القدس المحتلة- يُحدّث المسن محمد حميدة نفسه بذكريات قريته دير ياسين، غربي القدس، والتي ارتكبت فيها العصابات الصهيونية واحدة من أبشع المجازر عام 1948.
ورغم أن رحلة لجوئه ممتدة منذ 76 عاما إلا أن مشاهد المجزرة ترفض مغادرة مخيلته، بل أشعلت المجازر التي تُرتكب في غزة الآن فتيل آلامه وعمقتها.
في محطة لجوئه الثامنة جنوبي القدس التقته الجزيرة نت وهو يتحسس ثمار الأشجار المثمرة أمام منزله، ويقول إن مذاقها لا يشبه أبدا ثمار أشجار عائلته في قرية دير ياسين المهجرة.
وقعت الجريمة بعد مرور ساعات على تشييع الشهيد عبد القادر الحسيني عقب استشهاده في معركة القسطل في الثامن من أبريل/نيسان، وفي تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، اقتحمت عصابتا الأرغون وشتيرن الصهيونيتان وقوات من البلماخ والهاغاناه قرية دير ياسين.
الرحيل المر
كان محمد حميدة يبلغ من العمر حينها 8 سنوات، وبعد إمطار القرية بالقنابل اليدوية وقذائف الهاون ونسف العديد من المنازل والمنشآت، وصلت سيدتان إلى منزل عائلته وطلبتا من أمه تحضير قطع من القماش واللحاق بهما لإسعاف الجرحى الذين تساقطوا في أزقة القرية ومنازلها.
يقول حميدة “تركتني أمي وأشقائي الأربعة في المنزل وكانت تظن أنها ستعود إلينا خلال ساعات بدون أن يتبادر إلى ذهنها أن ما يُنفذ في القرية هو مجزرة لإبادتنا، وفي تمام الواحدة ظهرا عادت إلينا بعد توبيخ عمي لها وأغلقت المنزل الذي أحتفظُ بمفتاحه حتى اليوم، وسرنا باتجاه قرية عين كارم المجاورة”.
من عين كارم اتجهت عائلة حميدة الممتدة إلى خربة “بيت فجوس” أو “بيت أم الميس” التي كانت تملك فيها 1200 دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، ومن هناك سار أفرادها كبارا وصغارا على الأقدام نحو مركز مدينة القدس عبر قريتي المالحة وبيت صفافا.
يتابع حميدة “استقبلتنا لجنة كانت مهمتها إيواء المهجرين مؤقتا، فعشنا في إحدى مدارس الأقصى 20 يوما، ومن هناك انتقلنا إلى بلدة سلوان المجاورة، واستمر اللجوء والشتات، فحطت رحالنا في قرية المزرعة الشرقية وخربة أبو فلاح قضاء رام الله، ومن هناك إلى مخيم عقبة جبر في أريحا، وفي حرب عام 1967 نزحنا إلى الأردن، وعدنا بعد عام إلى الضفة الغربية مجددا”.
مشاهد حية
حياة “تِعبة” هكذا يصف حميدة رحلة اللاجئين التي تُوفي قهرا في بدايتها عمّه وشقيقه، ويقول إن النكبة أدخلت الفلسطينيين في حالة من الذهول والصدمة والتشرد وعاشوا خلالها معنويات قاسية جدا.
وبالتالي فإن من ذاق مرارة هذه الرحلة هو أكثر من يشعر بما يمرُّ به الغزيّون الآن. وأعادت مشاهد النازحين والأسرى الحفاة والعراة في القطاع إلى ذاكرته مشاهد حياتهم القاسية بُعيد مجزرة دير ياسين.
وقال إنهم لم يرتدوا الأحذية بعد خروجهم من القرية سوى عام 1953 أي بعد 5 أعوام من اللجوء عندما بدأ والدهم بالعمل في أريحا، مضيفا أن اللاجئين الآن سيحتاجون إلى سنوات طويلة قبل أن يتمكنوا من إعادة بناء أنفسهم.
وكما ترك الغزيّون ممتلكاتهم وبياراتهم وأراضيهم خلفهم، تركت عائلة حميدة كنزا من الذكريات في دير ياسين قبل 76 عاما.
وعن تلك الذكريات قال حميدة إن أشجار اللوز والجوز والزيتون والتين والعنب والخضروات كالطماطم والكوسا والباذنجان كانت تزين أراضيهم، وجادت الأرض على مدار عقود بأشهى الثمار.
من صبرا وشاتيلا، في بيروت عام ١٩٨٢ إلى مستشفى الشفاء، في غزة عام ٢٠٢٤، تتكرر تفاصيل المجزرة المستمرة منذ ٧٦ عاما وأكثر..
دير ياسين، الطنطورة، الدوايمة، اللد، الرملة، الصفصاف، السموع، كفر قاسم، قبية، خان يونس، تل الزعتر، النبطية، الفاكهاني، صبرا وشاتيلا، حمامات الشط، الحرم… pic.twitter.com/bmyTSu1v5w
— The Palestinian Archive الأرشيف الفلسطيني (@palestinian_the) April 1, 2024
عودة وذكريات
عاد حميدة مرارا بعد المجزرة إلى الخربة وكان آخر لقاء له معها عام 1978 عندما قدم عمّه وزوجته من الأردن وطلبا منه اصطحابهما إليها.
“جلسنا في ظلال أشجارنا.. قطفنا الميرمية والزعتر الأخضر والجوز، وتناولنا طعام الغداء بجوار العين، وباغتنا حينها من يدّعون أنهم من سلطة حماية الطبيعة وسألوا عن سبب وجودنا فأجبناهم بأن هذه أرضنا، وردوا بأنها كانت لكم والآن هي ملك للحكومة الإسرائيلية”.
قبل أن يُطردوا من المكان صمم عمّ محمد حميدة على السباحة في العين لاسترداد ذكريات طفولته، وحملوا خيرات الأرض وغادروا، وبعد شهر عاد محمد ووجد أنهم نسفوا منازل المزارعين الصغيرة في المكان وقطعوا أشجار الجوز.
يسكن في منزل عائلته بقرية دير ياسين الآن طبيب يهودي من أصل روسي، وبعدما نجح بصعوبة في الوصول إلى المنزل قبل نحو عامين طلب من الغريب الذي يسكن منزله أن يدخل ويتجول به لكن الأخير أجابه: هذا المنزل كان لك وأصبح لي.
أبواب المنزل الحديدية ونوافذه الأثرية أُلقيت بجوار المنزل وأُهملت لكن مفتاح المنزل الحديدي ما زال محمد يحافظ عليه بعدما أغلقته أمه “ذيبة” ظهر التاسع من أبريل/نيسان عام 1948، ثم رحلت قهرا بعد سنوات ليس قبل أن توصي وزوجها أبناءها الخمسة بأملاكهم في القرية والخِربة المجاورة لها، كي يعرفوا حقوقهم إذا ما عادوا إلى دير ياسين يوما ما.