بيروت – بعد “الرد الأوّلي” لحزب الله على اغتيال صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع مجموعة من رفاقه، من خلال قصف أكبر قاعدة مراقبة جوية إسرائيلية شمالا، بلغ التصعيد الإسرائيلي وتيرة غير مسبوقة تجاه لبنان أمس السبت، حيث امتدت غارات جيش الاحتلال -ولأول مرة- إلى أطراف قضاء صيدا.
منذ اللحظة الأولى لاستشهاد العاروري ورفاقه، برز سؤال واحد على ألسنة حلفاء وخصوم وأعداء حزب الله: كيف سيرد الحزب على أخطر عملية اغتيال منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، ولأول مرة داخل معقله بقلب الضاحية الجنوبية لبيروت؟
امتحان الحزب
وبعدما وضعته إسرائيل أمام ذروة التحدي، حرفت الأنظار عن جريمتها إلى ترقب طبيعة رد حزب الله، فكان لأمينه العام حسن نصر الله خطابان ما بين اغتيال العاروري في الثاني من يناير/كانون الثاني الحالي و”الرد الأولي” -كما وصفه بيان الحزب- في السادس من يناير/كانون الثاني الجاري.
في الأول، أثار خطاب نصر الله التساؤلات حول غموضه والتباسه مكتفيا بالإشارة إلى أن الجريمة لن تمر بلا رد أو عقاب، وقال إن “الميدان والأيام والليالي بيننا”. ثم أوضح في الخطاب الثاني أن الرد آت وسيتركه للميدان و”لن ننتظر الوقت والزمان المناسبين”.
لكن مراقبين يرون أن إسرائيل أرادت تكريس تفوقها على الحزب بتنفيذ اغتيالات نوعية على مستويات الشخصية والمكان والبعد الأمني والاستخباراتي. فكيف يمكن قراءة “الرد الأولي” للحزب وما تبعه من تصعيد إسرائيلي خطير؟
“رد” وتصعيد
في الصباح التالي لخطاب نصر الله، انطلقت صفارات الإنذار بشمال إسرائيل، وقال جيش الاحتلال إنه حدد نحو 40 إطلاقا للصواريخ من لبنان باتجاه منطقة ميرون، ثم أعلن حزب الله إطلاق 62 صاروخا على موقع مراقبة جوية إسرائيلي، في “رد أولي” على اغتيال العاروري.
وأظهر الحزب أهمية العملية بالقول “إن قاعدة ميرون للمراقبة الجوية تقع على قمة جبل الجرمق، وتعد مركزا للإدارة والمراقبة والتحكم الجوي الوحيد بالشمال، ولا بديلا رئيسيا عنها.. وتعنى بتنظيم وإدارة العمليات الجوية باتجاه سوريا ولبنان وتركيا وقبرص والقسم الشمالي من حوض المتوسط”.
ولم تعلن إسرائيل عن خسائر بشرية ومادية لهذه العملية، لتتبعها بتصعيد غير مسبوق، مما عكس غضبها واستنفارها وسعيها لاستدراج حزب الله نحو الحرب.
وأعلن الحزب أمس السبت استشهاد 5 من عناصره بعدما قصفت إسرائيل مواقع له بمناطق عيتا الشعب ويارون والرامية.
ولأول مرة، وسّعت إسرائيل مساحة النار حتى نحو 35 كيلومترا عبر غارات جوية على بلدة “كوثرية السياد” الواقعة بمنطقة الزهراني، وطالت إحداها منزلا، واستهدفت أخرى تجمعا للسكان أسفرت عن إصابات.
وواصلت القصف المدفعي الفوسفوري بمنطقة الخيام، وأغارت على عدد كبير من البلدات الجنوبية في عيتا الشعب وميس الجبل، واستهدفت سهل القليلة بقضاء صور، وطالت قذائف الفوسفور الأحياء السكنية. كما انطلق منطاد إسرائيلي فوق بعض البلدات، مع تحليق كثيف للطيران الاستطلاعي جنوبا.
يأتي ذلك في وقت كان فيه مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل يزور بيروت السبت، حيث التقى رئيسي البرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، وعقد مؤتمرا صحفيا مشتركا مع وزير الخارجية اللبناني، داعيا لضرورة “تجنب جرّ لبنان إلى نزاع إقليمي”.
قراءات الرد
تتباين التحليلات بين من يجد أن رد حزب الله يعكس تكتيكا مدروسا وذكيا في إدارة الحرب ضمن قواعد اشتباك موسعة ومتغيرة ومشروطة بالتصعيد المضبوط، وبين من يراه لا يرقى لمستوى عملية إسرائيل التي اغتالت أحد أهم القيادات المؤسسة لكتائب القسام، في خرق أمني واستخباراتي لمعقل الحزب.
