مع “جوغو بونيتو” (اللعب الجميل) الذي تميّزت به، ونجومها الأساطير ورقمها القياسي العالمي في عدد الألقاب في كأس العالم (5 مرّات)، يُطلق على البرازيل لقب “أرض كرة القدم”. لكن هل لا تزال كذلك؟
فالبلاد التي أنجبت بيليه وغارينشا ورونالدينيو، وأبهرت العالم بأسلوب السامبا الساحر، لم تحرز كأس العالم منذ عام 2002، ولم يُتوّج أيٌّ من لاعبيها بالكرة الذهبية منذ أن حصل كاكا على هذا الشرف عام 2007.
وفي الوقت الذي يعاني فيه المنتخب البرازيلي من أجل حجز بطاقته إلى نهائيات مونديال 2026، يتساءل كثيرون في البرازيل ماذا يحصل للكرة الجميلة في هذا البلد الذي لم يغب عن نهائيات كأس العالم إطلاقا؟
ويقول إدينيو ابن بيليه البكر “بلغنا مرحلة متدنية. كنا نملك في السابق رياضيين من الطراز العالمي”.
وحتى رئيس البرازيل الحالي لويس إنياسيو لولا دا سيلفا أقرّ بأن البرازيل “لا تلعب أفضل كرة قدم في العالم في الوقت الحالي”.
Brazil in 2002 🤩
How good was this team! 🇧🇷✨#FIFAWorldCup pic.twitter.com/YgBY4Ep9OV
— FIFA World Cup (@FIFAWorldCup) May 3, 2024
لماذا اختفت الكرة البرازيلية الجميلة؟
أحد الأجوبة قد يكمن في تراجع ما تسمّى بكرة الشوارع (ستريت فوتبول) حيث كانت الأخيرة انطلاقة عمالقة للاعبين كبار في البرازيل أمثال زيكو وريفيلينو وروماريو.
ويقول أحد هواة اللعبة في البرازيل ويدعى لاورو ناسيمنتو، “لم يعد أحد يمارس اللعبة في الشوارع. لم تعد تسمع أن أحد اللاعبين كسر زجاج منزل ما”.
وتعرّض ناسيمنتو (52 عاما)، الذي يعمل في مجال إدارة الأعمال، لكسور عدة في أصابعه لدى ممارسته اللعبة حافي القدمين. ففي يومنا الحالي، حي فيلا أورورا مغطى بالزحف الخرساني، كما تم تشييد بنايتين على مكان كان ملعبا لكرة القدم.
وتقول المؤرخة الرياضية إيرا بونفيم “كانت أي مساحة مفتوحة كافية للأطفال للبدء في ممارسة كرة القدم. الآن، يُنظر إليها على أنها عقارات تطوير رئيسية”.
يدفع ناسيمنتو وأصدقاؤه 160 دولارا شهريا لاستئجار قطعة الأرض المتهالكة لخوض المباريات عليها، لكن هذا المبلغ من المال يشكل عائقا أمام عائلات الطبقة العاملة.
ومن أجل الوصول إلى الملعب اليوم، يعتمد الأطفال الفقراء في البرازيل في كثير من الأحيان على المدرسة أو البرامج الاجتماعية أو أكاديمية كرة القدم. علما بأن واحدة فقط من كل خمس أكاديميات مجانية، وفقا لدراسة أجريت عام 2021. والعديد من هذه الملاعب من عشب صناعي، وهي أرضية يقول البعض إنها تطوّر أسلوب اللاعبين بشكل أقل من الملاعب الوعرة.
أسلوب “ميكانيكي”
وقال الباحث أولر فيكتور إن انخفاض الوقت الذي نمضيه في ممارسة هذه الرياضة كان له “تأثير كبير على كرة القدم لدينا”.
وكشف “لدينا عدد كبير من البرازيليين الذين يلعبون في أوروبا، لكن عددا قليلاً جدا منهم نجوم”.
تألّقَ أحدث أمل كبير للبرازيل، نيمار، في برشلونة، لكنه عانى من أجل قيادة المنتخب الوطني إلى البطولات في مسيرة شابها الجدل والإصابات.
يعلق البرازيليون الآن آمالهم على فينيسيوس جونيور (23 عاما) جناح ريال مدريد، والنجم الصاعد إندريك المقرر أن ينضم إلى فينيسيوس في العاصمة الإسبانية عندما يبلغ 18 عاما في يوليو/تموز القادم.
