذه الخصائص المميزة للدخول في كثير من التطبيقات، لا سيما الطبية منها.
وتحمل دراسة جديدة نشرتها دورية “إيه سي إس نانو”، بُشْريات وجود نسخة معدلة من مادة البوروفين، ثنائية الأبعاد وأكثر موصلية وأرق وأخف وزنا وأقوى وأكثر مرونة من الغرافين.
والبوروفين نسخة رقيقة ذريا من البورون (عنصر كيميائي شبه فلز يوجد في المعادن مثل البوراكس والكيرنيت)، وصنع أول مرة في عام 2015، وجعله الباحثون أفضل من الغرافين من خلال إكسابه الخاصية ” اللولبية ” أو “عدم التناظر”.
و”اللولبية ” تعني وجود نسختين من شيء ما تمثلان صورتين معكوستين لبعضهما البعض، لكن لا يمكنك مطابقتهما تماما عن طريق قلبهما أو تدويرهما، مثل يدك اليسرى ويدك اليمنى، فهما تبدوان متشابهتين ولكنهما متضادتان، وبالتالي فإن القُفاز الأيسر لن يناسب يدك اليمنى.
وتكون العديد من الجزيئات “لولبية”، مثل بعض الجزيئات التي تشكل أجسامنا أو الأدوية، ويمكن أن تؤثر هذه الصفة في كيفية عملها في أجسامنا، فقد تعمل نسخة واحدة من الجزيء بشكل جيد كدواء، في حين أن النسخة الأخرى قد لا تعمل أو يمكن أن تكون ضارة.
وبالنسبة لمادة البوروفين، فإن منحها صفة “اللولبية ” يعني جعلها تتخذ شكلا أعسر أو أيمن، ويمكن أن يغير ذلك كيفية تفاعلها مع الخلايا والجزيئات في الجسم، مما يجعلها مفيدة لأشياء مثل الأجهزة الطبية أو توصيل الأدوية بشكل أكثر استهدافا.
والبوروفين بطبيعته متعدد الأشكال من الناحية الهيكلية، مما يعني أنه يمكن ترتيب ذراته في تكوينات مختلفة لإعطائه أشكالا وخصائص مختلفة، تماما مثل كيفية بناء مجموعة مكعبات الليغو في هياكل مختلفة، ويمنح هذا الباحثين القدرة على “ضبطه لمنحه خصائص مختلفة، بما في ذلك “اللولبية”.
كيف أمكن إكساب البوروفين الخصائص “اللولبية”؟
ومُنح البوروفين الخصائص “اللولبية” بمجموعة من الخطوات التي تشرحها الدراسة على النحو التالي:
- البدء بمسحوق “البورون”: بدأ الباحثون باستخدام مسحوق “البورون” كمادة خام، واستخدموا موجات صوتية عالية الطاقة لمعالجة المسحوق، وهذه العملية تكسره إلى طبقات رقيقة ذريا، لتشكل قطعا مسطحة صغيرة تسمى صفائح البوروفين.
- الخلط مع الأحماض الأمينية: تُخلط صفائح البوروفين بعد ذلك مع أحماض أمينية مختلفة في محلول سائل، والأحماض الأمينية هي جزيئات لها خصائص لولبية (أشكال أعسر أو أيمن).
- نقل “اللولبية”: تسببت عملية الخلط بالتصاق ذرات الكبريت من الأحماض الأمينية بصفائح البوروفين، وتأثرت الطريقة التي ارتبطت بها ذرات الكبريت بالبوروفين في حالة الأحماض الأمينية المستخدمة (سواء أكانت يمنى أم يسرى)، وهذا النمط من الترابط يمنح صفائح البوروفين صفة “اللولبية”، مما يجعلها يمنى أو يسرى.
- مراقبة التفضيلات الملزمة: لاحظ الباحثون أن ذرات الكبريت الموجودة في الأحماض الأمينية تُفضل مواقع ربط محددة على البوروفين مقارنة بذرات النيتروجين التي لا تفضل ذلك، مما يؤثر في كيفية نقل “اللولبية”.
