في تقريره السنوي فتح معهد “بروكينز” الأميركي نافذة صغيرة على ملف العلاقات المتشابكة بين الدولتين الجارتين أفغانستان وإيران، وركز التقرير على المخاوف المتبادلة بشأن الخلافات الطائفية بين البلدين.
يقول التقرير -استنادا إلى ما وصفها بالمصادر الداخلية في كابل وقندهار- إن حركة طالبان سمحت لطهران بتجنيد الفاطميين من أتباع الطائفة الشيعية في أفغانستان للاستفادة منهم في عمليات محور المقاومة في الشرق الأوسط.
ويتابع أنه مما يثير الاستغراب أن السلطات الإيرانية لديها اتصال قوي مع قيادات حركة طالبان بالرغم من الخصومات الطائفية الطويلة لطهران مع الحركة، والخلافات الموجودة بين الطرفين حول المياه.
ولكن التقرير يضيف أنه من اللافت للنظر أن طهران لم تقم بضرب أهداف داخل أفغانستان بعد عملية تفجيرات مدينة كرمان، وإنما استهدفت مواقع لمليشيات “جيش العدل السنية” في باكستان.
ويبدو أن هذا الملف يثير قلق الحركة، فهي تعتبر نفوذ “لواء فاطميون”، مصدر خطر على الأمن القومي الأفغاني، ففي تعليقه على ما جاء في تقرير معهد “بروكينز” صرح المتحدث الرسمي باسم الإمارة الإسلامية ذبيح الله مجاهد أن ما ورد في التقرير “ليس صحيحا”، مشددا على أن بلاده “لن تسمح لدول أخرى بمثل هذه الأنشطة العسكرية في أفغانستان ولا ندعمها”.
وفي المقابل، يقول الممثل الخاص للرئيس الإيراني وسفيرها في أفغانستان حسن كاظمي قمي إن “إيران تريد من أفغانستان أن تكون عونا إستراتيجيا لها، وإن خلق أي تباعد وخلاف بين البلدين هو مشروع أميركي، وإن أفضل وسيلة لتقوية العلاقات يكون بربطها بالاقتصاد ومشاريع البنى التحتية”.
يضيف قمي “إننا نواجه في أفغانستان مشكلة الإرهاب، (..) كما أننا نواجه المخططات الأميركية”.
في هذا التقرير نسلط الضوء على السمات البارزة التي صبغت العلاقة التاريخية بين البلدين، المرتبطين بحدود برية تمتد لنحو 850 كيلومترا.
علاقات تاريخية
شكل البلدان حتى القرن الـ18 منطقة خراسان التي كانت مسرحا للتحولات السياسية الكبيرة والتطورات الحضارية المهمة منذ دخول الإسلام إليها في وقت مبكر من القرن الأول الهجري.
في التاريخ الحديث، وبعد ظهورهما كدولتين منفصلتين بينهما حدود معترف بها في القرن الـ19 الميلادي قدمت الطرق الدبلوماسية والاتفاقات الرسمية حلولا لأي مشاكل بين البلدين.
وكانت اتفاقية تقسيم مياه نهر “هيرمند” أو “هلمند” في 1973م الموقعة بين الجارتين في عهد آخر ملوك إيران محمد رضا شاه وآخر ملوك أفغانستان محمد ظاهر شاه مثالا لإدارة الخلاف بين البلدين.
الانقلاب والثورة
بعد حدوث الانقلاب العسكري الشيوعي في أفغانستان في 1978، واحتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي، الذي تزامن نسبيا مع الثورة الإسلامية بقيادة الخميني في إيران عام 1979، شهدت العلاقات بين البلدين تحولات جذرية.
فمن ناحية كانت الثورة الإيرانية ذات طابع إسلامي شيعي مناهض للشيوعية، كان الانقلاب العسكري في الجهة الأخرى في أفغانستان ذو سمة ماركسية يقوده الشيوعيون الذين كانوا يرون في الثورة الإيرانية “حركة رجعية حسب مقاييس الماركسية اللينينية”.
