أصبح البرلمان الأوروبي أكثر من أي وقت مضى هدفا رئيسيا للتيارات اليمينية في أرجاء دول الاتحاد الأوروبي، مع احتمالات قوية لنيل أغلبية المقاعد في انتخابات هذا العام، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البرلمان.
وأظهر تقرير صدر عن فريق التفكير التابع للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية نسبا عالية لصعود اليمين على حساب يسار الوسط وأحزاب الخضر، مع إمكانية أن تتحول نصف المقاعد إلى نواب من خارج “الائتلاف الكبير” المكون من المجموعات الوسطية الثلاث.
ويتوقع التقرير -الذي حرره كل من سوزي دينيسون مديرة الإستراتيجية والتحول وكيفن كونينغهام المحاضر في السياسة ومنظم استطلاعات رأي- أن يتصدر الشعبويون نتائج الاقتراع في 9 دول على الأقل، وهي النمسا وبلجيكا والتشيك وفرنسا والمجر وإيطاليا وهولندا وبولندا وسلوفاكيا، مع احتمال تقدمهم في دول أخرى من بينها ألمانيا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا.
ومن المرجح -وفق فريق التفكير الأوروبي- أن تخلق النتائج القادمة ائتلافا شعبويا كبيرا يضم أعضاء البرلمان من اليمين المتطرف والديمقراطيين المسيحيين والمحافظين، ليحل محل “الائتلاف الكبير” المسيطر على البرلمان الأوروبي.
ويخشى الفريق من أن يؤثر صعود اليمين تأثيرا مباشرا في سياسات الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يرتبط بدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا أو القضايا البيئية، إذ يرجح التقرير أن تعارض الأغلبية الجديدة خطط الاتحاد لمكافحة التغير المناخي.
ويرى التقرير أن نتائج الانتخابات قد تؤثر في نقاشات الحكومات الوطنية للدول الأعضاء وسياساتها لاحقا، كما سيترك هذا أثرا على المفوضية الخارجية والمجلس في تحديد السياسة الخارجية.
أصداء يمينية في ألمانيا وفرنسا
ومبدئيا يجد تقرير فريق التفكير صداه في أحدث استطلاع رأي في ألمانيا أجراه معهد “إينزا” لأبحاث الرأي، بتكليف من موقع “تي-أون لاين”، أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي يمكنه مضاعفة حصته التي فاز بها في انتخابات عام 2019، إذا أجريت الانتخابات في فبراير/شباط.
وكشفت النتائج أن حزب البديل سيحصل في انتخابات البرلمان الأوروبي على 22% من الأصوات ليحتل المركز الثاني بعد التحالف المسيحي (أكبر حزب ألماني معارض)، مقابل 11% كان الحزب اليميني الشعبوي حصل عليها في انتخابات 2019.
ولا يختلف الأمر كثيرا في فرنسا، ففي ظل نسبة تأييد للحكومة لا تتعدى 30% فإن الانتخابات البرلمانية الأوروبية ستكون فرصة لتعبير الناخبين عن رفضهم للسياسات الحكومية، بحسب التقرير الذي يتوقع أن تجري الأمور لصالح حزب الجبهة الوطنية اليميني بزعامة ماري لوبان، تمهيدا لاكتساح أوسع في الانتخابات الرئاسية لعام 2027.
ويقول حسين الوائلي الإعلامي المتخصص في الشؤون الأوروبية والمعتمد بالاتحاد الأوروبي، للجزيرة نت “بغض النظر عن التقارير الصادرة فإن هناك انطباعا أن اليمين الشعبوي قادم بقوة بسبب الأزمات التي تعصف بمؤسسات الاتحاد. والواضح أنه ازداد قوة عبر الموظفين في مختلف مؤسسات الاتحاد وهذا يمثل أرضية خصبة”.
وتابع الوائلي أن “الرأي العام ينتظر مقاربة جديدة يطرحها اليمين المتطرف، خاصة في مجال الهجرة، فرغم توقيع الميثاق الجديد للهجرة واللجوء فإن هذا لا يكفي بسبب الأزمة الاقتصادية”.
