لم يتوقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن الكذب طيلة هذا الأسبوع، على الأميركيين تارة، وعلى اليهود المتشددين تارة، وعلى عائلات الإسرائيليين المحتجزين في غزة تارة أخرى.
لكن صمته عن الوضع شمال إسرائيل كان شديد الوضوح، في وقت تشكل فيه أزمة الإعفاء من التجنيد نقطة تحول في سياسة إسرائيل وفي العلاقة بين الناخبين الحريديم والأحزاب التي يفترض أنها تمثلهم.
بهذه المقدمة، لخصت صحيفة هآرتس -مقالا طويلا للكاتب يوسي فيرتر- بدأه بوصف الذعر الذي دب في مكتب رئيس الوزراء بعد أن أدركت “مجموعة من الموظفين غير الأكفاء” الذين يحتلونه أنه لم يعد لديهم المزيد من الخدع لاستخدامها ضد محكمة العدل العليا والمدعي العام.
وشبه الكاتب أجواء خسارة الائتلاف الحاكم للسلطة بـ”القيامة” حيث لم يعد هناك المزيد من الوقت للتلكؤ والحيل.
والسبب في ذلك أن عشرات الآلاف من طلاب المدارس الدينية -الذين يتهربون من الخدمة العسكرية بأوامر من حاخاماتهم- سيبدؤون من أول أبريل/نيسان في تلقي إشعارات التجنيد، وسوف يرفضون ذلك ويتظاهرون ويقطعون الطرق ويشعلون النار في صناديق القمامة.
غير أن الأمر المروع حقا -حسب الكاتب- أن الأموال ستتوقف في المستقبل عن التدفق إلى هذه المدارس الدينية، لأن مخصصات الميزانية للمعاهد الدينية، التي تضخمت كثيرا في ظل حكومة نتنياهو السادسة، سوف تتعرض لضربة شديدة، عندما يتم حظر التمويل المستمر للمدارس الدينية التي لم تتم تسوية وضع تجنيد الطلاب فيها من قبل محكمة العدل العليا.
لم يعد مستعدا
ورأى الكاتب أن قادة الأحزاب المتطرفة -الذين وصفهم بالمتعجرفين- فشلوا في قراءة التيارات الخفية العميقة التي سيطرت على المجتمع الإسرائيلي خلال العام الماضي، ولم تتمكن أعينهم المعصوبة من رؤية البركان الهائج الذي يوشك على الانفجار، ولذلك دعموا الإصلاح القضائي، سعيا منهم لجعل الفساد الحكومي جزءًا لا يتجزأ من الحكومات الإسرائيلية على مدى أجيال، قبل أن تأتي أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وبسبب ظروف الحرب وتعبئة مئات الآلاف من جنود الاحتياط والخسائر المتعددة في الجيش، لم يعد الجمهور الذي يخدم ويحارب ويموت ويعمل ويكسب لقمة عيشه -حسب الكاتب- مستعدا لابتلاع الأشياء التي كان يتم قبولها ببعض التذمر أو الاحتجاج الضعيف، بحيث لم يعد من الممكن تقبل ما يخطط له نتنياهو ورفاقه من قانون يعفي الحريديم من الخدمة العسكرية ويضفي الطابع المؤسسي على تجنبهم تقاسم العبء مع الباقين.
وينظر الناخبون الحريديم -حسب الكاتب- إلى أزمة مشروع الإعفاء على أنها نقطة تحول في مواجهة الأحزاب التي تمثلهم، بعد أن فشلت في تقديم قانون جديد، وإعفاء جديد وقوي، وهم يفكرون الآن بأنه ربما يكون في وسع حكومة أخرى أقل كراهية أن تقدم نتيجة أفضل.
ومع أن موعد الأول من أبريل/نيسان لم يكن مفاجأة، فقد ظل نتنياهو يماطل كعادته، حتى الدقائق الأخيرة قبل منتصف الليل، وعندما أغلقت كل الطرق، كتب سكرتير مجلس الوزراء يوسي فوكس رسالة مثيرة للشفقة ومخزية هاجم فيها المستشارة القانونية للحكومة غالي باهاراف ميارا ووزير الدفاع يوآف غالانت، لترد الأولى برسالة حادة تقول فيها إن “المخطط” الذي ترغب الحكومة في تقديمه لمحكمة العدل العليا يخلو من أي أسس مهنية أو قانونية، ويقول غالانت، من الولايات المتحدة، ببساطة إن كلمات المبعوث كانت كذبة مستمدة من اعتبارات سياسية.
