رغم أن فرنسا حظرت التكسير الهيدروليكي لاستخراج الغاز الصخري على أراضيها عام 2011، فإنها لم تمنع نفسها قط من استيراد الغاز الصخري المستغل بهذه الطريقة، حيث تقوم شركة “توتال إنيرجي” باستخراج وتخزين ونقل الغاز الطبيعي المسال على نطاق واسع من تكساس ولويزيانا؛ مما يتسبب في أضرار بيئية جسيمة، ويهدد صحة 420 ألف شخص في الولايات المتحدة.
وقالت صحيفة “ليبراسيون” -التي تنشر تحقيقها بالشراكة مع الموقع الاستقصائي “ديسكلوز”- إن استخراج هذا الغاز عن طريق التكسير الهيدروليكي يؤدي إلى مخاطر تلوث المياه، ولكنه يتسبب أيضا في تلوث الهواء بسبب انبعاثات غاز الميثان الذي يتجاوز تأثيره على ظاهرة الاحتباس الحراري 80 مرة من تأثير ثاني أكسيد الكربون.
وانطلق تقرير الصحيفة -بقلم المبعوث الخاص لديسكلوز إلى أرلينغتون ألكسندر عبد الإله- من وصف مدينة أرلينغتون بتكساس، حيث الحرارة خانقة والرطوبة تكاد تمنع التنفس، وتنبيهات الأعاصير تتكرر كل يوم، ووسائل النقل العمومي معدومة.
وقال إن خصوصية هذه تكمن في أقبيتها المليئة بالطاقة الأحفورية الثمينة من الغاز الصخري، حيث تفوح رائحة غريبة في الحلق عند زاوية أحد الشوارع من سياج خشبي مرتفع وسط منطقة حضرية وعليه لافتة بمنع التدخين أو إشعال ولاعة، وخلفه يختبئ مخزون غاز تابع لشركة توتال إنيرجي في أرلينغتون.
وتعد شركة المحروقات الفرنسية العملاقة المالك الأكبر للآبار، حيث تمتلك عبر شركتها التابعة “تيب بارليت” 181 بئرا للغاز الصخري هناك، وتنتظر الضوء الأخضر لـ4 آبار أخرى، وتقع المرافق في بعض الأحيان على بعد بضعة عشرات من الأمتار من المدارس أو دور الحضانة، وهي تدير خارج أرلينغتون نحو 1700 حقل نشط في تكساس، مع ما يستتبع ذلك من عواقب صحية وخيمة محتملة على السكان المحليين، حسب البيانات التي جمعتها ديسكلوز بفضل المنظمات غير الحكومية.
وقالت هذه المنظمات إن 420 ألف شخص يتعرضون بشكل مباشر للانبعاثات السامة الصادرة عن عمليات الحفر في المنطقة، والنقطة المشتركة بينهم هي أنهم جميعا يعيشون على بعد أقل من 800 متر من بئر شركة الطاقة، وهي مسافة أظهرت العديد من الدراسات العلمية -التي تم تلخيصها في المجلة الأميركية المتخصصة في البيئة إنفايرونمنتل هيلث بيرسبكتيف (Environmental Health Perspective) عام 2017- أن الأبخرة لها تأثير سلبي على الصحة فيها.
ومنذ عام 2016، استوردت فرنسا مليارات الأمتار المكعبة من الغاز الصخري بطريقة تم تقديمها بشكل خاطئ على أنها غاز طبيعي مسال، وبالتالي طاقة “وسيطة” أو حتى “نظيفة”، وتنقلها ناقلات ضخمة من الولايات المتحدة إلى محطات دونكيرك وفوس سور مير ومونتوار دو بريتان، وتزايدت هذه الظاهرة منذ الحرب في أوكرانيا ووقف واردات خطوط الأنابيب من روسيا.
في جحيم أرلينغتون
وفي أرلينغتون -كما يقول المراسل- حيث تتم عمليات الحفر التابعة لشركة الطاقة الفرنسية في قلب الأحياء السكنية رغم المخاطر الصحية الواضحة؛ هناك رابع أكبر وكالة بيئية في الولايات المتحدة، وهي لجنة تكساس لجودة البيئة التي يفترض أنها مستقلة عن صناعات الوقود الأحفوري، وقد سألتها ديسكلوز: هل هناك أي شكاوى مقدمة من السكان ضد عمليات الحفر الخاصة بشركة توتال؟ فأجابت بوجود 27 حالة، إما هي دوخة أو نزيف في الأنف أو صداع، وكلها أعراض تربطها الدراسات العلمية بالتعرض للمواد السامة المنبعثة من حفر الغاز الصخري.
كما اشتكى أحد السكان المحليين في مارس/آذار 2020 من روائح استمرت عدة أشهر سببت له الغثيان والصداع. وفي فبراير/شباط 2022، لاحظ آخر تصاعد دخان أسود من أحد أماكن الحفر، مما تسبب له ولبقية أفراد عائلته في إصابته بتساقط شعر مفاجئ. وبعد شهرين، ذكر شخص ثالث وجود مادة مجهولة في الهواء تقتل النباتات وتسبب مشاكل في الجهاز التنفسي.