ومع بدء الجهاد الأفغاني، أيدت حكومة إيران بعد الثورة المجاهدين، بينما احتضنت حكومة حزب الشعب الديمقراطي في كابل قيادات الحزب الشيوعي الإيراني وغيرها من المعارضين للخميني والثورة في إيران، وكان ذلك بداية توتر العلاقات بين كابل وطهران وإيذانا ببدء مرحلة جديدة في التعامل بين البلدين.
ومع احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان عام 1979 استمرت إيران في سياستها الداعمة للمجاهدين الأفغان، واستقبلت المهاجرين منهم، وقد سمحت بتشكيل منظمات أفغانية شيعية أمثال منظمة النصر، والحركة الإسلامية وحراس الثورة الإسلامية، بل وقامت بتمويلها وتسليحها.
كما احتفظت بعلاقاتها مع منظمات المجاهدين من أهل السنة مثل الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية، وغيرهما.
وبعد حرب الخليج الأولى التي انتهت عام 1988، ترأس علي أكبر هاشمي رفسنجاني الحكم في إيران، ومن هنا شهدت السياسة الإيرانية تجاه أفغانستان تحولا مهما.
فقد توطدت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وإيران، ومن ثم فتحت طهران قنوات اتصال مع الحكومة الموالية للسوفيات في كابل في عهد الرئيس الأفغاني الأسبق نجيب الله، تبنت طهران وقتها سياسة مزدوجة تجاه أفغانستان، وهي مستمرة حتى اليوم.
ووفقا لهذه الإستراتيجية، دعمت طهران من طرف فصائل المجاهدين الأفغان، خاصة الشيعية، مقابل ولائهم لها، ومن طرف آخر كان لها علاقات مع النظام الشيوعي الحاكم في كابل، بالإضافة إلى استمرار العلاقات التجارية بين البلدين.
وبموازاة ذلك، أخذت طهران تتوسع في بسط دائرة نفوذها في أفغانستان فكريا واجتماعيا وعسكريا من خلال إنشاء ودعم المنظمات والمؤسسات الشيعية داخل البلاد وأيضا بين المهاجرين خارجها، خاصة بين عرقية الهزارة.
وكان لطهران دور كبير في تجميع المنظمات الأفغانية الشيعية تحت مظلة حزب الوحدة بقيادة عبد العلي مزاري عام 1989، والذي برز كلاعب مهم في الأحداث والتطورات التي شهدتها أفغانستان بعد ذلك حتى الغزو الأميركي عام 2002.
وقد أيدت طهران حزب الوحدة الشيعي في قتاله ضد حكومة المجاهدين بقيادة الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني، وفي الوقت نفسه لم تقطع صلتها بتلك الحكومة ودعمها أحيانا، مما يعكس استمرارها في سياستها المزدوجة.
العلاقات في عهد طالبان الأول
شهدت علاقات طهران مع طالبان خلال فترة حكمها الأول توترا شديدا، وتعد تصفية كابل من مقاتلي حزب الوحدة الشيعي من قبل طالبان أحد المواقف التي تعكس تلك العلاقة.
ومن ثم أيضا القبض على زعيم الحزب الموالي لطهران عبد العلي مزاري وقتله في ظروف غامضة أثناء نقله بطائرة مروحية تابعة لحكومة طالبان إلى قندهار في 15 مارس/آذار 1995م.
كما أن حادث الهجوم على القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف الأفغانية ومقتل 9 من الدبلوماسيين الإيرانيين العاملين فيها عام 1998، والذي تتهم طهران طالبان بارتكابه، كاد أن يؤدي إلى الحرب بين البلدين، حيث قامت إيران بتحريك قواتها العسكرية إلى المناطق الحدودية مع أفغانستان.
الغزو الأميركي لأفغانستان والنفوذ الإيراني
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، دعمت طهران الغزو الأميركي لأفغانستان ومرحبة بإسقاط حكومة طالبان، وشاركت بقوة في مؤتمر “بون” الذي تمخض عن قيام حكومة أفغانية جديدة بقيادة الرئيس حامد كرزاي.