- اختبار التفاعلات مع الخلايا: تعرضت بعد ذلك صفائح البوروفين “اللولبية” لخلايا الثدييات في طبق مختبري، ولاحظ الباحثون كيف تتفاعل صفائح البوروفين “اللولبية” مع أغشية الخلايا وتقتحمها، ووجدوا أن الصفائح اليمنى واليسرى تتفاعل بشكل مختلف مع الخلايا.
ثورة في التطبيقات
ويتوقع أستاذ علوم وهندسة المواد والهندسة النووية والباحث الرئيسي بالدراسة “ديبانجان بان”، في بيان أصدره موقع جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية، أن يكون البوروفين “اللولبي” مفيدا في العديد من التطبيقات، منها:
- الأجهزة الطبية وزراعة الأعضاء: فيمكن استخدامه لتطوير أجهزة استشعار حيوية حساسة للغاية يمكنها اكتشاف جزيئات حيوية معينة بدقة أكبر، وهذا يمكن أن يحسن أدوات التشخيص والرصد في الوقت الحقيقي للعمليات البيولوجية، كما يمكن أن يؤدي التفاعل الفريد لهذه المادة الجديدة مع الخلايا إلى أجهزة طبية قابلة للزرع أكثر أمانا وفعالية، ويمكن لهذه الأجهزة أن تتكامل بسلاسة أكبر مع أنسجة الجسم، مما يقلل من خطر الرفض ويحسن الأداء الوظيفي.
- أنظمة توصيل الأدوية: ويمكن تسخير قدرة المادة الجديدة على التفاعل بشكل مختلف مع أنواع الخلايا المختلفة لإنشاء أنظمة توصيل الأدوية المستهدفة، ويمكن توصيل الأدوية مباشرة إلى خلايا معينة مثل الخلايا السرطانية، مما يقلل من الآثار الجانبية ويحسن فعالية العلاج، ويمكن استخدام الخصائص الهيكلية للمادة لتصميم حاملات الأدوية التي تطلق حمولتها بطريقة خاضعة للرقابة، مما يعزز النتائج العلاجية.
- التصوير الطبي: ويمكن للمادة الجديدة تحسين دقة تقنيات التصوير الطبي، حيث يؤدي تفاعلها مع الجزيئات البيولوجية إلى حدوث تباين أفضل وصور أكثر تفصيلا للأنسجة والخلايا.
- الطاقة والإلكترونيات: مرونة البوروفين “اللولبي” وتوصيله الكهربائي العالي، تجعل منها مادة مناسبة لتطوير الجيل التالي من الأجهزة الإلكترونية المرنة، بما في ذلك أجهزة الاستشعار وشاشات العرض القابلة للارتداء، ويمكن أيضا استكشاف خصائصه لاستخدامه في البطاريات والمكثفات الفائقة، وهو ما قد يؤدي إلى حلول أكثر كفاءة لتخزين الطاقة.
البحوث البيولوجية والمحفزات الكيميائية
وإلى جانب هذه التطبيقات التي أشار إليها “بان”، يقول الباحث في علوم المواد بجامعة لوند السويدية “حمدي الغيطي” في حديث عبر تطبيق زوم مع “الجزيرة نت”: إن الخصائص التي كشفت عنها الدراسة تجعل البوروفين اللولبي مادة مناسبة لدراسة كيفية تفاعله مع الجزيئات البيولوجية المختلفة، مما يساعد على فهم العمليات البيولوجية الأساسية.
ويرشح الغيطي استخدام البوروفين اللولبي كمحفز في التفاعلات الكيميائية، لا سيما تلك التي تكون فيها الحالة اللامركزية مهمة، كما هو الحال في إنتاج المستحضرات الصيدلانية، ويمكن أيضا تطبيق حساسيتها للجزيئات المختلفة في إنشاء أجهزة استشعار للكشف عن الملوثات أو المواد الخطرة في البيئة.
ومثل الغرافين، يتوقع الغيطي أن تكون هناك المزيد من التطبيقات لتلك المادة غير مطروحة بعد، حيث يمكن أن يؤدي معالجتها على المستوى النانوي إلى فتح إمكانيات واسعة في كل من البحث العلمي والتطبيقات العملية.