من غير الواضح كيف ستخوض المعارضة التركية انتخابات المجالس المحلية وتواجه ثقل خصمها التقليدي حزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم) وحليفه حزب الحركة القومية في عموم البلاد.
وبحسب رئيس اللجنة العليا للانتخابات أحمد ينير، فإن 36 حزبا سياسيا تمتلك النصاب القانوني لدخول الانتخابات المقرر إجراؤها نهاية الشهر الحالي، منها 6 أحزاب معارضة هي الأكثر حضورا، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري، ويليه أحزاب الجيد والمستقبل والسعادة والنصر والوطن.
وتشكل الأحزاب الأخيرة الجسم الرئيسي لمعارضة سياسية هشة، تشهد خلافات داخلية وانقسامات فيما بينها وصفتها وسائل إعلام محلية بالمتوترة على نحو غير مسبوق.
لكن مع تشتت تحالف “الأمة” المعارض بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مايو/أيار الماضي إثر الخلافات بين أحزابه، زادت فرص العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة، لكنها لم تصل إلى حد الحسم.
وتشير استطلاعات الرأي في تركيا إلى أن فرص رئيس بلدية أنقرة الحالي (المعارض) منصور يافاش أفضل بكثير من منافسه مرشح العدالة والتنمية تورغوت ألتينوك.
أما المنافسة على بلدية إسطنبول الكبرى بين رئيسها الحالي إمام أوغلو ومرشح العدالة والتنمية مراد قوروم فمحمومة، وليس ثمة تقدم كبير لأي منهما على الآخر، أو الحديث عن ترجيح فوز أحدهما بشكل بارز.
خطاب ضعيف
يتطور المشهد السياسي في تركيا بشكل دراماتيكي منذ انتخابات مايو/أيار 2023 الرئاسية التي فاز فيها الرئيس رجب طيب أردوغان على منافسه مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
ومن الصعب تقدير ما إذا كان بإمكان أحزاب المعارضة، التي توحدت لوقف تصاعد قوة حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2019 لكنها نجحت بشكل نسبي، أن تواصل زخمها السياسي والاجتماعي، وتنتزع ثقة الناخبين الأتراك من جديد، بعد أن تفكك تحالفها وخرج التوتر فيما بينها من الغرف المغلقة إلى العلن، واختار كل طرف خوض معركته بشكل منفرد في عموم الولايات البالغ عددها 81 ولاية.
وقد انتشرت مؤخرا مقاطع فيديو عبر منصات وسائط التواصل الاجتماعي، تلقي الضوء مجددا على هذا الواقع وتداعياته.
فقد كشف فيديو وجود مشادات كلامية وخلافات تنم عن عدم رضا قسم من الحضور على قوائم مرشحي حزبهم “الشعب الجمهوري”، الذي تولى رئاسته أوزغور أوزيل بعد أن أزاح زعيمه التاريخي كمال كليجدار أوغلو عن منصبه.
وأظهر الفيديو ردودا غاضبة لأعضاء وصفوا ما يجري بأنه “علاقة مصالح وصراع على السلطة داخل الحزب”.
في حين نقلت فيديوهات أخرى اعتراض بعض الحضور في اجتماع لحزب الجيد المعارض، الذي تترأسه ميرال أفشنار، على قوائم مرشحيه.
واستقال نائب في البرلمان التركي عن حزب الرفاه الجديد، بزعامة فاتح أربكان، احتجاجا على موقف حزبه المعارض لتوجهات الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة.
أجواء تتبدد
ومن المهم الإشارة هنا -كما يقول برهان الدين دوران المنسق العام لوقف مركز سيتا للأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أنقرة- إلى أن الأجواء السياسية التي كانت سائدة قبل مايو/أيار 2023 قد تبددت إلى حد كبير قبل الانتخابات البلدية المقبلة، مع التأكيد أن “قوة الرئيس رجب طيب أردوغان التي لا تقهر” و”تشرذم المعارضة وصفقاتها الرخيصة” كانا من أسباب نفور ناخبيها.
ويرى أن “أيّا من الأحزاب التي اجتمعت لدعم مرشح حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو في انتخابات مايو/أيار 2023، لن تشارك بحملة لمرشحي هذا الحزب لرئاسة بلدية إسطنبول في انتخابات مارس/آذار 2024”.
بل على العكس من ذلك، فإنها جميعها، بما في ذلك الحزب الاشتراكي وحزب المستقبل وحزب ديفا وحزب النصر، ستطرح مرشحين لتعزيز قاعدة ناخبيها، وهذا يعني أن خطاب حزب الشعب الجمهوري “صوتوا لنا أو سيفوز حزب العدالة والتنمية” قد ضعف إلى حد كبير في معسكر المعارضة.
