باريس- بعد حوالي أسبوعين من أعمال الشغب والمظاهرات العنيفة في كاليدونيا الجديدة، تم، أمس الثلاثاء، رفع حالة الطوارئ التي فُرضت في 15 مايو/أيار الجاري، لكن حظر التجول لا يزال ساريا وأكد قصر الإليزيه تعزيز حوالي 480 من رجال الدرك المتنقلين.
وشهدت هذه الأراضي الفرنسية المكونة من عدة جزر في المحيط الهادي أزمة جديدة وعميقة أدت إلى إغلاق الشوارع ونهب المحلات التجارية وتفحم السيارات لأكثر من أسبوع، وأعادت إلى الذاكرة مسألة الاستقلال.
وبدأت شرارة هذا الاضطراب الأمني الذي وصلت أصداؤه إلى باريس، عندما كانت الجمعية الوطنية الفرنسية على وشك اتخاذ قرار بشأن تعديل دستوري ينص على إصلاح الهيئة الانتخابية التي يتنافس عليها الانفصاليون بشدّة، والذي قوبل برفض شديد اللهجة من أغلبية شعب “الكاناك” الأصلي الذي يمثل قرابة 40% من السكان.
وبعد مرور أكثر من 25 عاما على “اتفاق نوميا”، وفي مواجهة مستقبل مؤسسي غير واضح الملامح بعد الاستفتاء الثالث الذي أُجري في 12 ديسمبر/كانون الأول 2021، تعرض الجزيرة نت بعض التفسيرات لفهم أسباب اندلاع هذه الأزمة.
-
ما الوضع الحالي لكاليدونيا الجديد؟
يستفيد هذا الأرخبيل من وضع مؤقت مسجّل في الباب الـ13 من دستور الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 1958، وبعد المراجعة الدستورية في 20 يوليو/تموز 1998، التي تسمح بـ”النقل التدريجي” للسلطات من الدولة الفرنسية إلى مؤسسات كاليدونيا الجديدة.
وقد كانت كاليدونيا الجديدة مستعمرة فرنسية منذ عام 1853، ثم أصبحت إقليما ما وراء البحار في عام 1946.
وبعد وقوع اشتباكات بين الانفصاليين والموالين في ثمانينيات القرن الماضي، تم إبرام “اتفاقيات ماتينوين” في عام 1988 بين الحكومة الفرنسية ووفدي الاستقلال والموالين الراغبين في البقاء تحت عباءة الجمهورية الفرنسية، على عملية تقرير المصير لكاليدونيا الجديدة.
ماذا يعني اتفاق نوميا الموقع في 5 مايو/أيار 1998؟
يعزز هذا الاتفاق عملية تقرير المصير من خلال إنشاء إطار سياسي وقانوني لكاليدونيا الجديدة، وهو صالح لمدة 20 عاما. وينص على منح صلاحيات عديدة للإقليم وإنشاء مؤسسات جديدة وتنظيم إدارة الموارد الطبيعية ووضع قواعد محددة للانتخابات المحلية.
كما ينص على التشاور مع السكان بشأن مستقبل كاليدونيا الجديدة في موعد لا يتجاوز عام 2018. وفي حالة الرفض، يتم إجراء مشاورتين أخريين للاستفتاء في السنوات التالية.
وفي 3 مناسبات، مُنح سكان كاليدونيا الجديدة حق الاستفتاء للإجابة عن سؤال “هل تريدون الحصول على السيادة الكاملة وأن تصبح البلاد مستقلة؟”.
وفي عام 2018، كانت الإجابة “لا” بنسبة تتجاوز 56%. وفي سنة 2020، بلغت نسبة التصويت بـ”لا” أكثر من 53%. وأخيرا، في عام 2021، حصل التصويت بـ”لا” على 96% بنسبة مشاركة لم تتجاوز 45%.
وبعد عامين من الجمود السياسي، استأنفت السلطة التنفيذية المناقشات بشأن المستقبل المؤسسي لكاليدونيا الجديدة. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022، دعت رئيسة الوزراء الفرنسية السابقة إليزابيث بورن المسؤولين المنتخبين المستقلين وغير المستقلين إلى ماتينيون في باريس، من أجل بدء دورة جديدة من المناقشات.
ووفق ما ورد في تقرير مجلس الشيوخ آنذاك، “يجب أن تكون فرنسا جهة فاعلة ومحايدة في هذه العملية للحفاظ على توازن المناقشات”.
