إسطنبول – لم يكن مفاجئا إعلان تركيا دعم العشائر العربية في محافظة دير الزور السورية ضد ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لكن الموقف التركي فتح الباب على تكهنات بشأن علاقة أنقرة بما يجري وسيناريوهات الدعم الذي قد تقدمه للعشائر.
ومنذ أواخر الشهر الماضي، اندلعت اشتباكات في بعض قرى ريف دير الزور الشرقي بين العشائر العربية وقوات “قسد”، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، في حين أعلنت “قسد” انتهاء عمليتها أمس الجمعة بعد تقارير عن سلسلة مفاوضات رعتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وسط تحذيرات صدرت عن أنقرة للدول الداعمة لـ “قسد”.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الثلاثاء الماضي، إن تنظيم حزب العمال الكردستاني (الذي تقول أنقرة إنه يقود قسد) لا يتردد في ارتكاب أي مجزرة للسيطرة على النفط في دير الزور، مضيفا، وجهنا التحذيرات اللازمة بهذا الخصوص للدول المعنية”.
ونبه أردوغان أن “كل سلاح يتم تقديمه لتنظيم حزب العمال الكردستاني يساهم في استمرار إراقة الدماء بالمنطقة”، في إشارة إلى الخلاف بين أنقرة وواشنطن بشأن تقديم الأخيرة السلاح والذخيرة لقوات “قسد” في إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة.
وفي حين ذكر الرئيس التركي أن العشائر العربية “هم أصحاب تلك المناطق الأصليين”، دعا وزير الخارجية هاكان فيدان الأربعاء إلى التوقف عن تصوير “قوات قسد” بأنها قوة شرعية، “وإلا فإن الاشتباكات التي نراها في دير الزور السورية هي مجرد بداية”.
ترقب حذر
وأثارت التصريحات الرسمية التركية تساؤلات حول أبعاد الموقف التركي، وما إذا كان الدعم الإعلامي والسياسي الذي ظهر على لسان المسؤولين للعشائر العربية سيترجم إلى دعم ميداني، وهو ما استبعده مراقبون تحدثوا للجزيرة نت لأسباب عدة.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي التركي علي أسمر أن تركيا تراقب عن كثب وبحذر لكن بدون تدخل فعلي، مشيرا إلى أن هذه التطورات -رغم أن تركيا عضو فاعل في الملف السوري- تجري في منطقة بعيدة عن النفوذ التركي.
وأضاف أسمر للجزيرة نت أن تركيا تحاول -إلى الآن- مراقبة الوضع عن بعد بسبب خرائط موازين القوى في سوريا، حيث لكل دولة تأثير في منطقة معينة، وأي خلل في خرائط السيطرة من الممكن أن يؤدي إلى تصادم وتصعيد، تبقى أنقرة غنية عنه في الوقت الحالي.
وشرح أسمر ذلك قائلا إن تركيا خرجت من انتخابات مصيرية وأمامها الآن ملفات وأولويات على رأسها الملف الاقتصادي، مضيفا “لتحقيق نجاحات حقيقية في هذا الملف تحتاج أنقرة نوعا من الهدوء في السياسة الخارجية، بحكم أن أي توتر سياسي سيعقبه توتر اقتصادي”.
حقيقة التواصل التركي مع العشائر
ويبدو أن حرص أنقرة على عدم التورط المباشر في صراع جديد لم يمنعها من إنشاء قناة للتواصل مع عشائر المنطقة، وفق ما كشف المحامي والناشط الحقوق حسين البسيس، وهو أحد وجوه المنطقة.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال البسيس إن لدى تركيا تواصلا مستمرا مع ممثلي العشائر والقبائل من خلال مجلس العشائر والقبائل السورية الذي ينشط في جنوب تركيا، مضيفا أن الموقف الحالي التركي هو أن من يقاتل على الأرض ضد قوات “قسد” هم من أبناء تلك العشائر.
وفي حين انقسم المراقبون بين من يرى أن الموقف التركي غير مبال بما يحصل بين “قسد” والعشائر، ومن يعتقد أنه صنيعة تركية؛ يرى الباحث التركي والخبير في الشؤون الأمنية أحمد حسن أن “كلا الجانبين غير صحيح”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف حسن أن نقطة الخلاف الرئيسية بين تركيا والولايات المتحدة، تستند إلى مطالبة أنقرة بضرورة إدارة المكون العربي المحلي لمناطقه، وإخراج حزب العمال الكردستاني من سوريا، وأن تسخر عائدات النفط والغاز لصالح البنية التحتية وتقديم الخدمات للمنطقة، باعتبارها الطريقة الوحيدة لعودة اللاجئين، ومنع ظهور تنظيمات متطرفة مرة أخرى.
دعم مالي وربما استخباري
وبناء على ذلك، يعتقد الباحث التركي أحمد حسن أن التصريحات الرسمية الأخيرة، تنسجم تماما مع الموقف التركي المعتمد في هذه المنطقة، حتى في المفاوضات الدولية مع الولايات المتحدة وأيضا روسيا.
ولفت حسن إلى أن أقصى ما يمكن أن تقدمه تركيا للمكون العربي في دير الزور، هو توجيه الدعم المالي من العشائر العربية وممثليها في تركيا إلى قادة الحراك، بالإضافة إلى استهداف قادة “قسد” بالمسيرات التركية، وهو نهج متبع حاليا.
واستبعد الخبيرة الأمني حصول تدخل تركي أبعد من هذه الحدود لأنه يؤدي إلى إضعاف موقف العشائر وجعلهم جزء من خطة خارجية، ناهيك عن أن هذا الحراك لا يهدد تركيا وأمنها القومي، لا بموجة نزوح جديدة ولا بتوتر على الحدود، وفق وصفه.
وأكد الكاتب والمحلل السياسي التركي علي أسمر أن أنقرة تنتظر وتريد أن تتأكد من احتمالية تغير المشهد السياسي والعسكري، ومن احتمال إعادة ترتيب الأوراق مرة أخرى في سوريا، بناء على تلك المواجهات، أم أنها مجرد مناوشات مؤقتة لن تغير أي شيء في الملف السوري.
وقال أسمر إن تركيا “لا تريد التصعيد، ولكن إذا تعرض الأمن القومي التركي للخطر جراء تلك التطورات، فأعتقد أنها لن تبقى مكتوفة الأيدي ومن الممكن أن تدعم العشائر لوجستيا واستخباريا، إذا تطلب الأمر”.
واندلعت الاشتباكات نهاية الشهر الماضي بعد اعتقال “قسد” المدعومة أميركيا قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لها أحمد الخبيل، مما دفع مقاتلين محليين موالين له إلى شن هجمات عليها، سرعان ما تطورت إلى اشتباكات انضمت إليها العشائر العربية، التي ينتمي إليها سكان المنطقة الممتدة حتى الحدود مع العراق شرقا، وأسفرت عن سيطرة العشائر على معاقل كبيرة لـ”قسد”.
وامتد القتال لاحقا إلى ريفي محافظتي الرقة (شمال) والحسكة (شمال شرق) المجاورتين لمحافظة دير الزور، وسيطرت العشائر على عدد من المواقع التابعة لـ”قسد” فيهما.