طهران- في تصريحات رسمية يمكن اعتبار أنها الأولى من نوعها منذ فترة طويلة أكدت بعثة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدائمة في الأمم المتحدة إجراء مفاوضات غير مباشرة بينها وبين الولايات المتحدة في سلطنة عمان.
ونقلت وكالة الأنباء الايرانية الرسمية (إرنا) عن المندوب الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني تأكيده على وجود هذا النوع من المحادثات، موضحا أن هذه المفاوضات عملية مستمرة، حيث إنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة.
لكن من جانب آخر وبعد ساعات قليلة من إعلان هذه التصريحات ألقى خبر تحطم طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه -ومنهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان– بظلاله على أنباء المباحثات مع الولايات المتحدة.
تغيير العقيدة النووية
من جهته، رأى خبير الأمن الدولي عارف دهقاندار في حديثه للجزيرة نت أن البرنامج النووي الإيراني والأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط هما الموضوعان الرئيسيان اللذان تمت مناقشتهما في المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين.
وفي ما يتعلق بمسألة البرنامج النووي، قال دهقاندار إنه يجب الأخذ بعين الاعتبار إشارة طهران الأخيرة بشأن إمكانية مراجعة العقيدة النووية في حال الهجوم على المنشآت النووية وتهديد البلاد، والتي صدرت على لسان قائد هيئة حماية وأمن المراكز النووية أحمد حق طلب ورئيس مجلس العلاقات الإستراتيجية كمال خرازي.
ويبدو أن الهيئة الحاكمة في إيران تهتم بالنظام المتغير للنظام الدولي، وهو الأمر الذي أدى إلى التوتر بين القوى العظمى والدول الفوضوية، بحسب الخبير الأمني ذاته الذي أضاف أن بيئة منطقة الشرق الأوسط -خاصة بعد المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل في 13 أبريل/نيسان الماضي، واحتمال اتساع نطاق الصراعات، فضلا عن احتمال تولي ترامب الرئاسة في أميركا- اتخذت إستراتيجية “الردع النووي على الأرض” أو “الردع النووي الكامن”.
واعتبر أن هذا يعني أن إيران تمتلك المعرفة والتكنولوجيا والمواد المخصبة اللازمة لصنع أسلحة نووية، لكنها -لبعض الأسباب- لا تملك القرار السياسي لصنع أسلحة نووية، وعليه فهي مستمرة بالالتزام بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (إن بي تي)، وتواصل التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب الضمانات.
واستبعد المتحدث ذاته بناء على تحليل رحلة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي الأخيرة إلى طهران أن تقوم الأخيرة بمقايضة ورقة “الردع النووي الكامن” مع الولايات المتحدة في هذه المفاوضات.
ورأى أن طهران تحاول توظيف هجومها على إسرائيل في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي باتفاق محدود أو ما يسمى “الأقل مقابل الأقل” مع واشنطن، وبقبولها زيادة مراقبة الوكالة تحاول إظهار حسن نيتها، وفي المقابل ستحصل على امتيازات اقتصادية من أميركا.
أثر وفاة الرئيس
وأكد الخبير الأمني دهقاندار أن نبأ وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قد يوقف عملية المفاوضات غير المباشرة لبضعة أيام، لكنه من غير المرجح أن يكون هناك خلل في العملية على المدى القصير، وبالنظر إلى انتخاب علي باقري كني وزيرا للخارجية بالوكالة فإن إستراتيجية “الردع النووي الكامن” سوف تستمر على الأقل حتى تتولى الحكومة الجديدة مهامها.
وأضاف أنه بحسب الدستور فإن الأرضية لإجراء الانتخابات يجب أن تجهز خلال 50 يوما ستعرف إيران خلالها رئيسها الجديد، وبعد ذلك ستتم عملية نقل المسؤولية خلال أسابيع قليلة.
وفي السياق، تابع دهقاندار أنه إذا تم انتخاب الرئيس الجديد من المعسكر السياسي المقرب من إبراهيم رئيسي و”الأصوليين” فمن المرجح أن تستمر الإستراتيجية نفسها، وقال إنه لن نشهد سوى تغييرات صغيرة في الأدبيات والتكتيكات المعتمدة، فيما إذا تم انتخاب الرئيس من المعسكر السياسي للمعتدلين أو الإصلاحيين فقد يكون هناك قدر أكبر من المرونة من جانب الحكومة الجديدة في تبني سياسات كلية بشأن القضية النووية.
ورغم ذلك فإن الخبير اعتبر أنه لا ينبغي نسيان أن السياسات العامة للنظام تحددها قيادة الجمهورية الإسلامية ومرشدها الأعلى آية الله خامنئي نفسه، ومن غير المرجح أن يحدث ذلك حتى مع وصول الإصلاحيين إلى السلطة، وهو ما يبدو أنه ذو احتمالية ضعيفة، لذا فإن القيادة الإيرانية -وبحكم تجربتها في مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015- لن تسمح بالتغاضي بشكل كبير عن الإنجازات التقنية النووية، وسيكون الحفاظ على هذه الإنجازات أحد خطوطها الحمراء.