إن انتقاد حزب العدالة والتنمية بقسوة -كما يرى دوران- يكشف عن نقطة ضعف مهمة لحزب الشعب الجمهوري في إطار بحثه عن أصوات تعزز فرصه في الانتخابات.
ويتابع أنه يجب أن يدرك مرشحو حزب الشعب أنهم فقدوا مزاج عام 2019، وأن نهج إمام أوغلو “أنا والآخرون” أو انتقاده للرئيس أردوغان لن يؤدي إلى الحصول على العديد من الأصوات، كما يتوقع من ناخبي المعارضة.
خريطة معقدة
يعترف الجميع بأن الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2023 من أكثر عمليات التصويت أهمية خلال نصف القرن الأخير في تركيا، ومن الواضح أيضا أنها كشفت خريطة معقدة للتنافس السياسي وصراع المصالح والمكتسبات تعيشه المعارضة اليوم، مما سيرخي بظلاله على الحياة السياسية المقبلة.
إن رؤية المشهد الداخلي عبر هذه الخريطة منحت أطياف المجتمع التركي فرصة لفهم مغزى إصرار الرئيس أردوغان على محو أثر الضربة التي وجهها له تحالف المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية السابقة حين انتزع الأخير مدينة إسطنبول بعد أن حكمها العدالة والتنمية نحو 20 عاما.
تُعرف إسطنبول بأنها مدينة ودودة، تستقبل دون تمييز كل زائر، إنها روح الشرق المطعمة ببريق أوروبا، وهي التي يخفق قلبها كلما اشتد صراع الساسة للسيطرة عليها.
إلى الغرب من وسطها التاريخي، تقع منطقة “كوتشوك شكمجة”، إنها واحدة من البلديات التي يجري التنافس على رئاستها بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.
في 10 فبراير/شباط الماضي، تعرض مركز حملة انتخابية لمرشح حزب العدالة إلى هجوم مسلح أسفر عن وقوع ضحايا، مما دفع أردوغان للقول إن “هناك من يحاول تسميم العملية الانتخابية لعدم تقبله سيرها بطريقة سليمة ومناسبة لديمقراطيتنا”.
تعتبر كوتشوك شكمجة من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في إسطنبول، حيث يبلغ عدد سكانها نحو 750 ألف نسمة، موزعين على مساحة 43 كيلومترا مربعا، وما يميزها أنها تضم مجموعة من أهم مراكز الصناعة والتجارة والاستثمار العقاري.
نجح حزب الشعب الجمهوري المعارض في انتخابات عام 2019 بالفوز بها، وحصل مرشحه على 48.8% من أصوات الناخبين، بينما حصل مرشح العدالة والتنمية على 44.2% من الأصوات.
لقد عكست هذه التنافسية المصغرة واقع التنافس الكبير الذي شهدته بلدية المدينة الكبرى قبل خمس سنوات، حين فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو برئاستها، متقدما على منافسه مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم بفارق 800 ألف صوت.
وفي ظل سعيه الراهن للحفاظ على مكتسباته بالقوة المتاحة، ليس من السهل أن يتخلى الشعب الجمهوري المعارض عن الجوهرة التي يملكها، لذا ستكون إسطنبول على الدوام بمنزلة اختبار كاشف وحاسم بالنسبة لأي طرف، ومؤشر القبان الرئيسي لجودة الأداء.
ترميم الخسارة
يسعى الرئيس أردوغان وحليفه التقليدي زعيم الحركة القومية دولت بهجلي، عبر تحالف وثيق وإستراتيجية واضحة، من أجل ترميم خسارتهما للمدينة إلى جانب 4 مدن رئيسة أخرى هي العاصمة أنقرة وإزمير وأضنه وأنطاليا.
وستزيد كبوة الحصان التي تعرضا لها أمام صناديق الانتخابات المحلية ثم فوز أردوغان الساحق بولاية رئاسية جديدة من حماستهما للربح من جديد. فبعد لقاء جمعهما استمر قرابة ساعة في منزل أردوغان، تم التأكيد على الثوابت المشتركة بين الطرفين.
وزاد بهجلي من صراحته ردا على سؤال وجّه إليه في مؤتمر صحفي قائلا “حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية هما حزب واحد، متشابكان، وسيواصلان موقفهما الحازم في الانتخابات المحلية”.
