يورو 2024.. اختبار جديد للفصل الوهمي بين الرياضة والسياسة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

في سعيها لتحصيل لقب كأس أمم أوروبا للمرة الرابعة في تاريخها، قررت ألمانيا أن تلقي بالسياسة خلف ظهرها هذه المرة وأن تضع نصب عينها مهمة إنجاح البطولة المقامة على أرضها رياضيا وأمنيا.

وعلى خلاف كأس العالم في قطر 2022، لم يكن هناك حديث هذه المرة في الدوائر الأوروبية والألمانية عن شارات القيادة الداعمة لمجتمع المثليين على أذرع اللاعبين ولا أيضا الشعارات العلنية المؤيدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.

غير أن الزخم المتزايد خلف الاحتجاجات المنددة بالحرب الإسرائيلية الدامية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، من شأنه أن يجعل برلين واقفة على قدم واحدة.

وفي حين يسعى الساسة الألمان -وبإيعاز من الاتحاد المحلي لكرة القدم- إلى مشاهدة بطولة خالية من السياسة بالملاعب والمدرجات وساحات المشجعين، فإن هذه المهمة لا تبدو مضمونة قياسا إلى التداخل التاريخي بين السياسة والرياضة وإلى الظرفية العالمية المتوترة راهنا.

ألمانيا تأمل مشاهدة بطولة خالية من السياسة بالملاعب والمدرجات وساحات المشجعين (غيتي)

الفصل الوهمي

لطالما كانت السياسة في قلب الرياضة منذ بدايات الألعاب الحديثة بالقرن العشرين، مثل الألعاب الأولمبية في برلين بالذات عام 1936، والتي مثلت الركن الأساسي في الدعاية النازية آنذاك ومختبرا للتدليل على نظرية تفوق العرق الآري قبل أن يحبطها العداء الأميركي ذو البشرة السمراء جيسي أوينز الحائز على 4 ميداليات ذهبية في الدورة ذاتها.

وتعد “حرب كرة القدم” بين هندوراس والسلفادور عام 1969 أبرز أدلة القرن العشرين بشأن التداخل بين السياسة والرياضة ومدى قدرة كرة القدم على الاستقطاب.

إذ كانت المواجهات الثلاث بين منتخبي البلدين الجارين، بما في ذلك المباراة الفاصلة للتأهل إلى نهائيات كأس العالم بالمكسيك 1970، كفيلة بإشعال حرب استمرت 4 أيام بين البلدين غذتها أزمات سابقة عالقة ترتبط بالهجرة والتملك الزراعي لمهاجري السلفادور في هندوراس.

لقد ظلت الكره في كثير من السياقات التاريخية والثقافية مرادفا لـ”الحرب” وهو ما لخصه الصحفي سايمون كوبر في كتابه “الكرة ضد العدو” بقوله إن فوز هولندا على ألمانيا أو أيرلندا على إنجلترا بمثابة الفوز بحرب، نظرا للعداوة التاريخية والسياسية المتجذرة بين تلك الدول.

ولم تكن الرياضة بعيدة عن تلك القاعدة تحت غطاء الحرب الباردة، فكان مونديال 1974 في ألمانيا بالذات عنوانا بارزا لأحد فصول هذا الصراع عندما تواجه منتخبا ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وجها لوجه في دور المجموعات في مباراة سيطر عليها الشحن الأيديولوجي.

وقد بلغ هذا الصراع ذروته لاحقا، عندما تبادل المعسكران الغربي والشرقي المقاطعة الرياضية لأولمبياد موسكو 1980 ومن ثم لوس أنجلوس 1984 بالمثل.

وتحتفظ ذاكرة الرياضة بأكثر المباريات “حربية” بالقرن العشرين عندما حمل أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا على عاتقه مهمة رد الاعتبار إلى الأرجنتين بعد هزيمة حرب فوكلاند ضد بريطانيا، ليسجل هدفين ضد الإنجليز بالدور ربع النهائي من مونديال مكسيكو 1986، أحدهما معروف بـ”يد الآلهة” والآخر هدف خارق.

مارادونا يسجل هدفه بيده في مرمى إنجلترا  في مونديال مكسيكو 1986 (مواقع التواصل)

دبلوماسية كرة القدم

ولكن كرة القدم لم تكن “ساحة حروب” فقط، فهناك ما يكشف عن دبلوماسية فعالة للرياضة في إذابة الجليد والتغلب على العداوات بين الدول والشعوب، إذ ساعدت “معجزة بيرن” -التي حققها المنتخب الألماني بفوزه بمونديال سويسرا عام 1954 ضد العملاق المجري آنذاك- في إعادة التعريف بألمانيا على الساحة الدولية فترة ما بعد الحقبة النازية المظلمة.