وبدوره، لا يستبعد زيد العظم العضو في حزب “النهضة” الفرنسي الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون، أن يتصدر حزب لوبان انتخابات البرلمان الأوروبي في فرنسا.
ويوضح العظم في حديثه للجزيرة نت “من الصعب حصوله على أغلبية واسعة، ولكن حصوله على 50% من الأصوات وارد. وفي اجتماع للحزب قال الأمين العام ستيفان سيجورنيه إنه من المحتمل أن يتصدر حزب الجبهة الوطنية نتائج التصويت في فرنسا. الحزب يبني حملته على ملف الهجرة الحساس وتخويف الفرنسيين من “الاستبدال الكبير” وهي حملة نعتقد أن لموسكو دورا فيها”.
وفي تقدير العضو في حزب “النهضة”، أنه من شأن فوز حزب لوبان أن يرفع معنويات اليمين لاستقطاب الناخبين قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويضيف “لا ننسى أن لوبان حلت ثانية في آخر دورتين انتخابيتين. مسؤولية أحزاب الوسط واليسار هي الدعاية المضادة لأطروحات اليمين المتطرف”.
منهجية البحث
ينطلق تقرير مجموعة التفكير في توقعاته من استطلاعات الرأي المبكرة لانتخابات البرلمان الأوروبي التي تشير إلى برلمان أكثر يمينية، وإلى مؤشرات فعلية لصعود اليمين في بعض الدول الأعضاء، مثل فوز حزب الحرية الهولندي في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتأثير اليمين بشكل عام على السياسات الأوروبية في 2023، وخاصة ملف الهجرة.
كما اعتمد التقرير على نتائج أحدث استطلاعات الرأي في كل دولة عضو، ومن ثم تطبيق نموذج إحصائي معقد على أداء الأحزاب في السنوات السابقة، وحصة الأصوات التي نالها بالانتخابات البرلمانية الوطنية الأخيرة، وسواء كان الحزب في الحكومة أو في المعارضة، وإلى موقع الحزب في الخارطة السياسية، وهو النموذج الذي تم استخدامه وتطويره في انتخابات 2009 و2014 و2019.
ويتنبأ النموذج الإحصائي بنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024، وعدد المقاعد التي من المرجح أن يفوز بها كل حزب، وفقا للنظام الانتخابي المعين وطريقة توزيع المقاعد في كل دولة عضو، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على تركيبة المجموعات السياسية في البرلمان الأوروبي.
ويأخذ هذا الإحصاء بعين الاعتبار أن عدد مقاعد البرلمان في انتخابات 2024 سيكون في حدود 720 مقعدا، بزيادة 15 مقعدا عن العدد السابق.
الخاسرون والرابحون
أبرز ما يشير إليه التقرير هو استمرار تراجع أكبر مجموعتين في البرلمان وهما “حزب الشعب الأوروبي” و”التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين”، بعد خسارتهما مقاعد في انتخابات 2014 و2019. لكن مع ذلك يستطيع “الشعب الأوروبي” الحفاظ على وضعه كأكبر حزب في المؤسسة واختيار رئيس المفوضية المقبل.
وخسارة المقاعد يمكن أن تطال أيضا حزب “تجديد أوروبا” الوسطي وكتلة الخضر/التحالف الأوروبي الحر بواقع 101 من المقاعد إلى 86 بالنسبة للأول، ومن 71 مقعدا إلى 61 بالنسبة للثاني.
ولكن أكبر الفائزين، وفق التقرير، سيكون كتلة حزب “هوية وديمقراطية” اليميني المتطرف، فمن المتوقع حصوله على 40 مقعدا إضافيا، ليتحول إلى ثالث أكبر مجموعة في البرلمان بنحو 100 مقعد.
وفي حال تحالف “هوية وديمقراطية” مع كتلة “المحافظين والإصلاحيين” الذين يتوقع فوزهم بـ18 مقعدا في انتخابات 2024، فإن هذه الكتلة مجتمعة ستشكل ربع أعضاء البرلمان، وستتفوق لأول مرة على كتلتي “الشعب الأوروبي” و”التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين”.