وترى الكاتبة والمحللة السياسية روزانا بو منصف أن الرد الأولي في اليوم التالي لخطاب نصر الله كان لافتا، لكن قيمته مقرونة بمدى الأثر والضرر الفعلي لإسرائيل أمنيا وعسكريا وبشريا.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف الخبير العسكري العميد المتقاعد خالد حمادة “لا شك في أن القاعدة المستهدفة تتمتع بمميزات تفاضلية كقاعدة اتصالات استخباراتية وللتحكم. ولكن المواقع الجغرافية المميزة لها بدائلها الحديثة والرقمية اليوم”.
ولا يقلل حمادة من شأن الموقع المستهدف من قبل حزب الله، غير أنه يقول “لا يمكن القول بأن إسرائيل فقدت بضربها قدراتها على الاستطلاع والتحكم والتشويش”.
ويجد حمادة أن رد حزب الله “لم يرقَ بمنطق موازين الردع إلى عملية إسرائيل التي اخترقت مربعا جغرافيا وأمنيا وشعبيا وسياسيا يرعاه الحزب”.
وهذا ما لا يوافق عليه الكاتب والمحلل السياسي وسيم بزي، معتبرا أن حزب الله يواجه عدوا استخباراتيا قويا جدا، وأن رده الأولي ترجمة لقول نصر الله و”لاستعادة المبادرة بقواعد الاشتباك، ولكبح شهية إسرائيل في عمليات الاغتيال الموسعة من دمشق إلى إيران والتي بلغت ذروتها ببيروت”.
ويجد بزي، في حديث للجزيرة نت، أن القاعدة التي ضربها حزب الله، وتقع بعمق 7 كيلومترات على أعلى تلة بالجليل، لم تمس سابقا، وأن “استهدافها يجمع بين الرد العسكري والأمني”.
ويقول “الاستخفاف بالرد يغفل أهميته، لأن رسالته مؤثرة واستثنائية، بدليل الضربات الهستيرية والمتطرفة التي نفذتها إسرائيل بعدها، وبعدما سعى الحزب برده لإعادة قواعد الاشتباك إلى نصابها”.
من يستنزف الآخر؟
تجد روزانا بو منصف، في حديث للجزيرة نت، أن إسرائيل بالأساس مستنزَفة في قطاع غزة، لكن حزب الله برأيها مستنزف أيضا، حيث قدم حتى الآن نحو 150 شهيدا (أكثر من حرب يوليو/تموز 2006)، كما أغفل نصر الله -برأيها- حين تحدث عن تهجير أكثر من 100 ألف مستوطن بالشمال أن هناك عددا مماثلا هُجّر من جنوبي لبنان، و”هؤلاء يشكّلون استنزافا وضغطا عليه في ظل سيطرته على المنطقة، وانهيار الدولة التي تعجز عن مساندة أهل الجنوب”.
وتستبعد المحللة أن تردع عمليات حزب الله إسرائيل عن استئناف ومواصلة مسلسل الاغتيال للقادة الفلسطينيين، وربما في حزب الله، “طالما أن لبنان ساحة مفتوحة أمنيا واستخباراتيا وسياسيا”.
توازيا، يرى خالد حمادة أن الرهان قد يكون على ما ستقوم به حماس ردا على اغتيال العاروري، وأن الرد الفعلي والموازي يكون بضرب هدف عسكري أمني، وبنوعية قتلاه من الضباط الكبار والمؤثرين.
مصير الجبهة
يعتبر الكاتب وسيم بزي أن رغبة إسرائيل جلية في المسار العسكري الواسع لشن حرب على لبنان ما لم تنجح المساعي الدبلوماسية في تطبيق القرار 1701 كما تشتهي لجهة انسحاب حزب الله من جنوب الليطاني. لكن رد حزب الله ولبنان واضح أنه “لا نقاش لأي أطروحات دبلوماسية قبل وقف العدوان على غزة”.
ويقول إن واشنطن أوكلت مستشار الطاقة لديها آموس هوكستين، كما يبدو، “بمهمة ضبط إيقاع النيران، حيث إن جميع الأطراف تواجه رغبة إسرائيل بالتدهور إلى حرب واسعة مع لبنان علها تنقذها من هزيمة غزة، مقابل رغبة حزب الله في الحفاظ على قواعد الاشتباك والردع”.
في حين، تجد بو منصف أن ثمة نوعا من التوافق الأميركي الإيراني على عدم توسعة الحرب في المنطقة، كما تشيع واشنطن مثلا أن ردها موضعي على هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.
وتقول بو منصف إن “إسرائيل غير قادرة على خوض حرب على لبنان بلا مساندة أميركية مباشرة، لكن حزب الله مربك بالسؤال عن جدوى جبهته، من حلفائه وخصومه، وهو ما تستغله إسرائيل التي تسعى لتكبيده ثمنا يتجاوز حرب الإشغال التي أعلنها”.