القضايا الإقليمية
وفي ما يتعلق بالقضايا الإقليمية، قال المتحدث نفسه إن طهران والحكومة الديمقراطية في البيت الأبيض تسعيان إلى خفض مستوى التوتر في منطقة الشرق الأوسط، موضحا أن الشرط الأساسي الذي تفرضه إيران في هذه المفاوضات هو أن تستخدم أميركا نفوذها في إسرائيل وأن ترغم حكومة نتنياهو على قبول وقف إطلاق النار في غزة.
من ناحية أخرى، فإن مطلب أميركا الرئيسي من إيران هو استخدام نفوذها بين حلفائها في المنطقة والسيطرة على تصرفاتهم تجاه إسرائيل والمواقف الأميركية مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله اللبناني الذين يتمتعون باستقلالية في أفعالهم.
وأوضح دهقاندار أن هذا الاستقلال في العمل لدى الجماعات العراقية مثل كتائب حزب الله وحركة النجباء وكذلك الحركات العربية المتحالفة مع إيران في سوريا وغيرها من هذه الجماعات لا يتفق بالضرورة مع إيران في جميع القضايا، ولا ينبغي الافتراض أنها تنسق جميع أعمالها معها، لكنها على المستوى العام -خاصة في القضية الفلسطينية- تمتلك توافقا إستراتيجيا، ويمكن لإيران التأثير على المعادلات الإقليمية من خلال التنسيق بين هذه المجموعات.
النتائج في مجلس المحافظين
بدوره، قال أستاذ العلاقات الدولية هادي محمدي إن تصريح مندوب إيران في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني بأن وضع المحادثات ليس بالأمر الجديد أمر صحيح، لكن هناك ما جعل هذه المحادثات مختلفة عما كانت عليه سابقا.
وأوضح محمدي للجزيرة نت أن إيران أوقفت أي مباحثات مباشرة وغير مباشرة مع أميركا منذ الحرب الإسرائيلية على غزة، أي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهذا أضفى أهمية على الأنباء عن استئناف المباحثات في الأيام الأخيرة.
وتوقع محمدي أن تكون هذه المحادثات قد بدأت مع زيارة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى إيران مطلع مايو/أيار الجاري، كما توقع أن تظهر نتائج هذه المحادثات الإيرانية الأميركية بعد أسبوعين في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية المرتقب.
وفي سياق الحديث عما ضاعف أهمية هذه المحادثات، أشار أستاذ العلاقات الدولية إلى الأنباء التي تحدثت مؤخرا عن أن مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة هو من كان قد تولى المحادثات مع واشنطن بالنيابة عن طهران، حيث اعتبر تصريح إيرواني تأكيدا على هذه الأنباء.
وبرأي محمدي، فإن ملف الاتفاق النووي هو الموضوع الرئيسي للمحادثات الإيرانية الأميركية، مستبعدا أن تكون الأحداث الإقليمية تشكل محورا رئيسيا، وأشار إلى أن الرسائل بشأن قضايا المنطقة يتم تبادلها عن طريق بلد وسيط مثل الدوحة.
لكنه في الوقت ذاته لم يقلل من مستوى تأثير الأحداث الأخيرة في المنطقة بشكل متزايد، حيث فرضت الحرب على غزة ضرورة الحوار بشأن القضايا الإقليمية، وتوقع أن تؤثر هذه المباحثات في قضية غزة وعدوان الاحتلال الإسرائيلي عليها.
كما توقع أن تبحث إيران مع الولايات المتحدة ضرورة توقف الحرب في قطاع غزة “وقد تعزف إيران على وتر الانتخابات الأميركية المرتقبة” على حد وصفه، مشيرا إلى أن طهران وواشنطن قبل الحرب على غزة كانتا قد وصلتا إلى تطورات جيدة في علاقاتهما مثلما جرى في قضية تحرير الأموال المجمدة وتبادل المعتقلين.
وبخصوص وفاة الرئيس والطاقم المرافق له بحادث الطائرة، قال محمدي إن السياسة الخارجية لطهران لا يرسمها رئيس الجمهورية ووزير خارجيته وحدهما على الرغم من دورهما في اتخاذ القرار، بل تقرر السياسة الخارجية على مستوى جميع أركان النظام، وعلى رأسهم المرشد الأعلى.
وعليه، استبعد المحلل أن يؤثر رحيل الرئيس ووزير خارجية على ملفات السياسة الخارجية بشكل عام، بما فيها المفاوضات مع الولايات المتحدة والملف النووي..
وأضاف أنه ينبغي الانتظار لمعرفة من سيحكم البلاد بعد المرحلة الانتقالية، وهو الأمر الذي سيحدد كيفية تنفيذ السياسة الخارجية التي يقررها النظام والمرشد الأعلى.
لكنه أكد في الوقت نفسه أن وفاة الرئيس ووزير خارجيته وبدء المرحلة الانتقالية في إيران ثم إجراء الانتخابات في كل من إيران وأميركا سيبطئان عملية المباحثات بين البلدين.