وطيلة السنوات العشرين للاحتلال الأميركي لأفغانستان، حافظت طهران على علاقات قريبة جدا مع الحكومة الأفغانية التي كانت للأحزاب والشخصيات الشيعية الموالية لها حضور قوي، سواء في تركيب الحكومة كوزراء وأحد نائبي رئيس الجمهورية، أو في الجيش والاستخبارات والأمن.
كما أن الدستور الأفغاني المعد في ظل الوجود الأميركي اعترف لأول مرة بالمذهب الشيعي الاثني عشري كمذهب رسمي في أفغانستان، وأقر البرلمان الأفغاني قانون الأحوال الشخصية وفق الفقه الشيعي الجعفري.
كما صارت للأقلية الشيعية مؤسساتها التعليمية والإعلامية والاجتماعية والدينية، وتعددت أحزابها السياسية، وهو ما يعتبره الباحث الإيراني مير أحمد رضا مشرف “الفترة الذهبية للشيعة في أفغانستان” بسبب “قبول الماهية الوجودية للشيعة في النظام السياسي والقضائي في أفغانستان”.
وفي حوار مع صحيفة واشنطن بوست الأميركية، وصف سيد محمد عالمي البلخي، الوزير في حكومة الرئيس السابق أشرف غني، وضع الأقلية الشيعية في أفغانستان إبان الاحتلال الأميركي بأنه “هو الأفضل والأحسن على مر التاريخ كله”.
وقد بلغ نفوذ طهران في أفغانستان إلى درجة أن الحكومة الإيرانية كانت تدفع جزءا من نفقات مكتب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، بحسب اعتراف محمد عمر داؤدزي رئيس مكتب رئيس الجمهورية آنذاك.
إيران وحركة طالبان
واستمرارا لإستراتيجتها المزدوجة ومع الحفاظ على علاقاتها المتينة والقريبة مع حكومة كابل، أنشأت إيران علاقات مع حركة طالبان التي كانت تقاتل القوات الأميركية والحكومة الأفغانية.
وتشير تقارير إعلامية عن توفير طهران الدعم اللوجيستي والأسلحة لمجموعات من مقاتلي طالبان خاصة في الولايات الأفغانية المتاخمة لإيران مثل “نيمروز” و”فراه” و”هلمند”.
وكان الزعيم الثاني لحركة طالبان الملا أختر محمد منصور قتل عام 2016 إثر تعرض سيارته لإطلاق صاروخ من مسيرات أميركية في إقليم بلوشستان الباكستانية أثناء عودته من إيران، وتعليقا على ذلك، نشرت صحيفة التايمز البريطانية في يوليو/تموز 2018 تقريرا بعنوان “أفضل مقاتلي طالبان يجري تدريبهم في إيران”.
وأضاف كاتب التقرير أنتوني لويد أن ثمة نفوذا لطهران يتنامى في أفغانستان مع تصاعد التوتر في علاقاتها مع واشنطن، وأشار التقرير إلى أن “المئات من مقاتلي طالبان يتلقون تدريبا متقدما على أيدي مدربي القوات الخاصة في الأكاديميات العسكرية الإيرانية”.
وكشفت طهران عن زيارة قام بها وفد من حركة طالبان برئاسة رئيس مكتبها السياسي الملا عبد الغني برادر إلى إيران في 2019، وتكررت الزيارة ثانية عام 2021، وذلك بعد عام تقريبا من توقيع اتفاق الدوحة الذي ينص على انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.
عودة طالبان من جديد للحكومة
رحبت طهران بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في نهاية أغسطس/آب 2021، على الرغم من عدم اعتراف إيران الرسمي بحكومة طالبان، فإن علاقاتها كانت جيدة مع حكومة تصريف الأعمال التي شكلتها الحركة.
وجاءت الزيارة الأخيرة للملا عبد الغني برادر نائب رئيس الوزراء في حكومة إمارة أفغانستان الإسلامية إلى طهران في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2023 على رأس وفد كبير محطة مهمة في العلاقات بين البلدين، توجت تلك الزيارة بتوقيع 5 اتفاقيات اقتصادية.
من ناحية أخرى، تشير تقارير إلى أن إيران تؤوي معارضين لطالبان على أراضيها، وتسمح بفتح مكاتب لهم في مدن مثل طهران ومشهد.