أكبر مصدّر للاعبين
لا تزال البرازيل أكبر مصدّر للاعبي كرة القدم في العالم، لكنها تجني أموالا أقل. ووفقا لأرقام الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، دفعت الأندية 935.3 مليون دولار كرسوم انتقال لـ2375 لاعبا برازيليا العام الماضي، أي بانخفاض حوالي 20% عن العام 2018 عندما كان عدد اللاعبين أقل (1753 لاعبا).
ويعود جزء من هذا الانخفاض إلى أن الفرق تدفع أقل لتوظيف لاعبين مجانيين وأصغر سنا. ولكن ثمة أيضا نقص في النجوم البارزين.
وقال فيكتور هوغو دا سيلفا، المدرّب في أكاديمية فلامنغو للشباب في ساو غونسالو في ضواحي ريو دي جانيرو، “أسلوبنا يعاني. لقد تغيّر أسلوب اللعب، وهذا أدى في النهاية إلى سلب بعض من إبداعنا. كانت كرة القدم لدينا مليئة بالفرح. والآن أصبحت أكثر ميكانيكية”.
على ملعب من عشب صناعي، يقوم دا سيلفا بتدريب أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و10 سنوات يحلمون بالسير على خطى فينيسيوس، أشهر خريجي الأكاديمية.
لا تزال كرة القدم تجري في عروق الجيل القادم لكنه يواجه “صعوبات” في التدريب، وهي مشكلة يعزوها دا سيلفا إلى النمط الكسول لحياتهم و”إدمانهم” الشاشات.
البرازيل، التي يبلغ عدد سكانها 203 ملايين نسمة، لديها هواتف محمولة أكثر من عدد السكان. ويعاني أكثر من ثلث الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و19 عاما من زيادة الوزن أو السمنة، وفقا لأطلس السمنة العالمي.
وقال روبسون زيمرمان، مكتشف المواهب في نادي كورينثيانز في ساو باولو، إن لاعبي كرة القدم الناشئين يواجهون اليوم ظروفًا أكثر صرامة، بما في ذلك القدرة على لعب مراكز متعددة والتوقعات الكبيرة من العائلة ووسائل الإعلام. وقال “في السابق، كان عليهم أن يقلقوا فقط بشأن لعب كرة القدم”.
لكن ليلى بيريرا رئيسة نادي بالميراس المنافس في المدينة، حامل لقب الدوري، تصرّ على أن البرازيل لن تتوقف أبدا عن كونها بلد كرة القدم.
فقد فازت الفرق البرازيلية بألقاب كأس ليبرتادوريس في السنوات الخمس الماضية في أميركا الجنوبية، بينها لقبان لنادي بالميراس. وينتمي إلى النادي المهاجم إندريك الذي انتقل إلى ريال مدريد في صفقة بلغت 65 مليون دولار مع المكافآت، بالإضافة إلى بروز اللاعبيْن إستيفاو ولويس غيرمي.
وقالت بيريرا “لا أتفق مع أولئك الذين يعتقدون أن (اللاعبين البرازيليين) فقدوا الجودة. انظروا إلى المبالغ الفلكية التي يجلبونها”.
يعتبر الكثير من الناس أن بيريرا التي تعدّ من أغنى الأثرياء في البرازيل، وجه لعلامة تجارية جديدة لكرة القدم البرازيلية تشبه إلى حد كبير كرة القدم الأوروبية، بفضل الرواتب السخية غير المسبوقة في أميركا الجنوبية وأسعار التذاكر الباهظة الثمن.
وقال دافيد سانتوس، أحد مشجعي فلامنغو، “مع الرواتب السخية التي يدفعونها للاعبين، يتعين على الأندية رفع أسعار التذاكر، مما يستبعد وجود المشجعين مثلي”.
في عام 2019، أسس سانتوس ناديا لمشجعي فلامنغو الشغوفين مثله من الأحياء الفقيرة.
ومن أعلى أحد الأحياء الفقيرة على سفح التل الذي يطل على الأحياء الشاطئية العصرية في كوباكابانا وإيبانيما، يعيدون خلق أجواء ماركانا في أيام المباريات، حيث يزينون الملعب القديم بالأعلام، ويقومون بشواء اللحم وإطلاق الهتافات أثناء لعب المباراة على شاشة عملاقة.
وقال بابلو إيغور، مشجّع فاسكو دا غاما، “بدأنا نخسر نظرية البلد الذي كان يطلق عليه مهد كرة القدم”.
وختم “كرة القدم هي ما ترونه هنا. إنها لعبة الناس. ولكن أطفال الشوارع مثلي لم يعد بإمكانهم الوصول إليها”.