موسكو – ليس من المبالغة وصف المناورات الواسعة النطاق التي أجراها حلف شمال الأطلسي (ناتو) مؤخرا بمشاركة العضوين الجديدين في الحلف السويد وفنلندا على الحدود مع روسيا، بالأكثر خطورة ليس منذ انتهاء الحرب الباردة فحسب، بل منذ أزمة الصواريخ الكوبية (أزمة الكاريبي) قبل أكثر من 60 عاما، وفق آراء معلقين روس.
وبالنظر إلى الأوضاع الراهنة المتردية للعلاقات الروسية الغربية، والزيادة الحادة في وتيرة المناورات العسكرية المختلفة التي يقوم بها حلف الناتو، فإن هذه التطورات -بحسب مراقبين- لا تبدو أحداثًا معزولة عن بعضها بعضا.
فمناورات الناتو الأخيرة لا تبدو مجرد تدريبات روتينية، بل تأتي في سياق سلسلة مترابطة من التصريحات “غير الودية” المتبادلة بين قيادة الحلف وموسكو. من هنا، يرى مراقبون روس أن تجميع هذه “الفسيفساء” معًا يوحي وكأنها تحضير لحرب، تشير عوامل مختلفة إلى أن روسيا هي الهدف منها.
الموقف الروسي جاء على لسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي صرح بأن بلاده مستعدة من الناحية العسكرية والفنية لحرب نووية، لكنه لا يرى ما يشير إلى احتمال حصول صدام مباشر.
ورغم اتهامه الولايات المتحدة بأنها “تعمل على تطوير القوات النووية”، فإنه أكد أن هذا لا يعني أنها “مستعدة لبدء حرب نووية غدا”، مع حرصه على التأكيد أن موسكو مستعدة لكل الاحتمالات، وأن “الثالوث النووي الروسي أكثر حداثة من الأميركي”.
وتابع الرئيس الروسي أنه لم يفكر قط في استخدام الأسلحة النووية، بما في ذلك الأسلحة التكتيكية، خلال الصراع في أوكرانيا.
غرض المناورات
وإذا أضيف لهذه التراكمات عوامل أخرى قد تخرج الأزمة نهائيًا عن السيطرة، كتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول نشر قوات أطلسية في أوكرانيا.
ومع الحديث عن وجود 10 آلاف جندي أميركي في بولندا على الحدود مع روسيا، والطرد المتبادل الذي لا يكاد يتوقف للدبلوماسيين بين روسيا والدول الغربية، فضلا عن تواتر التصريحات عن حرب سيبرانية مع قرب الانتخابات الرئاسية في روسيا، فإن المشهد العام بات يحاكي نزاعا عسكريا محتملا بين الطرفين الأكثر تسليحًا في العالم.
ومع أن أميركا وروسيا خفضتا إلى حد كبير ترسانيتهما النوويتين حتى خلال ذروة الحرب الباردة، إلا أن خطر الصدام النووي بات يتصدر المشهد في الوقت الراهن، وفقا لرؤية عدد من الخبراء والمختصين.
وبحسب الباحث في النزاعات الدولية فيودور كوزمين، فإن الغرض الظاهر من المناورات هو ممارسة التنسيق بين أنواع مختلفة من القوات في حال نشوب حرب كبرى مفترضة، ولكن مع الأخذ في الاعتبار بقية مناورات الحلف والتحديث الصناعي العسكري المعزز، وعلى خلفية تصريحات ماكرون التي بدت كنوع من الاختبار، فقد يبدو أن “الإستراتيجيين في الحلف يخططون لمغامرة عسكرية مجنونة ضد روسيا”.
ويتابع، في حديث للجزيرة نت، أنه لا يمكن قراءة المناورات التي أجراها الحلف بمشاركة 20 ألف جندي من 13 دولة، وفي ظل وصول العلاقات بين موسكو والغرب إلى نقطة اللا عودة، إلا في سياق الاستعدادات لخوض مواجهة مسلحة ضد روسيا.
الرد الأمثل
ويشير الباحث نفسه إلى أن المخاوف باتت أكثر جدية مع الأسلحة الجديدة التي باتت تخيم فوق ساحات القتال في أوكرانيا، فضلًا عن أماكن أخرى قد تندلع فيها كذلك “حروب حاسمة” كالخليج العربي ومضيق تايوان وشبه الجزيرة الكورية.
ووفقًا له، فإن الإسراع في حسم المعركة في أوكرانيا لصالح روسيا هو الرد الأمثل في الظروف الراهنة على محاولات التهديد بحرب نووية، لأن موسكو ستجد نفسها أمام حائط مسدود إذا أصبحت محاطة بعوامل تهديد إضافية.
ولا يستبعد كوزمين أن تلجأ روسيا إلى وتائر وتكتيكات جديدة وأكثر حسمًا في الحرب على أوكرانيا بعد الانتهاء من الاستحقاق الانتخابي، الذي سيمثل انتصار بوتين فيه تفويضًا شعبيا للذهاب نحو هذا الخيار.
أما محلل الشؤون الأوروبية سيرغي بيرسانوف فيستبعد خيار المواجهة المسلحة مع روسيا، والتي -حسب قوله- لا يؤيدها الرأي العام في البلدان الغربية نفسها، الذي وجد نفسه يدفع تكاليف حرب طالت ولم تقدم له سوى حالة عدم الثقة في المستقبل وغلاء الأسعار وغيرها من “الفواتير” الاقتصادية الباهظة.
تهويل
ويضيف بيرسانوف أن الولايات المتحدة في واقع الحال تستغل الصراع بين روسيا وأوكرانيا للسيطرة على الدول الأوروبية، التي أصبحت فاقدة للسيادة وتابعة لواشنطن وتحاول خلق صورة لروسيا كعدو من أجل صرف الانتباه عن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها.
ويلفت المتحدث ذاته إلى وجود تهويل في تصريحات الرئيس الفرنسي حول إرسال قوات أطلسية إلى أوكرانيا، مؤكدًا أن هؤلاء موجودون أصلاً في الخدمة هناك منذ مدة طويلة.
ويوضح أن هؤلاء هم المرتزقة والخبراء العسكريون الذين يشرفون على المعدات العسكرية المعقدة كأنظمة الدفاع الجوي “باتريوت” والقوارب المسيرة المضادة للسفن التي تهاجم الأسطول الروسي في البحر الأسود، واضعًا كلام ماكرون في سياق إضفاء الشرعية الكاملة على وجودهم في أوكرانيا.
وخلص المحلل إلى أن المشكلة تكمن في أن أيا من دول الناتو لا تريد القتال مع روسيا في أوكرانيا بمفردها، وحتى ماكرون نفسه قال إنه لن تكون هناك فرقة فرنسية في أوكرانيا، لأن فرنسا قوة نووية، ومشاركتها يمكن أن تدفع موسكو إلى صراع نووي، وهو ما لا يريده أحد بالطبع.