شكلت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس حسما بين مسارين، حاولت الحركة الجمع بينهما، وهما المقاومة وتولي المسؤولية عن إعاشة سكان غزة.
فقد جعل الاحتلال الاحتياجات الإنسانية لأهل القطاع أداة ابتزاز سياسي مستدامة، وهو ما حاولت الحركة الخروج منه من خلال جولات التصعيد والحروب المتتالية ومسيرات العودة ومساعي المصالحة الوطنية، إلا أن أيا من هذه المسارات لم ينجح في إخراج المقاومة وقطاع غزة من هذا المأزق.
فجاء طوفان الأقصى ليفتح مواجهة شاملة مع الاحتلال، ويحمله مسؤولية تبعات احتلاله وحصاره، على ما في ذلك من تضحيات كبرى.
الحكم والمقاومة
وفر حكم القطاع فرصة لبناء القوة العسكرية والأمنية والمدنية لحركة حماس وفصائل المقاومة، إلا أنه رتب عليها قيودا في استخدام هذه القوة.
فالحكم المدني تترتب عليه مسؤولية توفير الهدوء والأمن للسكان، وهذا مطلب يتناقض مع ضرورة مقاومة الاحتلال ورفع كلفته وصولا إلى إزالته، إذ أن الهدوء تحت ظل الاحتلال يعني إطالة أمد الاحتلال وتعزيز قوته.
كما أن توفير المتطلبات المعيشية من غذاء ودواء وحرية الحركة كان على مدار 17 عاما مرهونا بالقرار السياسي للاحتلال، ويدار على أساس مساومة المقاومة على الهدوء وتقديم التنازلات السياسية.
ودفعت هذه الظروف المقاومة إلى الاصطفاف خلف منظمة التحرير والقبول بالاتفاقيات التي وقعت عليها، وهو ما يعد انتحارا سياسيا لحركة حماس في حال فعلته، وتقويضا لمبرر وجودها، وإدانة لتاريخها المقاوم والمناوئ لمسار التسوية السياسية القائم على اتفاقية أوسلو.
السياسة الإسرائيلية
اعتمدت حكومات الاحتلال المتعاقبة سياسة استنزاف وإخضاع طويلة المدى للقطاع، إذ أدامت حصاره، وحرصت على إبقائه ضعيفا اقتصاديا، وجعلت من أي عمل مقاوم يخرج منه ذريعة لتشديد الحصار، وهذا ما أوصله إلى حافة الانفجار الاجتماعي مرات عديدة، بفعل الحالة الاقتصادية الخانقة.
وراهن الاحتلال لسنوات عديدة على أن هذه السياسات ستدفع أهل القطاع إلى الثورة على حكم حماس، وهو ما يضعف وضعها الميداني والسياسي ويدفعها إلى التنازل عن بعض ثوابتها أو كلها.
وفي ذات السياق؛ فقد كانت فترات الهدوء في ظل استمرار الحصار تؤدي إلى تآكل شرعية حركة حماس، بفعل اضطرارها إلى منع بقية الفصائل من الاشتباك مع الاحتلال، دون أن تشعر هذه الفصائل وعموم السكان بجدوى الهدوء في ظل استمرار الحصار الخانق والاعتداءات الإسرائيلية في الضفة والقدس والانتهاكات بحق الأسرى.
محاولات الخروج من المأزق
وفي مواجهة هذه السياسة الإسرائيلية لجأت حركة حماس مرات عديدة إلى التصعيد العسكري الهادف إلى كسر الحصار، وكانت عناوين هذا الملف حاضرة في مفاوضات إنهاء مختلف الحروب السابقة، إلا أن البيئة السياسية الإقليمية والدولية لم تساعد على كسر الحصار، خصوصا في ظل التوافق الإسرائيلي على إدامته.
وكانت سلطات الاحتلال تعود عن التفاهمات أو تمتنع عن تطبيق بعضها، في حين تستنزف الحرب مقدرات القطاع دون القدرة على ترميمها بشكل كامل، وهو ما يراكم أعباء الحروب واحدة تلو الأخرى.