وبعدها بدأ أسلوب العمل المعروف، وهو ينطوي على حملة من الأكاذيب والخداع، حيث تم تصنيف ميرا وغالانت على الفور كأهداف من قبل الجهاز السام الذي يخدم نتنياهو.
وسرعان ما أصبحت محكمة العدل العليا هدفا أيضا، ليتم تجاهل كل الخدمات التي أسدتها هذه الأطراف عندما كانت ركيزة دعم لا يمكن الاستغناء عنها للحكومة في كل ما يتعلق بإدارة الحرب والتعامل مع الأزمات الكبيرة مثل المحكمة في لاهاي.
كذب لا يتوقف
ورأى الكاتب أن التعبير عن نوبة غضب نتنياهو وارتباكه تم بشكل مثالي هذا الأسبوع من خلال قوله لسيناتور جمهوري “لقد قررت عدم إرسال الوفد إلى واشنطن، كرسالة إلى (حركة المقاومة الإسلامية) حماس التي لا يمكنها الاعتماد على الضغط” الذي أحدثه قرار مجلس الأمن بعد أن امتنعت واشنطن عن التصويت فيه، وكأنه يقول -للعب دور الرجولة مع حماس- إنه وضع إصبعه في عين الرئيس جو بايدن “الصهيوني” العاشق لإسرائيل والمنقذ لها في هذه الحرب الرهيبة.
وهكذا ظل نتنياهو يكذب طوال اليوم، إذ كذب في قوله إن رد حماس على الخطوط العريضة لصفقة الرهائن جاء بعد قرار الأمم المتحدة، مع أنه جاء قبله.
ثم كذب على نفس السيناتور لتقليل الضرر بالولايات المتحدة. واليوم نفسه، استمر في الكذب بشأن عدم الموافقة على رحيل الوفد، أما الكذبة الكبيرة حقا فهي أن نتنياهو لم يؤجل مغادرة الوفد بسبب تصويت الولايات المتحدة، وإنما اتخذها شماعة، تمامًا مثل مشروع القانون، ومثل الاجتماع مع عائلات الجنود المحتجزين بغزة.
ووصف فيرتر نتنياهو بأنه مثل مهرج مخمور، يتلاعب بكل الكرات في الهواء، ولا يمكنه الإمساك بها جميعا، ولذلك فهو يقتصر على التمسك بما يسبب له ضررا أقل.
وبعد 6 أشهر، يبدو أن مماطلته الأكثر إيلاما وإجراما -كما يرى الكاتب- لا تتجه نحو الجنوب، بل إلى الشمال حيث لا تزال منطقة بأكملها في حالة من النسيان اليائس.
ولأن الكاذب لا يهتم فقط بما يقوله بل بما لا يقوله، فإن نتنياهو رغم كذبة “النصر الشامل” وكل الهراء حول رفح، نادرا ما يتحدث عن الشمال، ويترك تهديد حزب الله والحكومة اللبنانية للجيش الإسرائيلي أو لغالانت، حتى لا يوقع نفسه في شرك اتفاق محتمل هناك.
استقالة ساعر
وكان الوزير بحكومة الطوارئ الإسرائيلية غدعون ساعر عازما على إعلان استقالته في 20 مارس/آذار إذا لم يضم لحكومة الحرب، ولكنه تلقى اتصالا من نتنياهو طلب منه التمديد بضعة أيام.
ومرد ذلك -وفقا للكاتب- أن أمام انضمام ساعر لحكومة الحرب هناك 3 عقبات، أولها فيتو عضو حكومة الحرب بيني غانتس، ثم اشتراط الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش أن ينضما معه لحكومة الحرب، وأخيرا اعتراض سارة نتنياهو على دخوله.
ومع ذلك، أبلغ نتنياهو ساعر أن الوضع سيتغير إذا التزم بدعم كل مشروع قانون قدمه الائتلاف للحفاظ على إعفاء طلاب المدارس الدينية من الجيش والبقاء بالحكومة بعد انتهاء الحرب، وبالتالي يستطيع نتنياهو أن يذهب إلى شركائه بالائتلاف ويقول لهم “انظروا ما الذي حصلنا عليه من غدعون؟ إنه يعدنا بالحياة” وذلك ما رفضه ساعر.
وقد كان ساعر -حسب الكاتب- على استعداد لإضفاء بعض الشرعية على رئيس الوزراء الذي أطعمه المرارة ويعرف عيوبه أكثر من معظم الناس، ولكنه رحل ولا يقتصر رحيله على حسابات مقاعد حزبه الأربعة، بل إنه سيلتقي في المعارضة بشريكه السابق غانتس الذي تتبخر آخر بقايا نفوذه بمعدل ينذر بالخطر.