ماذا يقدم الإصلاح الدستوري الجديد المثير للجدل؟
بعد تجميد الناخبين في كاليدونيا الجديدة لاتفاق نوميا، أصبح حق التصويت في انتخابات المقاطعة أو الاستفتاءات في الأرخبيل مخصصا للأشخاص الحاملين لجنسية كاليدونيا الجديدة حصرا. فعلى سبيل المثال، يجب أن يكون الشخص مقيما هناك بين عامي 1988 و1998 وأن يكون ابنا لأحد الوالدين -الذي كان مقيما في هذه الفترة- للمشاركة في الاقتراع.
وتهدف هذه الإجراءات إلى الحفاظ على تمثيل أفضل للسكان الأصليين “الكاناك”، لكن في المقابل، يُحرم نحو واحد من كل 5 مواطنين من حق التصويت في الإقليم.
وجاء الإصلاح الدستوري الذي قدمته الحكومة في يناير/كانون الثاني الماضي لفك جمود الهيئة الانتخابية وفتح باب الانتخابات أمام المقيمين الذي عاشوا في كاليدونيا الجديدة لمدة 10 سنوات على الأقل، اعتبارا من الأول من يوليو/تموز 2024.
ووفقا لتقرير مجلس الشيوخ الفرنسي، سيزيد هذا الإصلاح من تكوين الهيئة الانتخابية بنسبة 14.5%، مما يعني إضافة أصوات 12 ألفا و441 مواطنا، فضلا عن أصوات 13 ألفا و400 مواطن فرنسي يعيشون هناك، من أصل 42 ألفا و596 ساكنا مستبعدين حاليا.
وقد تمت الموافقة على النص من قبل المجلس في الثاني من أبريل/نيسان الماضي والجمعية الوطنية في 13 مايو/أيار الجاري، ولا يزال يتعين الحصول على موافقة البرلمان الفرنسي في اجتماعه بفرساي حتى يتم اعتماده بشكل نهائي، ما لم يتم الاتفاق على نص نهائي بين الانفصاليين والموالين مسبقا.
ما أسباب معارضة الانفصاليين لهذا الإصلاح؟
في حين يحاول الزعماء السياسيون التوصل إلى اتفاق لتحسين وضع هذه المنطقة بعد إجراء 3 استفتاءات لتقرير المصير انتصر فيها “لا للاستقلال”، يأتي هذا الإصلاح الدستوري المقترح من فرنسا في سياق توترات قوية بين المؤيدين والمعارضين لاستقلال الأرخبيل.
ويرى الانفصاليون أن الحكومة الفرنسية قررت نص الإصلاح “بشكل منفرد” وأنه إذا كانت مسألة المواطنة في كاليدونيا الجديدة يحكمها الدستور، فسيكون من الصعب تغيير توازن القوى بين الطوائف في المستقبل.
وفي هذا السياق، استنكر السيناتور عن استقلال “الكاناك” روبرت زاوي -في مقابلة لصحيفة “لوموند”ـ خطوة الحكومة الفرنسية “لأنها قررت بمفردها باسم الديمقراطية من سيكون مواطنا كاليدونيا، وهو تغيير وحشي في الأسلوب”.
من المسؤول عن أعمال العنف وكيف ردت الحكومة الفرنسية؟
استهدف وزير الداخلية وأقاليم ما وراء البحار الفرنسي جيرالد دارمانان تحديدا- وحدة تنسيق العمل الميداني، وهي الجماعة الأكثر راديكالية في جبهة تحرير الكاناك الاشتراكية، ووصفها بـ”المافيا والمنظمة غير السياسية التي ترتكب أعمال النهب والقتل”.
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “حالة الطوارئ في كاليدونيا الجديدة” ودخلت حيز التنفيذ مساء الأربعاء 15 مايو/أيار الحالي. كما أمر بنشر الجيش لتأمين المطار والموانئ وفرض حظر التجول الليلي في العاصمة نوميا.
من جانبه، أعلن رئيس الوزراء غابرييل أتال حظر منصة “تيك توك” في الأرخبيل، ونشر “تعميما جنائيا لضمان أشد العقوبات ضد من وصفهم بـ”مثيري الشغب واللصوص”.
ما أسباب وتداعيات إخلاء بعض الفرنسيين؟
بدأت عملية إخلاء السياح الفرنسيين الذين تقطعت بهم السبل في كاليدونيا الجديدة منذ بدء أعمال الشغب يوم السبت 25 مايو/أيار الجاري بعد إغلاق مطار “لا تونتوتا” الدولي منذ 14 من الشهر نفسه وإلغاء جميع الرحلات التجارية منذ ذلك الحين، حسبما أعلنت المفوضية العليا للجمهورية في الأرخبيل.