وبشأن هذا الأمر، يقول المراقبون إن “سياسة طهران تجاه أفغانستان تتسم بالبراغماتية والواقعية واقتناص الفرص، وتهدف إلى حفظ المصالح الإيرانية والحفاظ على أمنها القومي”.
وبحسب الباحث الأفغاني محمد خالد مصعب، فإن السياسة الإيرانية في أفغانستان اتسمت بالثبات في الأهداف، والمرونة في التنفيذ والتطبيق حسب تطورات الأوضاع الداخلية في أفغانستان والمنطقة والعالم.
من جانبه، يقول الممثل الخاص للرئيس الإيراني وسفيرها في أفغانستان إن “سوء الأوضاع الاقتصادية في أفغانستان يؤدي إلى تدفق مزيد من اللاجئين الأفغان إلى إيران، ويزيد الفقر في أفغانستان من فرص تنظيم الدولة في تجنيد الشباب إلى صفوفه، وهذا شيء لا تريده إيران ولا طالبان”.
وترى كل من طهران وكابل أن التوتر في العلاقات لا يخدم أيا من البلدين، فثمة مصالح متبادلة بين الطرفين، فأفغانستان تعتبر أحد أكبر الأسواق للمنتوجات الإيرانية، كما أن جزءا من العملة الصعبة التي تحتاجها إيران تصل إليها عبرها.
وكانت وكالة ” إيسنا” الإخبارية الإيرانية قد أعلنت في وقت سابق أن حجم الصادرات الإيرانية إلى أفغانستان في عام 2022 بلغ 1.6 مليار دولار.
وفي تصريح له لوكالة ” إيرنا ” الإيراني يقول عبد السلام جواد المتحدث الرسمي باسم وزارة التجارة الأفغانية إن حجم التبادل التجاري بين أفغانستان وإيران في العام الماضي وصل إلى مليارين و992 مليون دولار.
في مواجهة إسرائيل
ومن المشتركات التي تجمع طهران بحكومة أفغانستان التصدي لتنظيم الدولة، الذي يعتبر عدوا مشتركا لهما، وتعول إيران كثيرا على طالبان في ضرب التنظيم وتفكيكه داخل الأراضي الأفغانية.
من ناحية أخرى، أعلنت حكومة تصريف الأعمال في أفغانستان دعمها للرد الإيراني العسكري على إسرائيل، والتنديد بهجوم المسيرات الإسرائيلية على أصفهان.
ومن جانبه، نفى سيد حسين مرتضوي نائب السفير الإيراني في كابل في 15 أبريل/نيسان 2024 أن بلاده “لا تسمح بأي نشاط سياسي للمعارضة الأفغانية داخل الأراضي الإيرانية”، كما شكر السفير حكومة طالبان على توفير جزء من حصة إيران في مياه نهر هلمند.
مشكلة المياه والاشتباكات والجدار
تثير مشكلة المياه بين البلدين شكوى إيران، التي تقول إنها لا تحصل على كامل حصتها من مياه نهر هلمند، لتبقى القضية مصدرا آخر لتوتر العلاقات بين البلدين.
كما أن تصاعد الاشتباكات بين قوات حرس الحدود الإيرانية والأفغانية، الذي أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من الطرفين، كان سببا في تعالي الدعوات الإيرانية المطالبة بإنشاء جدار على الحدود المشتركة بين البلدين.
وبشأن هذا، قال المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد إنه “لا ينبغي لأي بلد -من بينها الجمهورية الإسلامية الإيرانية- أن يخاف من أفغانستان، لأنها بلد الأمن والاستقرار”.
وبحسب وكالة إرنا الرسمية، أشار قائد القوات البرية في الجيش الإيراني كيومرث حيدري إلى أن هذا الإجراء متعارف عليه في سياق تعزيز الأمن لدى جميع البلدان، ولا يحق لأحد أن يحتج على ذلك.
ليطرح التساؤل هل يمكن أن يكون الجدار بداية للحد من التوترات بين البلدين، ورسم طريق لمستقبل مختلف عن ماضيه؟