وفي ضوء هذا الانسداد جاءت فكرة مسيرات العودة، باعتبارها فعلا مدنيا، يضغط على الاحتلال بدون إعطائه مبررا لشن حرب شاملة، وبالفعل بدأت المسيرات منذ مارس/آذار 2018 وحتى نهاية عام 2019.
وتظاهر عشرات الآلاف من أهل القطاع بشكل أسبوعي على الحدود، واخترقوا الحدود باتجاه أراضيهم المحتلة عام 48 عدة مرات، إلا أن الكلفة البشرية لهذه المسيرات كانت باهظة، إذ أسفرت عن سقوط 215 شهيدا وما يزيد عن 19 ألف مصاب، ولم تفلح في كسر الحصار، بل اكتفى الاحتلال بتسهيلات جزئية يمكنه أن يتراجع عنها في أي وقت، وهذا ما حصل.
وبالتوازي مع هذه المسارات، قادت الحركة ما يمكن تسميته بـ”هجوم المصالحة” مع حركة فتح، وقدمت بموجبه تنازلات متتالية في مجال الحكم؛ منذ اتفاق الشاطئ عام 2014، الذي تنازلت بموجبه فعليا عن رئاسة الحكومة.
وأعقب ذلك جولات عديدة تنازلت فيها عن أمور منها إدارة معابر القطاع، وعن شرطها التقليدي بتزامن انتخابات السلطة مع انتخابات منظمة التحرير، وكان ذلك خلال اتفاق إسطنبول عام 2020.
وعلى الرغم من ذلك فقد اصطدم هذا المسار في نهاية الأمر باشتراط الرئيس محمود عباس أن تعترف حماس بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة قبل إجراء المصالحة، وهذا يعني في حال حصوله إقرار حماس بخطأ مسيرتها منذ نشأتها، وتنازل منها عن أكثر من 3 أرباع فلسطين، وهذا يعني انتفاء مبرر وجودها وتقويض أساس اجتماع كوادرها وأنصارها.
مساع ومبادرات
وسعت أطراف دولية وإقليمية عديدة إلى جذب الحركة إلى هذا المربع بالتدريج، من خلال مطالبتها بقبول دولة على حدود الأراضي المحتلة عام 1967، والضغط عليها للتصالح مع حركة فتح ودخول منظمة التحرير، وقبول المبادرة العربية والقرارات الدولية التي تعترف بشرعية قيام دولة الاحتلال على الأراضي المحتلة عام 48.
وناورت الحركة في التعامل مع كل ذلك، مع محاولة عدم التورط في تقويض ثوابتها التي قامت عليها، وهي الحفاظ على كامل أرض فلسطين بما فيها من مقدسات، وعودة اللاجئين إليها، فكان أن شكلت الحكومة الفلسطينية الـ11 عام 2007 بالشراكة مع حركة فتح وسواها من فصائل على أساس إقامة دولة فلسطينية على أراضي الـ67، دون الإشارة إلى الاعتراف بدولة الاحتلال.
تبع ذلك، إصدار وثيقة سياسية عام 2017 نصت على أنها “تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة” مع رفضها “أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا، من نهرها إلى بحرها”.
إلا أن الضغوط من مختلف الأطراف استمرت، إذ جعل كثير من الدول المصالحة مع حركة فتح بوابة للتعامل مع حركة حماس، في حين ترفع حركة فتح في وجهها شرط الاعتراف بدولة الاحتلال ونبذ المقاومة المسلحة.
وبعد قرابة عقدين من هذه المراوحة جاء قرار طوفان الأقصى ليحسم الخيار باتجاه الاشتباك الشامل مع الاحتلال، ووظفت المقاومة كل ما راكمته من قوة خلال سنين حكمها لتضرب به الاحتلال وتوقع به أكبر ألم ممكن.
غيّر ذلك في بيئة الصراع، وجعل خيار احتواء الحركة والتعايش معها غير وارد لدى الاحتلال، بل إن القرار لدى حكومة الاحتلال وجيشها هو خوض حرب وجودية مع حماس، تهدف إلى اقتلاعها أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة.