ووصلت أول دفعة من السياح الفرنسيين الذين تم إخلاؤهم على متن طائرة عسكرية متجهة إلى أستراليا ونيوزيلندا من مطار ماجينتا في نوميا، يوم الأحد الماضي، إلى مطار شارل ديغول في باريس بعد رحلة استغرقت نحو 40 ساعة.
ومع تمكن 1630 سائحا فرنسيا وأجنبيا من العودة إلى بلد إقامتهم، لا يزال العديد من سكان العاصمة الكاليدونية الفرنسيين عالقين، مما أدى إلى تزايد الشعور بالتخلي والانتقادات على منصات التواصل.
وفي بيان صحفي صدر اليوم الأربعاء، أوضحت المفوضية العليا للجمهورية في الأرخبيل وجود “قيود تشغيلية” لدعم مغادرة السياح وعودة سكان كاليدونيا الجديدة.
ومن بين العقبات التي تعترض تقدم عمليات الإخلاء، ذكرت المفوضية “أوقات الاستقبال المحدود للجمهور المدني (بين الساعة 6 صباحا و6 مساء)، والقيود المرتبطة بالتزود بالوقود وتجهيز البضائع مثل الأمتعة والأدوية التي تتطلب استخدام الطائرات العسكرية.
ما دور أذربيجان والصين في أزمة كاليدونيا الجديدة؟
وبينما كانت كاليدونيا الجديدة في قبضة أعمال شغب مميتة، اتهم وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه أذربيجان “بالنفخ على الجمر”، معتبرا أن هذه الدولة الموالية لروسيا أظهرت دعمها لتعبئة الانفصاليين لتأجيج الأزمة، وفق وصفه.
وقد كشف تحقيق لإذاعة فرنسا عن صور لمظاهرة مؤيدة للاستقلال في نوميا يوم 28 مارس/آذار الماضي، ظهرت فيها أعلام أذربيجان ولافتة مكتوب عليها “بوتين، مرحبا بك في كاناكي” و”أذربيجان تعتمد على الانفصاليين في جميع أقاليم ما وراء البحار”.
ويفسر محللون سياسيون دعم أذربيجان لقضية الاستقلال بالدعم الفرنسي لأرمينيا ضد أذربيجان في الصراع بين البلدين.
وهو تفسير يتماشى مع تصريح وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أمام لجنة القانون بالجمعية الوطنية في أبريل/نيسان الماضي، قائلا إن “أذربيجان تحاول استخدام قضية كاليدونيا الجديدة للرد على الدفاع عن الأرمن والمذبحة التي تعرضوا لها على يد القوة الأذربيجانية”.
وفي تحليل منفصل، تظهر المصالح الصينية أيضا على ساحة هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية. ففي حال حصول الأرخبيل على استقلاله من فرنسا، ستسعى الصين إلى استغلال مناجم معدن “النيكل” الثمين، فضلا عن الموارد البحرية التي تتمتع بها المنطقة.
وفي تحقيق آخر لإذاعة فرنسا، تم الكشف عن الروابط الوثيقة بين الجانبين من خلال رابطة الصداقة الصينية-كالدونيا. وأشارت وحدة التحقيق إلى أن “السلطات المحلية في كاليدونيا الجديدة تلقت العديد من المقترحات الصينية لمشاريع سياحية واقتصادية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك التركيز على استغلال النيكل”.
هل سيتم تمديد حالة الطوارئ؟
ورغم أن التوترات في كاليدونيا الجديدة لم تنطفئ بعد، فإن الرئيس الفرنسي أعلن، الأحد الماضي، أن حالة الطوارئ لن يتم تمديدها في الوقت الحالي، مع إبقاء حظر التجول ساري المفعول وإرسال 7 وحدات من الدرك المتنقل (480 فردا) إلى الموقع.
ورغم تأكيد ماكرون -في بيان صحفي- أن “رفع الحواجز هو الشرط الضروري لبدء مفاوضات ملموسة وجادة”، لا تزال الأوضاع الأمنية مضطربة في بعض البلدات والأحياء.
كما أعطى الرئيس الفرنسي مهلة حتى نهاية يونيو/حزيران القادم للمسؤولين المنتخبين والقادة السياسيين في الأرخبيل، بمساعدة “بعثة وساطة” مؤلفة من 3 مسؤولين كبار تم إرسالهم من باريس، للتوصل إلى “اتفاق نهائي” يمكن عرضه على تصويت مواطني كاليدونيا الجديدة.