وللمفارقة، منح مونديال 1990 في إيطاليا زخما احتفاليا واسعا لألمانيا الموحدة بعد أشهر قليلة من سقوط جدار برلين تحت وطأة الثورات الملونة التي اجتاحت دولا من المعسكر الشرقي، لاسيما وأنه تزامن مع التتويج باللقب ضد منتخب الأرجنتين.

ويحسب لدبلوماسية الكرة أنها نجحت في جمع زعيمي تركيا وأرمينيا لأول مرة على مدى نحو مئة عام -على خلفية العداء التاريخي بين البلدين والجراح المتوارثة عن مذابح الأرمن أثناء الحكم العثماني- وذلك أثناء مباراة ودية بين المنتخبين عام 2008 في يريفان حضرها آنذاك الرئيس التركي عبد الله غول والرئيس الأرميني سيرج سركسيان.

ومثلما شرح كوبر كيف أن الكرة قد تتحول كذلك إلى موقف ومسار تصحيحي للسياسة، فقد شكل رياضيون في مرتبة الأيقونات بمواقفهم النضالية اختراقا ضد سياسات القمع والعنف والدكتاتورية والتمييز العنصري، وهو ما يتضح في موقف اللاعب مسعود أوزيل حين ندد بقمع أقلية الإيغور المسلمة في الصين، وهو ما يعد أحد أكثر المواقف النضالية المدوية بوجه السلطة المركزية في بكين.

وقبل ذلك بعقود نجح العداءان الأميركيان تومي سميث وجون كارلوس في الصدع بأكثر التعبيرات السياسية قوة في التظاهرات الرياضية، ولفت أنظار العالم الى التمييز العنصري ضد السود بالولايات المتحدة. ولا تزال تحيتهما الشهيرة -على منصة التتويج في أولمبياد مكسيكو لعام 1968 ملوحين بقبضتيهما الموشحتين بقفازات سوداء- تلهم الكثير من الأجيال اللاحقة.

ويقول كايل لونجي مدير برنامج الحرب والمجتمع جامعة تشابمان في مقال لـ”واشنطن بوست” نشر بمناسبة أولمبياد طوكيو عام 2021 “قياسا على حوادث التاريخ، قد يضج المحافظون بالشكوى من تسييس الأولمبياد دون الاعتراف بأن المنظمين البيض والعنصريين لطالما نظروا إلى المباريات باعتبارها ساحة لتعزيز وجهات نظرهم السياسية. لقد شكلت العنصرية -ومازالت- تشكل جانبا من الرياضة وهي قائمة لدى بعض المجتمعات”.

تومي سميث أمام صورة تاريخية له مع جون كارلوس يرفعان قبضتيهما للتعبير عن معارضة العنصرية (الفرنسية)

الظرفية العالمية

تجري بطولة أمم أوروبا بألمانيا في أعقاب زلزال سياسي أحدثه الفوز الكبير لليمين المتطرف في مناطق بأرجاء أوروبا أبرزها فرنسا، وفي ألمانيا بالذات حيث بات حزب “البديل” المتطرف فعليا القوة السياسية الثانية في البلاد مع ما يحمله هذا الفوز من دفعة قوية لأطروحاته المناهضة للهجرة والإسلام داخل البلاد.

كما يعني فوز اليمين المتطرف انتكاسة لـ”العقد الأوروبي الأخضر” ولخطط الاتحاد لتحقيق خطة “الحياد المناخي” وهذا قد يحفز الآلاف من المتحمسين لقضايا المناخ تقليديا للاحتشاد في المدن الألمانية أثناء البطولة بهدف رفع أصواتهم.

وكانت الجبهة اليمينية في البرلمان الأوروبي قدمت مقترحا لإسقاط “قانون استعادة الطبيعة” الذي اقترحته المفوضية، وفي النهاية أقره البرلمان بفارق ضئيل (12 صوتا) في يوليو/تموز 2023.

وقد توقع خبراء من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية -في تقرير لهم- انتكاسة قوية للقانون نفسه، في حال لو صوت عليه البرلمان الجديد بعد انتخابات 2024 وبفارق مريح للجبهة اليمينية يفوق 70 صوتا.