المسار المستقبلي لحماس
في ضوء هذه المعطيات تبدو محاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإحياء عملية تسوية سياسية وإدماج حركة حماس فيها أمرا بعيد المنال، فحل الدولتين لم يعد حلا ممكنا، بفعل تطرف الاحتلال وما فرضه من وقائع في الضفة والقدس؛ كالاستيطان والجدار العازل.
كما أنه من المستبعد أن يكون الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده وفصائله المقاومة على استعداد لتقديم تنازلات تمس جوهر قضيتهم بعد أن قدموا هذا القدر من التضحيات وبعد أن اتضح مقدار وحشية وإجرام الاحتلال أمامهم وأمام العالم، وهو ما سيحفز أجيالا قادمة من المقاومين للاحتلال على امتداد المنطقة والعالم.
وفي هذا السياق فلا يبدو أن أي تصريحات تصدر عن المقاومة أو تنسب لها بشأن القبول بالقرارات الدولية أساسا لتسوية الصراع تعبر عن موقف أصيل للمقاومة، بل هي، على ما فيها من إضرار بموقفها وتماسك قواعدها، لا تعدو محاولات لتخفيف حدة الهجمة السياسية والعسكرية عليها وعلى القطاع. وتجدر الإشارة إلى صدور تصريحات لاحقة تؤكد على تمسك الحركة بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
وبالتالي فإن المسار السياسي الذي ستسير فيه حركة حماس سيكون غالبا أقرب إلى المسار الذي انطلقت فيه لدى نشأتها، وهو خوض حرب وجودية مع الاحتلال، والإصرار على رفض شرعية وجوده بالأساس، وهو الموقف الذي اكتسب زخما عالميا بفعل أشهر الحرب.
وسيكون لهذا المسار انعكاس على طبيعة العلاقات السياسية للحركة، إذ ستتوثق على الأرجح صلتها بالأطراف التي يمكن أن تحتمل هذا السقف السياسي من المواجهة مع الاحتلال، ولا سيما من يستطيع منها أن يشارك مباشرة في المواجهة مع الاحتلال، أو تقديم الدعم العسكري والاقتصادي والغطاء السياسي لمواجهة كهذه.
وعلى الأرجح فإن هذا الدعم سيزداد؛ بفعل اتضاح جدية وفعالية الحركة في الاشتباك مع الاحتلال ورفع كلفته وإعاقة مساعيه للهيمنة الإقليمية ووأد القضية الفلسطينية.
شعبية الحركة
كما سيكون لارتفاع شعبية حماس، وانخفاض شعبية السلطة الفلسطينية، ولدور أجهزة السلطة في تحييد الضفة الغربية عن الاشتراك في المواجهة مع الاحتلال دور في دفع حركة حماس إلى إدامة إستراتيجية تثوير الضفة والقدس، كما سيكون من الصعب عليها التقارب مع رئيس السلطة أو التيار الذي يقود التنسيق المدني والأمني مع الاحتلال فيها.
وفي ذات الوقت فإن المقدار الهائل من الشهداء والجرحى والدمار، والموقف الدولي المتشدد من الحركة، سيدفعها إلى تجنب الانفراد بحكم القطاع حتى لو كان هذا الخيار متاحا.
وستعمد الحركة -على الأغلب- إلى الحضور الجزئي في أي ترتيبات سياسية لمستقبل القطاع، بما لا يحملها المسؤولية الأساسية عن إعاشة الشعب من جهة، وبما يعيق تحول أي سلطة في القطاع إلى طرف معاد للمقاومة أو تابع للأجندة السياسية للاحتلال أو للإدارة الأميركية أو أي دول إقليمية.
والمحدد الأساس لترجيح هذا الاتجاه في مسار الحركة من عدمه هو استمرارها في مقاومة الاحتلال والاشتباك معه، بصرف النظر عن حجم الضرر الذي يلحقه الاحتلال ببنيتها العسكرية والمدنية.
وهذا هو الاتجاه المرجح؛ بفعل الأساس الفكري للحركة، والذي تعززه مفاعيل المعركة، من جرائم الاحتلال ودلائل وحشيته وتطرفه، وهو ما يجعل نجاح مشاريع التسوية السياسية معه أبعد في كل يوم جديد.