وفي أبريل/نيسان 2022، شهدت الممرضة آن ماتيرن بشكل مباشر إحدى هذه الحوادث المتعلقة بشركة توتال إنيرجي، وسمعت ذات ليلة عند منتصف الليل صوت انفجار قوي، وفي الصباح الباكر اكتشفت أن الحي المجاور طوقته الشرطة ورجال الإطفاء، وتقول “كانت رائحة قوية تعم الهواء”.
وشرح لها ضابط شرطة أن “المياه المالحة” ربما تسربت من بئر تابعة لشركة توتال، وقد يشير التعبير إلى خليط الماء والمواد الكيميائية التي يتم حقنها في الصخر لاستخراج الغاز، إلا أن السكان المذعورين تحدثوا عن هطول أمطار زيتية غريبة برائحة البترول، وأبلغ آخرون عن احتراق النباتات بالكامل في بعض الأماكن.
وفي صور لكاميرات المراقبة بأحد المنازل، رأت ديسكلوز بعد يومين من الحادثة فريقا من 4 رجال يرتدون خوذات البناء وملابس مقاومة للماء يقومون بتنظيف الطريق باستخدام منظفات الضغط العالي، وتم تعيينهم من قبل شركة توتال “لتنظيف السائل المتسرب من الحفر في العقارات المعنية”، حسب ما أكدته لجنة تكساس لجودة البيئة.
كما قالت إدارة شركة النفط والغاز إنها تتخذ “الإجراءات اللازمة لترميم المبنى”، وبالفعل عرضت على سبيل التعويض مساعدة مالية على السكان المحليين لتنظيف سياراتهم أو أراضيهم، حسب الصحافة المحلية، كما وعدت الممرضة بإجراء تحاليل للتربة، ولكنها لم تحصل عليها قط.
أطفال ضحايا الحفر
وفي جنوب شرق أرلينغتون، يقول إدغار (سائق شاحنة سابق يعيش هنا مع عائلته منذ نحو 30 عاما) إن زوجته وابنته أصبحتا مؤخرا تعانيان من نزيف متكرر في الأنف وصداع شديد، وهي أعراض تتزامن مع بدء الحفر، كما أصيب حفيداه اللذان يعيشان معهم بالمرض فجأة، و”يقول الأطباء إنها حساسية لكنها تزداد سوءًا، إذ يكاد الطفل (سنة واحدة) يختنق من السعال، وهذا يخيفنا”، ويمكن أن يكون سبب هذه المشاكل هو التدفق الارتجاعي، أي عودة المواد الكيميائية المحقونة في الصخر تحت ضغط مرتفع إلى السطح.
ويحذر روس غامبر (طبيب عام متقاعد يعيش في أرلينغتون) من أن “حالات الربو تتزايد بشكل مثير للقلق، خاصة بين الأطفال”، وهذا ما أكدته العديد من الدراسات العلمية في السنوات الأخيرة، ويدعو هذا الطبيب مجلس مدينة أرلينغتون إلى التوقف عن الموافقة على عمليات الحفر الإضافية، وهو أمر صعب لأن القانون يقيد حق البلديات في رفض الحفر، ما لم يكن ذلك بحجج “معقولة تجاريا”. ومع ذلك رفض مجلس المدينة بتصويت مدوٍّ طلبا من توتال بتصريح إضافي لاستغلال أحد مستودعاتها الواقعة على بعد نحو 100 متر من دار الرعاية النهارية التي تستقبل نحو 100 طفل.
وإذا كان نقص الشفافية في شبكة الغاز الأميركية يحد من إمكانية تتبع الغاز من آبار توتال إنيرجي في تكساس إلى الموانئ الفرنسية، فإن هناك روابط عديدة -حسب التحقيق- أولها رسم بياني أنتجته شركة توتال إنيرجي يفصّل صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية، ويدرج الغاز من منطقة أرلينغتون بوصفه “أصلا للغاز”. وثانيها وجود عقد يشير إلى أن الغاز الذي تنتجه الشركة متعددة الجنسيات في المنطقة نفسها يعهد به إلى شركة النقل ويليامز، وتقوم هذه الأخيرة بتزويد محطات توليد الطاقة في تكساس، وكذلك محطات تصدير الغاز الطبيعي المسال الموجودة في خليج المكسيك.
وقبل الوصول إلى أوروبا، يمر الغاز الأميركي -بما فيه الغاز المنتج في قطاع أرلينغتون بشكل خاص- عبر لويزيانا وأحد أكبر محطات الغاز الطبيعي المسال فيها، وعند سؤالها عن هذه النقطة تؤكد الشركة أن غازها الصخري “لا يتم تصديره بل يتم تسويقه محليا” من قبل الشركات العميلة. في رد ذكي، مع الحرص على عدم تحديد كيفية استخدام الغاز المذكور ومن يقوم به وأين.
وبالإضافة إلى المخاطر الصحية، فإن انفجار الطلب على الغاز الأميركي يتسبب في أضرار بيئية جسيمة، حيث ترى جامعة لويزيانا أن صناعة الغاز الطبيعي المسال في هذه الولاية وحدها سينبعث منها بحلول عام 2026 ما يناهز 55 مليون طن من الغازات الدفيئة، وبالفعل أثر وصول الناقلات العملاقة إلى موانئ لويزيانا، بدءًا من التآكل الساحلي إلى كسر دورة المياه الطبيعية، مع إثارة الرواسب السامة التي تطلقها صناعة النفط والغاز وتخرجها إلى السطح.