في أسواق المدينة المكتظة بالمارة، تلفت نظرك ملصقات تطل من خلف واجهات محال تجارية مرموقة، وأخرى جدارية تتدلى من أعالي أبنية تاريخية، لمرشحين يبحثون عن مكان ما في هذا السباق، يمثلون أحزابا دخلت المعترك الانتخابي ببرامج عمل ضعيفة.
مرشح العدالة والتنمية مراد قوروم، ومرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو، يتنافسان بقوة للفوز بها، بالنسبة لكثير من سكان الأحياء، لم تشهد المدينة في السنوات الخمس التي مضت على تولي الأخير رئاستها أي تطور لافت يسجل له.
أحدث انصراف إمام أوغلو عن مهمته رئيسا لبلدية كبرى هزة عنيفة لدى السكان، كما خلق استياء شعبيا بلغ ذروته في مطلع يناير/كانون الثاني 2022 حين أطلق مغردون أكثر من 100 ألف تغريدة عبر وسوم مختلفة، تنتقد فشله في إدارة تبعات عاصفة ثلجية ضربت المدينة، عطلت حركة المرور فيها بشكل كامل.
وصِفت التغريدات بأنها رسائل حادة، وأحيانا ساخرة، من جمهور يشكو غياب خدمات الطوارئ وإجراءات الإغاثة، وغياب الطاقم البلدي الرسمي، الذي كان رئيسه “بحسب صور متداولة” يتناول وجبة عشاء فاخرة في أحد المطاعم الرئيسية.
قبول الأخطاء
في خطوة وصفت بالضرورية، أعاد حزب العدالة والتنمية تقييم حصاد مرحلته السابقة بعد خسارته إسطنبول وشقيقاتها، وأوضح الرئيس أردوغان في رسالة لإدارة الحزب بقوله “أينما ارتكبنا خطأ سنقبله دون أي تعقيد، وسنبحث عن طرق لتصحيحه”.
وفي هذا الصدد، أكد رئيس حزب العدالة والتنمية في إسطنبول عثمان نوري كاباك تبه أن الحزب أجرى تحليلات للانتخابات المحلية، وتبين أن ديناميكيات انتخابات يونيو/حزيران 2019 المحلية، التي شهدت جولة إعادة وفاز بها أكرم إمام أوغلو بفارق 800 ألف صوت، كانت مختلفة.
وتابع في مؤتمر صحفي “أجرينا تقييماتنا لنتائج جولة الإعادة من الانتخابات المحلية في يونيو/حزيران، بالإضافة إلى انتخابات الجولة الأولى في مارس/آذار، حيث وجدنا أن نسبة التصويت في إسطنبول يجب أن تكون بين 50% و51%، وألا تقل عن 48%”.
ووفقا لأرسين جليك رئيس تحرير الموقع الإلكتروني لصحيفة “يني شفق” اليومية، فإن التقييمات الأولية التي أجراها الحزب أبرزت وجود أسباب اقتصادية.
وقال “إن الزيادة غير المنضبطة في إيجارات المنازل في ولاية إسطنبول أمر واضح. لقد أصبحت الحياة المعيشية في إسطنبول تزداد صعوبة. والمأوى يتحول إلى مشكلة كبيرة، فإذا كان حزب العدالة والتنمية يريد الفوز في الانتخابات المحلية في إسطنبول، فعليه إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية الأساسية لأهالي المدينة”.
إسطنبول من جديد
وتحت مظلة الشعار الذي رفعه حزبه “إسطنبول من جديد”، قدم مراد قوروم مرشح العدالة والتنمية لرئاسة بلديتها الكبرى نفسه.
وبخلاف إمام أوغلو الذي استعان في مشروعه الانتخابي بقضايا وطنية ذات إشكالية على أمل أن يدعم رصيده بأصوات جديدة بعد أن خسر دعم حلفائه في المعارضة، يركز قوروم في مشروعه على مهمة واضحة ومحددة وهي إعادة تأهيل المدينة، “من أجل 16 مليون إسطنبولي، سنعمل على مكافحة الفوضى وسوء التنظيم في الولاية، وإزالة مخاوف شعبنا بشأن الزلزال”.
وأكد في تغريدة له على موقع إكس “نحن نعرف إسطنبول وما يتوقعه سكان إسطنبول منا، سوف نقوم بالقضاء على الفوضى الحالية في أسرع وقت ممكن”.
ويتصاعد التنافس الانتخابي اليوم ويزداد خفقان القلوب كلما اقترب موعد التصويت، إنه وقت عصيب بلا شك.. لكن ليس بالنسبة لـ”كاباك تبه” وحزب العدالة الذي يردد “لسنا مهتمين بهوية خصمنا أيا كان المنافس، نحن واثقون من قوتنا”.