وكما ظهرت دعوات علنية ورسمية لوقف الإبادة الإسرائيلية بغزة في نهائي دوري أبطال أوروبا سيدات في بلباو بإسبانيا، فسيكون من الصعب تجاهل الدعوات ذاتها في منافسات اليورو لا سيما مع صدور انتقادات صريحة من دول مثل إسبانيا وبلجيكا تجاه السياسات الإسرائيلية.

وعلى الرغم من التزام الجهات الألمانية، فإن ما يحدث ضد الفلسطينيين يتوقع أن يكون له صدى في اليورو كما كان الأمر في الشوراع والساحات والجامعات، خاصة في ظل وجود منتخبات تمثل دولا ملتزمة بدعم القضية على غرار ألبانيا وتركيا ذات الجالية الكبيرة في ألمانيا.

وفي حديثه مع الجزيرة نت، أوضح محمد أمين كناني الإعلامي بمؤسسة “سكاي الرياضية” الألمانية أن الوضع برمته في ألمانيا يبدو على كف عفريت، فمن جهة جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية مزلزلة للائتلاف الحكومي ومن جهة أخرى تريد برلين النجاح في البطولة واستعادة ثقة الجماهير بعد خيبات متتالية.

وتابع كناني في تحليله “فقد المنتخب التعاطف وضاعف من ذلك الفشل الرياضي، وقبل البطولة كان هناك إدراك داخل المنتخب بأن السياسة طغت على اللعبة وهذا ما جعل المنتخب تحت الضغط. والآن هناك رغبة بالتركيز على كرة القدم فقط، وقد ظهر ذلك في مباراة أوكرانيا الإعدادية.. لكن السياسة دائما موجودة وهي مقترنة بسياسات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم”.

ألمانيا في قلب العاصفة

لم تكن ألمانيا موفقة في اختبار “الحياد الرياضي” على الأقل قبل انطلاق البطولة، ويأتي هذا الإخفاق مضاعفا كونه ارتبط بجدل أخلاقي جديد، من خلال استطلاع محطة دبليو دي آر التلفزيونية المثير للجدل بشأن مدى التأييد لوجود المزيد من البيض في المنتخب.

وعلى الرغم من الانتقادات السياسية والرياضية التي لحقت الاستطلاع، فإنه يكشف عن حالة من الانقسام المجتمعي تجاه قضايا الاندماج والهجرة وآخرها نظرة الألمان إلى المواطنين الملونين، ولا تبدو الحكومة بدورها بمعزل عن سهام النقد في ظل الأداء السياسي والمواقف الدبلوماسية المتعثرة مما يحدث في قطاع غزة.

ومع ذلك، فإن الهاجس الأمني يظل التحدي الأول لألمانيا وهو ما اعتبره المستشار أولاف شولتس ووزيرة الداخلية نانسي فيزر “أولية قصوى” في مواجهة احتجاجات متوقعة، سواء تلك الداعمة للفلسطينيين أو المدافعة عن حماية المناخ، إلى جانب التهديدات الإرهابية المحتملة عقب هجوم الطعن المميت الذي راح ضحيته شرطي في مدينة مانهايم.

ولا تخفي المنظمة الشاملة لمساعدة المشجعين الألمان مخاوفها من انتهاكات للشرطة ضد الحريات والحقوق المدنية للمشجعين، على خلفية ما حدث في احتجاجات سابقة.

ويقول الإعلامي والمحلل السياسي الألماني كيرستن كنيب للجزيرة نت “لقد أظهرت الأشهر القليلة الماضية على وجه الخصوص أن الأحداث الكبرى لها دائما علاقة سياسية. وبالنسبة لكثير من الناس، لم يعد من الممكن الفصل بين الرياضة والفن من ناحية والسياسة من ناحية أخرى”.

ويتابع “ينشأ النقاش حول هذا الارتباط دائما عندما تقام أحداث كبرى في دول تمثل إشكالية من وجهة نظر غربية، مثل تلك التي تقودها سلطة استبدادية”.

ووفق المحلل الألماني، فإن الدعوة إلى الفصل بين الرياضة والسياسة أمر صعب، ولكنه يستدرك “قد يكون من المنطقي أن نطلب من جميع المشاركين -بما في ذلك الرياضيون والجمهور- الامتناع عن الإدلاء بتصريحات أو إظهار رموز سياسية في الملعب، وهذا من شأنه أن يجعل الأجواء في الملعب أكثر هدوءا على الأقل”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *