في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وإحصاء عدد الشهداء والجرحى والمفقودين وبالدمار الهائل هناك، لا بد من طرح تساؤل عن الآلة الضخمة وسوق صناعة الأسلحة الفتاكة التي شهدت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة خاصة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
كانت التوقعات تميل إلى تراجع سباق التسلح بين الشرق والغرب بعد انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، التي كانت تعتمد ما يسمى بتوازن الرعب في امتلاك الأسلحة بين الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي والكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
بيد أن الحروب لم تهدأ نارها، بل اشتعل لهيبها من جديد، وكأن البشرية لم ترتدع بعد حربين عالميتين مدمّرتين، ولم تفلح المنظومة الدولية في كبح جماح نزعة التسلح.
وقد نشرت صحيفة لوموند دبلوماتيك الفرنسية في عددها ليناير/كانون الثاني 2024 تقريرا حول دور حرب أوكرانيا في تصعيد سباق التسلح في العالم، أشارت فيه إلى العواقب المأساوية بعد قرن من الزمان على الندوة العالمية التي نظمتها القوى الكبرى ما بين عام 1932 وعام 1934 في جنيف لنزع السلاح.
وتسجل صناعة الأسلحة اليوم أرقاما قياسية في المبيعات، ويقر المعهد العالمي للبحث حول السلام بستوكهولم بأن ميزانية الانفاق على التسلح في العالم شهدت سنة 2022 ارتفاعا متواترا للمرة الثامنة على التوالي، وهي في أعلى مستوياتها منذ أكثر من 30 سنة ونهاية الحرب الباردة، بإجمالي يقدر بـ2055 مليار يورو أي بمعدل 2.2% من الناتج المحلي الاجمالي عالميا.
هيمنة أميركية
تجدر الإشارة إلى العودة إلى المربع الأول من حيث تنافس القوى الكبرى في سباق التسلح، حيث بقيت الولايات المتحدة وتليها روسيا على رأس الدول العشر الأولى المصدرة للأسلحة.
وتشير الإحصائيات إلى أنه ما بين عامي 2017 و2022، تصدّرت الولايات المتحدة قائمة الدول المصدرة للأسلحة بنسبة 40% من المبيعات، تليها روسيا بنسبة 17%، ثم فرنسا بنسبة 10%، وكان نصيب الصين 5%، وألمانيا 4.5%.
ومثل هذه الإحصائيات تؤكد هيمنة واشنطن على تجارة السلاح؛ إذ تتصدر شركاتها لوكيد مارتان ورايتون تكنولوجي ونورثون غرومان قائمة شركات إنتاج الأسلحة بمبيعات تقدر بـ62 مليار دولار للشركة الأولى، و40 مليار دولار للشركة الثانية، و32 مليار دولار للشركة الثالثة.
وتم إقرار ميزانية الدفاع الأميركي لعام 2023، بمبلغ 858 مليار دولار، بزيادة 45 مليار دولار عن الميزانية التي طرحها الرئيس جو بايدن، بهدف زيادة رواتب الجنود بنسبة 4.6%، وزيادة الإنفاق على الأسلحة والطائرات، في ظل استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا.
وتتجلى الهيمنة العسكرية الأميركية في موقعها المتقدم في منظمة شمال الحلف الأطلسي (ناتو)، المنظمة العسكرية الأولى عالميا، والتي تمكنت من توسيع نفوذها بعد انضمام كل من فنلندا والسويد -وهما بلدان أوروبيان ينتميان إلى المجموعة الإسكندنافية- إلى هذا الحلف بعد أن كانت سياسة هذه البلاد تقوم على الحياد، وهو دليل على عدم ثقة هذين البلدين في الاتحاد الأوروبي، وأن ثقتها أكبر في القوة العسكرية للحلف وتحديدا المظلة الأميركية.
توسع دائرة تجارة السلاح
ويعتبر هذا التوسع من أهم تداعيات الحرب في أوكرانيا. وبررت وزارة الخارجية في فنلندا طلب الانضمام إلى “الناتو” بقولها: “لدينا حدود طويلة مع روسيا (1340 كيلومترا) ونريد الحفاظ على إبقاء الوضع آمنا فيها”.
وكان جواب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يوجد خطر على فنلندا، وأن تخليها عن الحياد سيكون خطأ، وأن تغيير سياسة هلسنكي الخارجية سيضر بالعلاقات الثنائية.
كما أدت هذه الحرب إلى تغيير بعض الدول إستراتيجيتها الدفاعية بزيادة الإنفاق العسكري وزيادة تسلح جيشها، الأمر الذي يثير المخاوف من سرعة وتيرة التسلح التقليدي مع تفاقم الصراع الغربي الروسي.
في هذا الإطار، يلاحَظ تصعيد في نسق التسلح الأوروبي تخوفا من مطامع بوتين على الحدود الشرقية الأوروبية خاصة أنه ضم جزر القرم سنة 2014 ثم دومباس إلى روسيا.
وتعيد فرنسا تقييم قانون البرمجة العسكرية، مع تأسيس قاعدة صناعية تكنولوجية للدفاع الأوروبي والفرنسي، مع تخصيص 400 مليار دولار بين عامي 2024 و2030 للإنفاق العسكري.
من ناحيتها تسعى ألمانيا لامتلاك أكبر جيش أوروبي تقليدي في الناتو بفضل استثمارات ضخمة وتخصيص 2% من الناتج المحلي لميزانية الدفاع، لتصبح ميزانية الإنفاق العسكري ما بين 70 إلى 80 مليار يورو سنويا بعد الموافقة على إنشاء صندوق استثنائي بقيمة 100 مليار دولار.
ولم تتوقف المخاوف عند الفضاء الأوروبي، بل تجاوزته إلى الفضاء الآسيوي، ودخلت بلدان جديدة في سباق التسلح مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وهي من بين البلدان التي كانت تنتهج مقاربة سلمية بعيدة عن نزعة التسلح.
وعلى ذكر القارة الآسيوية، فإن العملاق الصيني لم يقتصر في منافسته لواشنطن على المستوى الاقتصادي، بل هو يسعى إلى المنافسة العسكرية عبر شركاته الضخمة لإنتاج الأسلحة، وعبر توظيف التراجع الروسي والأوروبي عالميا ليصبح رقما صعبا في المعادلة الدولية.
الساحة العربية الساخنة
عربيّا، سجلت الساحة العربية خلال السنوات الأخيرة تطورا خطيرا في النزاعات الإقليمية، إلى جانب الصراعات المسلحة الداخلية بين طرفين داخل نفس البلد.
وتكفي الإشارة إلى الإحصائيات الخاصة بالدول العشر الأولى في قائمة الأكثر استيرادا للأسلحة في آسيا للفترة ما بين 2017 و2022، ورغم تصدر الهند للقائمة إلا أنها تضم 5 دول إسلامية منها 4 دول عربية في منطقة الشرق الأوسط.
كما نالت منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي نصيب الأسد من الحروب الأهلية، إذ يشهد السودان اقتتالا عنيفا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، واتسعت الحرب لتخرج من دائرة العاصمة الخرطوم إلى مناطق أخرى من البلاد وهو ما يهدد الأمن القومي وأمن البلاد المجاورة.
وجاء في تدوينة لرئيس المركز القومي الإستراتيجي السوداني الدكتور تاج السر عثمان قال فيها إن من يظن أن أجندة الصراع ستقف عند حدود السودان؛ “فهو واهم”.
وليس بعيدا عن السودان، يعيش الصومال حربا أهلية تنهكه بسبب حرب استنزاف تقوم بها حركة الشباب المجاهدين منذ بدايات القرن الحالي ضد الحكومة الصومالية وحلفائها في الداخل والخارج. ودائما في القارة الأفريقية وتحديدا في شمالها، شهدت ليبيا صراعا دمويا.
والإشكال في هذه الحروب أن كل طرف يستفيد من تحالفاته الخارجية ليعزز ترسانته من الأسلحة وما ينجر عن ذلك من دمار وتخريب وفوضى وسياسة الأرض المحروقة.
ولا يتوقف الأمر عند شراء السلاح واقتنائه بطرق قانونية أو غير قانونية، بل يتعداه إلى اللجوء إلى مليشيات مسلحة مثل قوات الجنجويد ومجموعات فاغنر، وهو ما يزيد الوضع تعقيدا.
حرب بلا أخلاق
“إن إنتاج وتجارة الأسلحة مجال تحتل فيه الأخلاق المرتبة الثانية”. هكذا جاء في تعليق تقرير صحيفة لوموند دبلوماتيك المشار إليه أعلاه.
وقدمت الصحيفة أمثلة على ذلك منها أن مؤسسات مراقبة اكتشفت أن الكثير من أسلحة موسكو، بما في ذلك الصواريخ الباليستية، تَستخدم على نطاق واسع المكونات الإلكترونية المصنوعة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وهولندا واليابان وإسرائيل والصين. ويتم اقتناء هذه الأجهزة الدقيقة والحساسة بطرق ملتوية من خلال قنوات غير مباشرة بالتواطؤ مع سماسرة صينيين.
مثال آخر هو التبييض السياسي لفيكتور بوغ، وهو سمسار أسلحة من أصل روسي معروف في جميع أنحاء العالم.
احتُجز بوغ لمدة 15 عاما في الولايات المتحدة وتمت مبادلته في ديسمبر/كانون الثاني 2022 بلاعبة كرة سلة أميركية متهمة بتعاطي المخدرات من قبل السلطات الروسية.
مثال ثالث يتمثل في أن واشنطن قررت في يونيو/حزيران 2023 تسليم ذخائر متفجرات عنقودية إلى أوكرانيا، وبرر الرئيس جو بايدن ذلك بقوله: “إنه قرار صعب للغاية لكنه الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله”.
ومعلوم أن 120 دولة تخلت عن استخدام هذا النوع من المتفجرات العنقودية التي تقتل بشكل عشوائي، وتتسبب في سقوط العديد من الضحايا المدنيين.. لكن رفضت كل من الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا التخلي عنها.
وفي السياق اللاخلاقي للحرب، يبرز العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي يستخدم فيه جيش الاحتلال أسلحة متطورة وفتاكة من صنع أميركي ضد أطفال ونساء وشيوخ في قطاع محاصر لا تتجاوز مساحته 360 كيلومترا مربعا.
ورغم الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ضد الانتهاكات التي ترقى إلى الجريمة ضد الإنسانية، فإن إسرائيل لم تتوقف عن عمليات القصف والإبادة متحدية كل القوانين والأعراف الدولية.
وأخيرا، يطلق رئيس أركان الجيش البري الفرنسي الجنرال بيير شيل تحذيرا من “العودة المدوّية للحروب الكبرى لتصبح مرة أخرى وسيلة مميزة لتسوية النزاعات، وعملية إطلاق العنان للعنف اللامتناهي، حيث تتحطم الحواجز الأخلاقية والقانونية تحت ضربات الهمجية الأكثر جموحا في الوقت الذي كنا نظن أن مثل هذه العدوانية قد أحيلت إلى كتب التاريخ”.