ويشير التقرير إلى أنه حتى في حال تحالفت المجموعات الوسطية الكبرى الثلاث، “الشعب الأوروبي” وكتلة “التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين” وكتلة “تجديد أوروبا”، فإن نسبة مقاعدها مجتمعة لن تتجاوز بعد الانتخابات 54%، مقارنة بـ60% قبل الانتخابات.
ويأخذ هذا التقدير في الحسبان أن نسبة التصويت ليست متماسكة دائما داخل الكتلة، ويعني هذا أن نسبة 54% ليست كافية لضمان الأغلبية عند التصويت في البرلمان.
ومع خسارة متوقعة لائتلاف اليسار بنسبة 33% من مقاعده، فإن اليمين سيكون أكبر مستفيد من تغير التوازنات بعد الانتخابات، وفق تقرير الخبراء.
ويمكن أن تؤدي تلك التغيرات إلى توسع ائتلافات اليمين، فإذا كانت التقديرات تشير إلى خسارة بعض المقاعد لائتلاف يمين الوسط (الشعب الأوروبي وحزب المحافظين والإصلاحيين وتجديد أوروبا) فإن تحالفا لليمين الشعبوي يجمع “الشعب الأوروبي” و”هوية وديمقراطية” اليميني المتطرف و”المحافظين والإصلاحيين” يمكن أن يستحوذ على حوالي 50% من المقاعد في البرلمان.
كما يتوقع النموذج الإحصائي صعودا للجبهة المنتقدة لمشروع “الاتحاد الأوروبي” برمته، سواء من اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي. ويقدر حجم هذا التحول بما نسبته 37% بعد الانتخابات، مقابل 30% قبلها.
ولا يغفل التقرير أن أصوات اليمين الشعبوي ستكون أعلى من أي وقت مضى بعد انتخابات 2024، وذلك للمرة الأولى منذ أول انتخابات أجريت عام 1979.
التأثيرات المتوقعة
ويرجح التقرير أن يقدم البرلمان الجديد في الفترة الأولى كل الدعم لكييف، لكن هذا المنحى سيصطدم لاحقا بعدد من النواب الأوروبيين، لا سيما من كتلة “هوية وديمقراطية” والنواب المستقلين، لتعاطفهم مع روسيا.
كما أنه من المرجح أن يتراجع الدعم الأوروبي لأوكرانيا، بسبب موقف الأحزاب الوطنية لاحقا التي ستبدأ التفاعل مع اتجاهات التصويت للناخبين التي تم التعبير عنها في انتخابات البرلمان الأوروبي.
من جهة أخرى، لا يستبعد التقرير في ظل توسع الجبهة المشككة لمشروع التكتل الأوروبي المتمثلة في نواب “هوية وديمقراطية” و”المحافظين والإصلاحيين” وأطراف من حزب الشعب الأوروبي، المزيد من دعوات الأغلبية لمنح صلاحيات أكبر للدول الأعضاء في المجالين الاقتصادي والضريبي.
وتضغط دول مثل إيطاليا والسويد والمجر وسلوفاكيا ضد أي خطط لتوحيد اللوائح الأوروبية وضد صلاحيات بروكسل بالتدخل في الشؤون الوطنية للدول الأعضاء.
ويقول حسين الوائلي للجزيرة نت “يسلط اليمين المتطرف الضوء على مشكلة الهوية الأوروبية، هل هي هوية موحدة؟ وهذا يعزز الشكوك بشأن وحدة التكتل. وقد نشهد خروجا لدول من الاتحاد (فريكست) إذا فازت مثلا لوبان في الانتخابات الفرنسية”.
وفيما يتعلق بالحريات والشؤون الداخلية، يحذر التقرير من عواقب مباشرة لصعود اليمين المتطرف والشعبوي على سياسات الهجرة واللجوء في الاتحاد الأوروبي، فمن المرجح ظهور أغلبية بالبرلمان الأوروبي تدعم قيودا أوسع على سياسة اللجوء بتشريع مزيد من السلطة التقديرية للدول الأعضاء والحد من أي تقاسم لمخصصات اللاجئين.
