غزة- بينما كنت عالقة تحت الركام، كان ذهني عالق في الدقيقة السابقة لوجودي هنا حين كنت أمسك بهاتفي لأبارك لصديقتي شهادة والدها الذي ارتقى في استهداف إسرائيلي، أول ما تحسسته بيميني عيناي، هل أصيبت ومغلقة أم أنها مفتوحة وتبصر كل هذا الظلام الدامس؟
تروي المهندسة ريم زاهر (25 عاما) قصتها للجزيرة نت، وتجربتها منذ لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على بيتها إلى حين النجاة، وتقول “طوفان من الأسئلة انهال علي وجرفني لقاع الردم. هل جسدي كامل أم أخذت الغارة منه عضوا أو طرفا؟ من الذي وضعني هنا وبيني وبين سقف البيت سنتيمترات، وثغرة بالكاد ألتقط منها الهواء؟ أمي التي كانت تكبر للصلاة بجواري أين صارت؟
“أمي أمي” لماذا لا تجيبيني؟ مع أن المسافة بيننا كانت أقصر جدا من ألا تسمعني في وسط كل هذا الارتياب، شيء ما كان يربت على قلبي “لا تخافي إنا منجوك” مع أنه لم يكن هناك مدعاة للاطمئنان في كل هذه العتمة.
أيعقل أنها بركات سورة البقرة التي أنهيتها مباشرة قبل سقوط القذيفة؟ أم أنها دعوات أبي الذي كان يؤم الناس في المسجد المحاذي للمنزل في الوقت الذي استهدفنا فيه؟ أم أن أحدهم أمن على منشوري الأخير على “الإنستغرام” الذي استودعت فيه نفسي وعائلتي؟ فصرت أكرر “اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أطلب منك اللطف فيه”.
يا صاحب الجرافة أنا حية
كانت أصوات الناس تخفت شيئا فشيئا كأنني في القبر، وأسمع صوت نعال المودعين المنفضين عنه، حتى تهيأ لي أن الجرافة تدفنني بالأنقاض بدلا من أن تحاول انتشالي منها، تمكنت من التقاط حجر صغير استخدمته للدق على السقف الساقط فوقي، ولسان حالي “يا سائق الجرافة أنا هنا حية أتنفس، أنا هنا سيادة المنقذ، أبي أنا هنا حية لم أمت”.
كان النعاس أمنة لي من كل هذا، والنوم مفري من ضجيج التفكير وثورة القلق، كنت أغفو، وأصحو على صوت رنين هاتفي الذي قذفته الغارة من يدي، وكنت حاولت العثور عليه ولم أجده.
وكلما صحوت ناديت أمي، هل استيقظت؟ ومع تكرار نداءاتي لها وتكرارها عدم الرد، بت أوقن أنها ارتقت، وهنا بدأ الخوف يجتاحني من جديد، من ارتقى أيضا؟ لماذا اصطفاهم من دوني؟ هل يا رب لست أهلا لها؟ لماذا أبقيتني؟
ثم غفوت وأنا أبكي إلى أن شق الوهج بصري. كم لبثت؟” سألت المنقذ الذي أعتقني من هذه اللجة، وأجبته سريعا موقنة من صدق توقعي أربعة أيام أليس كذلك؟ قال نعم، نقلوني إلى المستشفى، وحين الحديث مع من حولي عرفت أني مكثت 12 ساعة.
“قطع في أوردة بعض الأطراف وحروق متناثرة” كان المسعفون يحاولون طمأنتي على حالتي الصحية التي لم أكترث لها، بينما كنت أنا أبحث عن وجوه أفراد عائلتي فيمن حولي، بدأت الاطمئنان على إخوتي تباعا. نحن 10 إخوة. رأيت 8 منهم.
بقي أكبرهم بلال لم أره. ثم عرفت أنه ارتقى مع ابنه “محمد” ثم جاءني بعدها خبر انتشال أمي من تحت الأنقاض، مرتقية على الهيئة نفسها التي تركتها عليها، كفوفها على بعضها، جسدها ساخن، دمها ما زال ينزف، وريحها المسك.
لم أستغرب ذلك، فأمي السيدة الفاضلة الحافظة لكتاب الله التي نجحت في دفعنا نحن العشرة لحفظه. لم يؤذ الله قلبها لشأنها عنده، فاصطفى معها “بلال” فلذة كبدها، لأنه يعلم أن أحدهما لا يطيق العيش دون الآخر، حتى ابن أخي بلال، فقد كان ملازما لوالده، حتى إنه كان يصطحبه على منبر خطبة الجمعة كان بلال سيد قلب أمي، وسندنا جميعا وعونا لمن عرف ومن لم يعرف، وعماد البيت الذي ترك فيه زوجته وأطفاله الثلاثة.
وقد كان مسؤولا عن مراكز تحفيظ دار القرآن الكريم والسنة في مدينة خان يونس كلها، ولأن إسرائيل تخوض ضمن حروبها علينا حربا دينية، فاعتبرت وجوده خطرا عليها، سدد بلال قبل ليلة من استشهاده كل ديونه، وجهز مونة بيته، وكان يهم بإخبارنا برؤية رآها في منامه أشغلته، لكن شيئا ما اعترضت التكملة.
نجوت.. لكن تغيرت
لكن ريم قبل الساعة 4:08 عصرا، في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ليست كما بعده نجى جسدي كما يبدو للعيان، لكن القذيفة فتكت بداخلي، وجعلته مهشما، أعجز عن معرفة السبب الذي أبقاني الله له، لكن كلمات أمي الشهيدة أن “أقدار الله كلها خير، وأن أجر البقاء في أرض الرباط عظيم، ويتطلب منا الكثير”، ومقولة أخي التي كان يكررها دوما بأن “تحرير فلسطين مش بالساهل واحنا فداها” جعلني أضع الموازين في نصابها. وسيدفعني للصبر وللالتزام بوصاياهم.
بعد ذلك اليوم غيرت تعريفاتي عن عدة أشياء من حولي. تعريفي للأشياء ونظرتي إلى العديد منها تغيرت. الخذلان الذي يشعل في الغضب على المتفرجين على مقتلنا. طموحي الذي كان يتجاوز حدود الوطن، لنيل الدراسات العليا، تغير.
الألوان الزاهية المكتظة بالشغف التي كنت أختارها لرسم اللوحات، سيتغير إقبالي على الحياة وطمعي في نيل جوائز أخرى، كالتي حزتها كثيرا في الهندسة والفن والتوثيق وتأسيس مشاريع جديدة تغير. نومي في العتمة، وجرأتي على الجلوس فيها تغير. الحرب سبكتني من جديد، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.