ومن الممكن أن تحد الأغلبية الفائزة من الجهود التي يبذلها الاتحاد لفرض سيادة القانون في دول مثل المجر وبولندا. وسيكون من الصعب ضمان أغلبية لتمرير عقوبات ضد هذه الدول مثلما كان الحال مع قرار حجب مدفوعات الميزانية في البرلمان الحالي.
ويلفت السياسي الفرنسي زيد العظم في حديثه للجزيرة نت، إلى مخاوف من الدفع بتشريعات تهدد مشروع الوحدة في ظل أغلبية يمينية بالبرلمان الأوروبي، تمس العملة والجمارك وقوانين التجارة والقضايا الإنسانية، والأمر الأخطر سيكون الدعوة لمراجعة حصة الاتحاد من تمويل حلف شمال الأطلسي.
ويتابع العظم “يقابل هذا حملة التخويف القديمة لترامب بشأن نفوذ روسيا في حال التخلف عن تمويل الأطلسي. كما أن الدعوة لتخفيف الدعم لأوكرانيا يعزز المخاوف من خطوة موسكو التالية. روسيا قد لا تقف عند أوكرانيا”.
الميثاق الأخضر في مهب الريح
ووفق التقرير، فإن أكثر التداعيات المتوقعة سترتبط بسياسات مكافحة التغير المناخي وقضايا البيئة.
ويقول الوائلي في هذا الصدد للجزيرة نت “اليمين يقدم رؤية مختلفة ومضادة خاصة في القضايا البيئية. والعقد الأوروبي الأخضر انهار عمليا في 2022 بعد اجتياح روسيا لأوكرانيا والعودة إلى تشغيل محطات نووية وحتى تلك المحطات التي تعمل بالفحم”.
ويضيف أن “تموقع اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي يعني عرقلة كل التشريعات الأوروبية المتعلقة بالبيئة، ومنها قرارات المفوضية الأوروبية”.
وتقليديا اعتاد ائتلاف وسط اليسار الفوز بالتصويت في القضايا البيئية، غير أن بعض تلك التصويتات حسم بهامش ضيق. ويضع صعود اليمين بعد انتخابات 2024 “الميثاق الأوروبي الأخضر” على المحك.
ومن شأن هذا الصعود أن يوجه ضربة لخطط توحيد السياسات الأوروبية في هذا المجال وتحقيق الهدف الأوروبي للحياد المناخي بحلول عام 2050.
ويتخذ معدو التقرير من “قانون استعادة الطبيعة” الذي صوت عليه البرلمان ومرره بشق الأنفس بعد جلسات ساخنة، مثالا صريحا لما يمكن أن يكون عليه الوضع لو تم التصويت على هذا القانون بعد انتخابات يونيو/حزيران 2024.
وكانت الجبهة اليمينية قدمت مقترحا لإسقاط القانون الذي اقترحته المفوضية، وفي النهاية أقره البرلمان بفارق ضئيل (12 صوتا).
وباحتساب توقعات تقرير فريق التفكير الأوروبي، فإن القانون كان سيمنى بانتكاسة قوية لو صوت عليه البرلمان الجديد بعد انتخابات 2024 وبفارق مريح للجبهة اليمينية يفوق 70 صوتا.
وفي العموم، ينظر معدو التقرير إلى نتائجه كتحذير لصناع السياسات الأوروبيين بشأن الالتزامات المقبلة في البرلمان الجديد. كما ينبه أيضا إلى احتمال عودة دونالد ترامب للإدارة الأميركية، مما يعني أن الاتحاد سيكون ملزما بالتعاطي مع إدارة أميركية أقل انخراطا على المستوى العالمي.
لكن مع ذلك، يعتقد الوائلي أن تيار اليمين لا يمكنه أن يعمل بمعزل عن المصالح داخل حلف الناتو، مستشهدا بزيارة رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية جورجيا ميلوني لواشنطن.
أما على الصعيد الأوروبي، فيتوقع الوائلي في تحليله أنه “إذا لم يقدم اليمين المتطرف في البرلمان سياسات متناغمة مع المؤسسات الاقتصادية والبنوك وغيرها فسينتهي به الأمر إلى الانهيار”.